عاد الفنان الفلسطيني محمد بكري لبلاده بعد خمسة شهور قضاها في تونس عالقا هناك بسبب أزمة كورونا التي أوقفت حركة الطيران، وذلك بعدما عثر صدفة على طائرة من العاصمة التونسية إلى باريس، ويستعد لإنتاج فيلم عن تجربة “حب تونس”.
وروى الفنان بكري لـصحيفة “القدس العربي” كيف أنه اضطر للمكوث في مطار باريس 23 ساعة حتى تمكن من العثور على طائرة لمطار اللد الدولي عبر خطوط الطيران الفرنسية. وفور وصوله عبر عن سعادته بلقاء أحبته وذويه وأهله، لكنه ما زال يتلفت إلى الخلف فكتب في صفحته ” تونس الحبيبة غادرتك منذ أيام وتركت نصف قلبي عندك.. هل تقبليني بنصف قلب؟
وأوضح أنه سافر في مطلع العام الحالي إلى تونس للمشاركة بدور البطل في فيلم عن معاناة السوريين ضحايا الحرب الأهلية، منوها أن الفيلم يدعى في اسمه المؤقت ” ليلة تغادر روحها “. وتابع “بعدما بدأنا التصوير في مطلع فبراير/ شباط وما أن بدأ شهر مارس/ آذار وصلت عدوى كورونا لتونس فاضطر طاقم الفيلم للتصوير وهم يرتدون الكمامات الواقية طيلة الأسبوع الأخير من التصوير.
العودة من اسطنبول
وكشف أنه بعدما أنهوا تصوير الفيلم سافر مع مخرج الفيلم السوري ثائر موسى من تونس إلى اسطنبول “في طريق عودتنا، ولكن السلطات التركية في المطار رفضت إنزالنا من الطائرة لسبب لم يعلماه، علما بأن ثائر موسى مخرج الفيلم مقيم منذ عشر سنوات في تركيا”.
وردا على سؤال عن عدم السماح لهما بالنزول في المطار التركي قال بكري “لأسباب لا يعلمها إلا الله فقد كانت بحوزتنا كل المستندات المطلوبة: وزارة الخارجية التركية وزارة الثقافة التونسية ووزارة ومن السفارة الفلسطينية في أنقرة وهي أوراق ثبوتية تيسر سفرنا. عدنا مضطرين لتونس في طائرة إجلاء لمواطنين توانسة عالقين في تركيا وأوروبا، وفي المطار الدولي في تونس تم حجزنا بسبب تدابير كورونا وبعد ساعات طويلة ومضنية نجحنا بمغادرة المطار بطريقة تهريب لأحد البيوت وبقيت حبيسا في تونس بعدما بقي المطار مغلقا حتى الأيام الأخيرة. وتم تهريبنا وغادرنا المطار التونسي بطريقة غير قانونية لأنني رفضت حجري مع أشخاص لا أعرفهم في جزيرة بعيدة عن المدينة وأقمت في منطقة “حلق الواد” في ضواحي العاصمة التونسية سوية مع ثائر موسى الذي تدبر أمره بطائرة إلى لندن فيما بقيت أنا في تونس طيلة خمسة شهور ونيف حتى ما تمكنت من السفر لباريس”.
في حضرة الأصدقاء والأحباء
وقال إنه اضطر للبقاء ثلاثة شهور لوحده داخل البيت، لكن الأصدقاء التوانسة خففوا عليه كثيرا ولم يشعر بمعاناة.
وتابع “غمرني التوانسة بحبهم ولم يتركوني للحظة وكانوا بالنسبة لي الأب والأم والأخ والأخت وشعرت أنني داخل بيتي الثاني دون عائلتي، وفعلا عدت من تونس تاركا نصف قلبي هناك وكان الفراق صعبا خاصة زملائي وأصدقائي ومنهم مدير الإنتاج خالد برصاوي والفنان جمال مداني والناشط مع الصليب الأحمر محمد بن أحمد وفاطمة الشريف صاحبة البيت التي منحتنا إياه للإقامة فيه طيلة هذه المدة. لافتا أن هؤلاء لم يتركوه للحظة خاصة بعدما مرض مرتين واضطر لدخول المستشفى للعلاج المكثف خلال هذه الفترة، وقد أخفى أمر مرضه عن عائلته في فلسطين كي لا يصابوا بـ “الجنون”.
لكن البعد عن عائلته كان موجعا لمحمد بكري الذي يقول إنه شعر بالألم لزواج ابن شقيقته وابن شقيقه ولاحتفال حفيده ابن ابنته يافا بعيد ميلاده، منوها إلى لجوئه لإطفاء بعض حنينه بواسطة أشرطة فيديو. وتابع “عزّ علي ألا أشارك بهذه المناسبات الفرحة”.
توثيق التجربة بفيلم قصير
وكشف بكري أنه قام بتوثيق تجربته في “حب تونس”، ويقوم بإعداد فيلم قصير عنها سيتم عرضه لاحقا، منوها لتصوير ذاته بطريقة “السلفي” أو بالاستعانة بتصوير آخرين له. وقال إنه لم يتجول في تونس إلا في حالات ضرورية خوفا من التعرض للفيروس، لافتا لإشغال ذاته بالقراءة داخل البيت.
وتابع “اللقاء بالأصدقاء وعدت وقرأت محمود درويش من جديد حيث كنت مسكونا بمحمود خاصة أنه تغرب وأقام في تونس تسع سنوات، وحسيت بمعنى أن تكون محروما من بلدك ومن أهلك.. وطبعا أدركت مغزى قوله “كيف أشفى من حب تونس”.
ويوضح بكري أنه زار بلدانا عربية كثيرة وخالط الكثير من العرب، لكن حب أهالي تونسي لفلسطين غير طبيعي. وتابع ” طيبة القلب والحب والإخلاص والانتماء لفلسطين غير معقول. لم أر في سفري الكثير مثل هذا الحب والانتماء. حتى عند الشباب الصغار التوانسة، وحينما تذكر أمامهم محمود درويش تجدهم يحفظون شعره وربما أكثر من شبابنا في فلسطين. فرغم كل الظروف الصعبة التي تعيشها تونس من فقر وغلاء معيشة فهم محّبون أوفياء كبار لفلسطين”.
ثمار الثورة
ردا على سؤال يقول بكري إن تونس تغيرت بعد الثورة كثيرا، ومع ذلك يقول إنهم لم يحصدوا ثمار بعد الثورة كما يجب، وشعرت بوجود نوع من خيبة الأمل والتساؤل عن منجزات الثورة التي ضحوا من أجلها.
وتابع “طبعا هذا نسبيا وقياسا بدول أخرى يغبط التوانسة المساحة الديمقراطية التي ينعمون بها. لي صديق صحافي يدعى محمد بوغلاب يدير برنامجا إذاعيا “بوغلاب ما يفلت شي” يوجه سهام النقد لأكبر مسؤول تونسي دون تردد وهذا مثال. حتى عندما هربت من المطار خوفا من المجهول نشر الصحافي المذكور: من يحبّ محمد بكري لا يتركه في المطار في البرد القارس، وعلمت كل تونس بفضله وهاتفتني مديرة مهرجان قابس من باريس بعدما علمت بالأمر وأرسلت لي مفاتيح بيتها وأنا لا أعرفها”.
ويؤكد الفنان محمد بكري أن ما وجده من عطف ومحبة في تونس لا يوصف حتى من الذين لا يعرفونه، لافتا أن بعض سائقي التاكسي رفضوا تلقي أجرتهم عندما علموا بهويته، وقال إنه وقف في أحد الأيام في الطابور ليقتني الخبز ولما حان دوره كان الخبز قد نفد، فسارع أب وقف أمامه لتقاسم رغيفين معه.
وأضاف “هذه لحظات لا تثمن وتعكس مجددا هذا الحب الكبير في تونس لفلسطين وأنا اتحدث عن الشعب ولا استطيع تفسير ذلك ولماذا في تونس وليس في لبنان أو في مصر. ربما هي ثقافة التوانسة الغنية والواسعة”.
كما يستذكر بكري أنه في الماضي كان يشهد تدافع التوانسة على عتبات المهرجانات الفنيّة على تلقي التذاكر، ولاحقا تبين أنهم مقبلون على كل الفنون بهذا الشغف وهذا ملهم ومفرح. وقال إنه لولا البعد عن زوجته وعائلته لبقي في تونس بفضل وجود أفق حقيقي بالتغيير العربي فيها.
وعن مشاهداته هناك قال “في شارع بورقيبة شاهدت شابا تونسيا يتظاهر مقابل وزارة الداخلية التونسية رافعا لافتة كتب عليها “خبز” .. وقد كان يتظاهر ضد الجوع. هذا لا يمكن أن يحدث في دول أخرى. في تونس لم تنضج بعد كل ثمار الثورة ولكنها تسير في الاتجاه الصحيح. في أحاديثي مع التوانسة كنت أقول لمثقفين إن عليهم رؤية الأمور الإيجابية في تونس”، موضحا أنه لا يقول إن تونس جنة إنما يقارن ويرى الموجود والمفقود فيها، لافتا لمشاهدته كيف واجهت تونس بأدواتها المتاحة جائحة كورونا ونجحت بخلاف الولايات المتحدة مثلا.
وتابع “اليوم لا يوجد مصابون بكورونا في تونس وهذا بفضل وعيهم. وأذكر وزير الصحة كيف خاطب التوانسة وناشدهم لاحترام التعليمات، وقد بكى وترك أثرا فعلا على الجمهور الذي التزم واحترم التعليمات وأبقى خطر الجائحة بعيدا. لم أر وزراء عربا كثيرين يؤدون هذا الأداء النظيف والإنساني”.