هل تستحق الخلافة العثمانية ذرف الدموع؟!

بقلم: سري سمور

سري سمور
  •     سري سمور
  •     كاتب ومدون فلسطيني

بعد وفاة خاتم النبيين محمد-صلى الله عليه وسلم- في السنة الحادية عشرة للهجرة برزت الحاجة إلى قائد يقود الأمة ويرعى شؤونها؛ وقد أدرك الصحابة الكرام هذه الحاجة الملحة فور فراق نبيهم الذي وقع كالصاعقة على رؤوسهم، فبموت نبينا محمد –صلى الله عليه وآله وسلم- انقطع الوحي، وصار على المسلمين أن يديروا شؤون دينهم ودنياهم بأنفسهم، وهي مسألة لم يعرفها الصحابة، خاصة في أمور الدين، فكل ما كان يستشكل عليهم، يسألون عنه النبي فيخبرهم عنه سواء بقرآن ينزل به الوحي الأمين، أو بحديثه وهو الذي لا ينطق عن الهوى، والآن فإنهم بموت النبي بين أيدهم كتاب الله وسنة نبيه، ولكنهم يحتاجون إماما أو قائدا يكمل مسيرتهم الشريفة على هدي النبوة، ولذا فقد بويع أبو بكر-رضي الله عنه- بالخلافة بعد حوار سقيفة بني ساعدة المشهور، وخلفه عمر وعثمان وعلي –رضي الله عنهم- فيما سيظل يعرف بمرحلة الخلافة الراشدة والتي كانت على نهج النبوة دون ثلمات أو أهواء دنيوية.

 

وإذا كان التاريخ يخبرنا عن وجود أكثر خليفة في غير مَصر من أمصار المسلمين، فإن الهيكل التاريخي العام يقول بأن الغالب زمانا ومكانا هو أنه بعد الخلافة الراشدة جاءت الخلافة الأموية ثم العباسية، التي قامت على أنقاض الأموية، والأخيرة استطاع بعض أبنائها إقامة حكم في الغرب (الأندلس) استمر بضعة قرون، والعباسيون كأي دولة مروا بمراحل، وحلّ بهم الضعف وانتزعت منهم مناطق حكمها من يخالفهم ويعاديهم (الفاطميون في المغرب ومصر ثم الشام) ومنها من يحكم باسمهم وهو مستقل عمليا عنهم، ولا مجال لسرد مطول ولكن الخلافة العباسية انتهت بتسليم الخليفة العباسي المتوكل أو تنازله للسلطان سليم الأول العثماني في مراسم وبروتوكولات ذلك الزمن راية خلافة المسلمين، لتكون الخلافة العثمانية آخر خلافة حكمت عموم أمصار المسلمين من مشرقهم إلى مغربهم ومن شمالهم إلى جنوبهم حوالي 500 عام بوحدة عسكرية-سياسية مميزة؛ والسلطنة العثمانية كانت قد تأسست قبل قرنين من تسلمها مقاليد الخلافة بعد وراثتها عرش الدولة السلجوقية في الأناضول.

 

وكأي دولة أو نظام مرّت بالمراحل المعروفة حتى اعتراها الوهن تدريجيا، وخسرت أمام أعدائها الذين تربصوا بها منذ أن كانت دويلة صغيرة، وانتزعت منها مناطق الحكم والنفوذ تباعا، حتى وصل الأعداء إلى مقرها في تركيا الحالية، وخاض الأتراك معارك سياسية وعسكرية عنيفة كي ينبثق عنها تأسيس الجمهورية التركية في عشرينيات القرن الماضي، وحقيقة فقد كان السلطان عبد الحميد الثاني آخر السلاطين العثمانيين الأقوياء، ومع ذلك فقد أدت الحملات العسكرية الأوروبية في عصره إلى فقدان السلطنة كثيرا من الأراضي وصار كثير من التابعين للسلطنة يخضعون لنير المستعمر البغيض.

ولكن الجمهورية التركية الجديدة بقيادة مصطفى كمال باشا لم تتوقف عند حدّ جعل السلطنة مجرد اسم ورمز لا يحلّ ولا يربط، فتم الإعلان رسميا عن إلغاء الخلافة في (1924م،1342هـ) في ظرف تاريخي حساس وعصيب على الأمة، ذلك أنه لم يكن ثمة من يستطيع المبادرة؛ ففي مرحلة الحملات الصليبية كان ثمة أتراك أقوياء تصدوا للصليبيين، وحمل الزنكيون ومن بعدهم الأيوبيون راية الدفاع عن أمة وإن كانت مشرذمة احتل العدو قبلتها الأولى، ولكنها تتمتع برصيد حضاري وعلمي وثقافي لا نظير له في العالم، وحين اقتحم المغول بغداد ودمروها وقتلوا الخليفة العباسي بادر المماليك إلى حمل الراية وإنقاذ الأمة من زحفهم الرهيب.

 

أما في مرحلة إلغاء الخلافة، فإن معظم المسلمين يخضعون إلى قوى استعمارية تتفوق عليهم عسكريا وعلميا ويعانون من أوضاع اجتماعية واقتصادية صعبة، كما أن الاستعمار بحلّته الجديدة لم يكن عسكريا فقط بل كان ثقافيا كذلك، فاخترق نخب الأمة بل كوّن له نخبة قوية في مكوناتهم الداخلية، وبالتالي فإن إلغاء الخلافة العثمانية كان بمثابة قتل معنوي ومادي لرمزية تجمعهم وتوحدهم ولو شكليا، وهذا ما عجّل وقوّى النزعات القُطرية والعصبيات الجهوية والتي بدأت بذورها تبزغ في القرن التاسع عشر.

 

حسنا، ما دام الإجماع منعقد عند من يحب الدولة العثمانية أو يبغضها، أو من يميل إلى تقييمها بإنصاف، أنها هرمت وشاخت وصارت (الرجل المريض) وعشية الحرب العالمية الأولى لم تكن تحت إدارتها سوى بلاد الشام والعراق وشبه الجزيرة العربية واليمن؛ لأن مصر احتلها الإنجليز وشمال أفريقيا احتله الفرنسيون والطليان والإسبان، ناهيك على أن السلطان صار خاضعا لإرادة الباشوات (أنور وجمال وطلعت) الذين انقلبوا على السلطان عبد الحميد، وأسفرت الحرب عن خسارة السلطنة كل مناطق نفوذها العربية بل احتلال أجزاء من تركيا نفسها.

 

حسنا، ما دام هذا محل إجماع ومتفق عليه؛ فلماذا البكاء أو التباكي والحزن على هذه الخلافة؟ أليس ما قام به أتاتورك هو إطلاق رصاصة الرحمة عليها؟ ألم يقم المسلمون وعلى رأسهم العرب بالبحث عن استقلالهم ومصيرهم بعيدا عن الإرث العثماني؟ ألم يكن حزن بعض المسلمين على الخلافة مجرد حالة عاطفية عبر عنها أحمد شوقي وغيره، وسرعان من انكب كل بلد عربي ومسلم على شأنه الخاص؟ لماذا نجعل من أمر هو (تحصيل حاصل) عنوانا للحزن ونزيد بتعليق فشلنا وخيباتنا المتلاحقة على شماعة إلغاء الخلافة، وخاصة أن إلغاءها كان قرارا تركيا لا عربيا؛

مصطفى كمال أتاتورك

فالترك رأوا أن يسخروا طاقاتهم لبناء دولتهم الحديثة في الأناضول، وفق المعيار القومي بعيدا عن شرذمة الجهد في اتجاهات أخرى، والعرب يفعلون ذلك، فما الداعي للبكاء على الخلافة، فهذا ليس بكاء على اللبن المسكوب، بل لا شيء سكب أصلا، والحزن والأسى على الخلافة لا مبرر له، ويردفون هذا بحديث عن ممارسات بعض الحكام التابعين للسلطنة في البلاد العربية وأحوال الناس خاصة في مرحلة ضعف الخلافة/السلطنة، وبعض آخر من متطرفي العلمانيين يزيد بالحديث عن كل مراحل الحكم الإسلامي منذ عثمان –رضي الله عنه- بحصر كل المراحل بأوصاف سيئة تماما، لتزهيد الناس بأسلافهم، وترغيبهم بنموذج الأجنبي.

 

والإجابة عن السؤال يجب أن يوجهوه إلى أنفسهم أولا وثانيا وعاشرا، فما دام العثمانيون قد خسروا الملك والسلطان، فلماذا تم نفيهم بطريقة مهينة، جعلت عدنان مندريس-رحمه الله- يبكي حال نسائهم اللواتي يعشن في ظروف مزرية في باريس ويغسلن الصحون، ومن الرجال من مات قهرا أو فقد عقله، ألم يكن من الممكن إبقاء هؤلاء في وطنهم الذي بذل أجدادهم الدم والعرق لبنائه والذود عنه؟ ومنهم عجوز عمرها (76 عاما) توسلت في رسالة إلى (مصطفى كمال باشا) استثناءها من قرار الطرد، لأن بينها وبين القبر خطوة قصيرة، ولكن هيهات هيهات، وإذا كان لا بد من طردهم من تركيا فلم لم توفر لهم جرايات تقيهم الفقر والمهانة، وتوفر لهم معيشة تليق بمكانتهم، أليس هذا تجسيدا للحقد الغربي الذي بلسان الحال يقول: ها أنتن يا نساء بني عثمان يا من عملت سيوف أجدادكن في رقاب أجدادنا تغسلن لنا الصحون وتعشن في غرفة قذرة؟ والغربيون –للتذكير- عندهم هوس هذه الرمزيات واستحضار التاريخ ونزعة الحقد والانتقام.

 

وإلغاء الخلافة جعل الأمة تدخل في صراع الهويات، وتتشتت الجهود، وفشلت في الخروج من المأزق سواء أتباع التيار الإسلامي ممن اتبعوا الإصلاح المرحلي أو الذين اختاروا الصراع العنيف المفتوح، أو أتباع التيار العلماني والقومي، الذين تغير مشروعهم من عروبي قومي جامع إلى عصبيات وجهويات متصارعة تخضع للأجنبي ولم تستطع إنجاز ولو شيء يسير مما نادت به أو تطبيق أي من شعاراتها الصغيرة أو الكبيرة فجلبوا لنا التبعية والفقر والبطالة والدولة البوليسية البغيضة.

 

وكثير من الأسئلة المطروحة كان وجود الخلافة برمزيتها وتأثيرها النفسي والمعنوي كفيل بالإجابة عنها، الزمن تغير والدولة الإسلامية منذ عهد النبوة وحتى نهاية السلطنة العثمانية ليست كمثل الدولة الحديثة التي ابتكرها الأوروبيون بناء على تطورات خاصة في بلدانهم ومجتمعاتهم، والدعوة إلى إحياء الخلافة بطريقة الرجوع إلى الوراء كما ينظّر بعضهم، أو كما حاولت بعض الحركات التي كفّرت كل من لم يؤمن بتصورها عن الخلافة، أمر عبثي أيضا، وهذا ليس موضوعنا.

لكن المؤكد أن الاستعمار الحديث وأدواته أدركوا أن آخر قلعة جامعة ولو معنويا للمسلمين هي الخلافة والتي شاءت الأقدار أن تكون بيد العثمانيين في تركيا، فعمدوا إلى طمسها والانتقام من أهلها، وعليه فإن البكاء والحزن عليها ليس مجرد عواطف أو نوستالجيا بقدر ما هو شعور بالمآزق والنكبات المتوالية، ولعلنا نلحظ أن شرعية الخلافة التمثيلية للأمة،  حتى ممن استقلوا ببعض الأقاليم عنها كانت من المسلّمات، وبعدها لم يتم بناء أو بلورة أي شرعية جامعة رغم كثرة المحاولات ومنها محاولات مخلصة وحكيمة، أفلا تستحق البكاء والرثاء؟!

 

وفي كل الأحوال فإن الخلافة الراشدة على منهاج النبوة كخاتمة للأمة في هذه الدنيا بشرى في حديث أحمد وغيره عن حذيفة-رضي الله عنه- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًا فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت، ونحن الآن في مرحلة الملك الجبري الذي تنتظر الأمة رفعه لتكون لها خلافة على منهاج النبوة إن شاء الله.

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت