-
أسامة نجاتي سدر
وقف جعفر خلف الباب يرقب أعمامه محمد صلى الله عليه وسلم والعباس بن عبد المطلب يتحدثان مع والده أبو طالب: - إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه. - إذا تركتما لي عقيلا فاصنعا ما شئتما.
اختار النبي عليه السلام عليا ولكم كان يرجو جعفر أن يختاره هو فمن كمحمد عليه السلام أجمل صحبة وأرق قلبا وأحسن سريرة وأكثر احتراما، وكان العباس مختلفا عنه وإن كان أكثر مالا وأكثر جاها في قريش، وبات علي يأكل ويشرب ويلبس من بيت محمد وجعفر من بيت العباس، ولكنهم لم يتركوا بيت والدهم ولم يفارقوه، فعلي ما زال يحتاج إلى عطف أمه، وجعفر متعلق بوالده ولا يطيق فراقه ولو وجد عليٌ الراحة والسكينة في بيت النبي فلم يكن الأمر مشابها في بيت العباس.
ويجتمع الإخوة في بيت والدهم فيقص علي عن حياته في بيت النبي، ويحكي عن خُلُقُه ورقّته وصفاء قلبه وكرمه مع الضيف والمسكين، وحسن معاملته معه ومع خديجة وزيد بن حارثة وغيرهم من أهل البيت وزواره، ويخبر جعفر عن حياته مع العباس رضي الله عنه، وشتان ما بينهما، وكان جعفر سعيدا بسعادة أخيه وراضيا بما قسم الله له، وكان علي ينقل لجعفر حبه وتعلقه بالنبي عليه السلام ويخبره عن عبادته لله وحده وإنكاره عبادة الأصنام والأوثان، ويقص عليه عن اعتكافه وتحنثه في غار حراء.
ولقي علي جعفرا فأخبره بأنه قد آمن بمحمد نبيا مرسلا، من الله وبأن الناس بدأت تصدقه وتؤمن به، وأبو بكر يجمع رجال مكة وشبابها للنبي فيتكلم معهم ويقنعهم فيبايعونه دون تردد، وإننا أبناء عمه أولى الناس به ووالدنا هو حاميه ومن كفله في صغره، فكان السؤال الذي حير جعفر وجعله يقف مترددا أن يأتي النبي ويبايعه: ما رأي أبناء عبد المطلب في هذا الأمر، وهل سيرضى أبو طالب بهذا الدين الجديد، وكيف سيرد العباس وحمزة على محمد وصحبه، فإذا بعلي يرد بما رد به على النبي حين سأله أن يستشير أبا طالب: "إن الله حين خلقني لم يستشر أبا طالب، فكيف أستشيره في عبادته"، وتركه جعفر وهو يتمنى أن يكون له شجاعة علي وصلابة رأيه، وأصبحت لقاءات جعفر وعلي سرية وحديثهم لا يفارق دعوة محمد وأتباعه.
وانتشر دين محمد وبلغ خبره مجالس قريش وسادتها وعلم أبو طالب بأمره وجمع بني عبد المطلب واتفقوا على حماية النبي ونصرته ولو لم يعتنقوا دينه ويكمل القصة أبي ضوء بن صلصال رفيق أبي طالب فيقول: كنت أنصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أبي طالب قبل إسلامي، فإني يوماً لجالس بالقرب من منزل أبي طالب في شدة القيظ(الحر) إذ خرج أبو طالب إلي شبيهاً بالملهوف، فقال لي: يا أبا الغضنفر هل رأيت هذين الغلامين؟ يعني النبيّ عليه السلام وعلياً رضي الله عنه فقلت: ما رأيتهما مذ جلست، فقال: قم بنا في الطلب لهما فلست آمن قريشاً أن تكون اغتالتهما، قال: فمضينا حتى خرجنا من أبيات مكة ثم صرنا إلى جبل من جبالها فاسترقيناه(صعدنا) إلى قمته، فإذا النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم وعلي عن يمينه وهما قائمان بإزاء عين الشمس يركعان ويسجدان، فقال أبو طالب لجعفر ابنه وكان معنا: صِلْ جناح ابن عمّك. فقام إلى جنب عليٍّ فأحس بهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتقدّمهما وأقبلوا على أمرهم حتى فرغوا مما كانوا فيه، فكانت أول صلاة جماعة في الإسلام، ثم أقبلوا نحونا فرأيت السرور يتردد في وجه أبي طالب ثم أنشأ يقول الابيات.
إنّ عليّاً وجعفَراً ثِقَتي *** عند مُلمّ الزمان والنّوَبِ
أَجعلهما عرضةَ العداء إذا *** أُترك ميْتاً وأنتمي إلى حَسَبي
لا تخذُلا وانصرا ابن عمّكما ** أخي لأمي من بينهم وأبي
والله لا أخذُل النّبيّ ولا *** يخذُله من بنيّ ذو حَسَب
وكأن أبا طالب قد عرف بما دار بين الأخوين، وعلم أن الإيمان استقر في قلب جعفر لا يمنعه إلا حبه واحترامه لأبيه، فأقره على الإسلام وأمره بنصرة بن عمه ليكون جناحه الثاني في الدنيا، ولم يبال جعفر بالعباس إذ تخلى عن كفالته بعد إسلامه وبقي الجناح الذي طار بالرسالة إلى الحبشة وكان خير سفير للإسلام، ثم عاد ليكون سندا وذخرا لله ورسوله ولقي الله مقبلا غير مدبر وطار بسعادة في دنياه وفي الجنة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت