- بقلم/ نعمان فيصل
التعليم هو وسيلة الارتقاء الأولى، وهو النواة لكل تقدم منشود، وإن قيمة أي شعب من شعوب هذه الأرض، تقاس بمقدار ما قدم أبناؤه ويقدمون للبشرية من أعمال خلاَّقة في مجالات التعليم والفكر والثقافة، هذه المجالات التي تعتبر الأداة الرئيسية الفاعلة في سبيل التوعية والإرشاد.
ولهذا، نرجو من إخواننا الذين ينشرون أخبار غزة وتاريخها الناصع أن ينشروها كاملة، وألا ينقصوا حق أحد من الناس. رحم الله الأستاذ المربي بشير الريس الذي كان له الفضل العظيم في استمرار مسيرة التعليم بعد الاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة عام 1967م، حين قال: (إنني لست من يعطل مسيرة التعليم؛ بسبب الاحتلال وبنادقه، بل علينا أن نتعلم كي نواجه هذه البنادق، ونكسرها بالعلم على الأقل، إن لم نستطع كسرها بمثلها).
ففي بداية أيام الاحتلال من عام 1967م انقسم رأي رجال التعليم والفكر والوطنية إلى فريقين: فريق كان من أبرز وجوهه أطر نضالية كالجبهة الوطنية المتحدة، وشخصيات وطنية مستقلة كالمربي سامي أبو شعبان، هذا الفريق رفع شعار: (لا تعليم في ظل الاحتلال)، اجتهاداً منهم بأن هذا سيزعج الاحتلال ويُخرجه، وأكد هذا الفريق على عدم شرعية التعليم تحت حراب المحتل، ظناً منهم أن أمد الاحتلال مؤقت، ولن يطول أكثر من أربعة أو ستة شهور على الأكثر، كما كان عليه الحال في عدوان 1956م – 1957م، أما الفريق الآخر الذي كان يتزعمه المربي بشير الريس، وبعض الوطنيين أمثال: الدكتور حيدر عبد الشافي الذين أثبتوا أنهم أبعد نظراً وأكثر خبرة، حينما أكدوا أن الاحتلال هذه المرة ليس كسابقه، وأنه سيمتد سنوات، وأن نواياه الاستيطانية والتوسعية، كانت علامات بادية في تصرفاته أكثر مما كانت عليه عام 1956م.
وبلا شك، فإن أصحاب الرأي الأول ليسوا على صواب، ذلك لأن الاحتلال والاستعمار بأنواعه في كل الأوقات لا يسعى إلى نشر الثقافة والعلم؛ لأنهما سلاحان فعالان ضد أطماعه، فالاستعمار يسعى دائماً لتجهيل الشعوب والهائها في وسائل عيشها.
وقد كان لجمهورية مصر العربية في عهد الزعيم الخالد جمال عبد الناصر دور عظيم في تسخير إمكاناتها لخدمة الشعب الفلسطيني في قطاع غزة في جميع المجالات، خاصة عندما زارها المربي بشير الريس، من أجل إيجاد حل بواسطة مصر العروبة، بعد توقف عجلة التعليم في الأعوام الأولى للاحتلال الإسرائيلي عام 1967م، وقد ساعده في تسهيل تلك الجهود المناضل جمال الصوراني ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في القاهرة، والأستاذ خليل إبراهيم الخطيب، مدير التعليم بإدارة الحاكم الإداري العام بالقاهرة بعد عام 1967م، والعميد خليل عرفات القدوة، حيث هيأوا له الأسباب في الزيارات الرسمية للزعيم جمال عبد الناصر، والأستاذ حسين علي العجماوي وكيل وزارة التعليم العالي.
وقد قام هؤلاء الثلاثة مع المربي بشير الريس بتقديم ثلاث مذكرات رسمية إلى الجامعة العربية، ووزارة الخارجية المصرية، ووزارة التعليم العالي، وأثمرت تلك المساعي بالنجاح، وعلى الموافقة لإجراء امتحان الثانوية العامة اعتباراً من عام 1969م، بإشراف بعثة من رجال اليونسكو، بعد توقفها عن العمل عامي (1967 و1968م).
وكان من مهام اليونسكو الإشراف على تأمين وصول أسئلة امتحان الثانوية العامة من مصر إلى قطاع غزة المحتل، ومتابعة عملية سير الامتحانات، ونقل أوراق الإجابات إلى مصر لتصحيحها، وإحضار النتائج إلى غزة.
وكان عدد الطلبة المتقدمين لامتحان الثانوية العامة لعام 1969م، بقسميه العلمي والأدبي، ودور المعلمين والمعلمات 12,500 طالب، وكانت نسبة النجاح 55%، وقررت مصر عبد الناصر قبول 1,200 طالب، ومنحت الحكومة المصرية الطلاب الفلسطينيين في جامعات مصر مساعدة عشرة جنيهات كل شهر لكل طالب، وكان هذا المبلغ بمثابة راتب مدرس، فضلاً عن السماح لهم بالإقامة في المدن الجامعية.
وهكذا، نجح فريق بشير الريس في نظريته، واستمر العمل بآلية اليونسكو حتى توقيع اتفاقية كامب ديفيد للسلام بين مصر وإسرائيل عام 1979م.
والجدير بالذكر أن الزعيم الخالد جمال عبد الناصر قدم العون للطلبة الفلسطينيين، للوصول إلى أعلى الدرجات العلمية، وكان يستثني الكثير منهم من شروط دخول الجامعات، وفي مقدمتها شرط مجموع العلامات، (وفي ذات مرة، ذهب إليه أحد أعضاء مجلس الثورة، وطلب منه، استثناء ولده من شرط المجموع لدخول إحدى الكليات، وعندما اعتذر له عبد الناصر، ضارباً له مثلاً بنفسه، وأنه أدخل ابنته الجامعة الأمريكية عندما أعجزها المجموع عن دخول الكلية التي تريدها في الجامعات المصرية، عندها تساءل عضو مجلس الثورة: "ولماذا يُستثنى الفلسطينيون؟" أجاب عبد الناصر: لأنهم شعب، انتزعت منه كل الأسلحة، وأنا أريده أن يتسلح بالعلم، ليواجه الحياة عندما يتخلى عنه الجميع).
وتخرج العديد من الطلبة الفلسطينيين في مختلف المجالات، ونظراً للطاقة الاستيعابية المحدودة للقطاع، فقد كانت للزعيم الخالد جمال عبد الناصر مبادرات في حل مشاكل الخريجين في قطاع غزة، ففي عام 1962م أصدر قراراً تاريخياً باستيعاب حوالي 3,000 خريج بمختلف التخصصات في المدارس والمؤسسات المصرية براتب شهري 12 جنيهاً، ما ساعد على تحسين الأوضاع الاقتصادية، ومواجهة مشكلتي البطالة واللجوء في قطاع غزة. أزمة طلاب الثانوية في قطاع غزة بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد: في عام 1979م، وفي أعقاب توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين إسرائيل ومصر، قطعت إسرائيل الصلة باليونسكو، وأرادت أن يكون اتصالها مباشرة مع مصر، التي رفضت في البداية هذا الأمر.
وقبل ثلاثة أيام من انتهاء امتحانات الثانوية العامة عام 1979م تحرشت قوات الاحتلال الإسرائيلي برجال اليونسكو؛ لتعكير صفو هذا التوافق، ما أدى إلى انسحاب رجال اليونسكو، وتضامن معهم موظفو وكالة الغوث المشتغلون في هذا الامتحان، والذين يزيد عددهم عن 600 موظف، تاركين موظفي التربية والتعليم المحليين يواجهون لوحدهم هذا المأزق الكبير والموقف الصعب، والذي كان المحتل يهدف من ورائه إلى طرد بعثة اليونسكو من غزة بصرف النظر عن العواقب.
في ظل هذه المشكلة التي كانت تعصف بالجهاز التعليمي، وبمستقبل الطلبة، كان لا بدَّ من التدخل لاجتراح حل لهذه المأساة، إذ طلب الأستاذ محمد حامد الجدي مدير التعليم في قطاع غزة من الحاج رشاد الشوا رئيس بلدية غزة يومها التدخل في الأمر، فاعتذر، لعدم علاقته بالموضوع. وكان للدكتور حيدر عبد الشافي دور مهم في تذليل العقبات التي تواجه طلاب الثانوية في قطاع غزة، وتهدد مستقبلهم، من خلال تكثيف اتصالاته بمنظمة التحرير والمصريين للوصول إلى صيغة تفاهم مع المصريين على إدارة امتحان الثانوية العامة تحت إشراف بعثة مصرية تأتي سنوياً من مصر، وتُشرف على هذا الامتحان مباشرة دون تدخل اليونسكو.
ولعلّ كتاب موشي دايان: (أنا وكامب ديفيد) يعطي صورة واضحة وحية عن أزمة الطلاب، حيث يقول دايان: (ألغيت وأجلت جميع الاجتماعات التي أعدت لي في الأيام القادمة، ولكنني رفضت التنازل عن موضوع واحد، أو تحويل معالجته لشخص آخر، وكان هذا الموضوع يتعلق بمسألة فحص الدخول للجامعات المصرية، لطلبة قطاع غزة، ففي حينه كان هؤلاء الطلاب الذين يبلغ عددهم حوالي 7,000 طالب وطالبة يفحصون تحت إشراف ممثلي منظمة اليونسكو، الذين كانوا يأتون لهذا الغرض من باريس، وكانوا يقومون بنقل نتائج الفحص من قطاع غزة إلى مصر، بالإضافة إلى ذلك كانت هناك مسألة الزيارات الصيفية لطلبة القطاع الذين كانوا يدرسون في مصر، وهي المسألة التي رتبت في الماضي بوساطة الصليب الأحمر، أما الآن فقد أبلغنا مصر وسكان القطاع، أننا، وبعد أن وقعنا على معاهدة السلام مع مصر، فإنه لم تعد هناك حاجة لتوسط الهيئات الدولية، ولكن مما يؤسف له فإن تفكير المصريين كان على النقيض من ذلك، فقد طلبوا الاستمرار في النظام القديم، بحجة أن لغزة وضعاً خاصاً حسب رأيهم، وأننا لم نصل بعد إلى الموعد الذي سيسري فيه تطبيع العلاقات بين إسرائيل ومصر).
واستطرد دايان قائلاً: (لقد عرفت أن لمصر تقديرات خاصة بها تتعلق بعلاقاتها مع الدول العربية الأخرى، ولكنني لم أكن مستعداً، بأي حال من الأحوال، التنازل عن جميع سيناء، وإزالة المستوطنات الإسرائيلية التي أقيمت خلف الحدود، وقد وافقنا على هذه التنازلات بعيدة المدى؛ لأننا رأينا - بمعاهدة السلام - نهاية كاملة لحالة الحرب، وإقامة علاقات طبيعية بين إسرائيل ومصر، وعليه، فإن ما ينطبق على الطالب الغزي الذي يغادر غزة للدراسة في جامعات القاهرة، ينطبق أيضاً على الإسرائيلي الذي يغادر تل أبيب لدراسة الطب في إيطاليا، فلا حاجة لنا بمنظمة اليونسكو، أو الصليب الأحمر، أو أي وسطاء آخرين، ولا يجب أن نعطي هذه الهيئات أي اختصاص بهذا الصدد).
ويواصل دايان: (وبعد أن حصلت على موافقة رئيس الحكومة "مناحيم بيغن" على موقفي هذا، أبرقت بهذا الموقف إلى وزير الخارجية المصري "بطرس غالي"، وأمرت جميع رجال وزارتي الذين يعالجون موضوع العلاقات الإسرائيلية المصرية التمسك بأوامري وعدم الاستسلام لأي ضغط).
وتابع دايان قائلاً: (وبعد مرور بعض الوقت أردت أن تكون الأمور واضحة حتى لسكان غزة، وأن يعرفوا بأن المصريين هم الذين يؤخرون عودة أبنائهم في نطاق الزيارات الصيفية والفحوصات للسنة الدراسية، وليس نحن، فطلبتُ أن يصلوني هاتفياً مع الدكتور حيدر عبد الشافي، وكنت قد تعرفت على الدكتور حيدر جيداً، فهو يعتبر أحد الزعماء المتطرفين الوطنيين المحسوبين على منظمة التحرير الفلسطينية في قطاع غزة، وهو رجل حكيم، ومثقف وصريح، وعندما كنت وزيراً للدفاع، وأثناء ازدياد النشاطات الإرهابية في قطاع غزة، قمنا بنفيه من القطاع، وبعد ذلك أعدناه، وعاد إلى العمل، كطبيب، وأخذ يدعو إلى نشر مواقفه الوطنية، وفي الآونة الأخيرة انتخبه سكان قطاع غزة رئيساً "للهلال الأحمر الفلسطيني"، وهي منظمة تستخدم فعلاً كإطار للنشاطات السياسية تحت غطاء العمل الإنساني).
واستطرد دايان قائلاً: (لم يتغير صوته، وبدا وكأنه لم يكن متفاجئاً فقط، وإنما كان مرتاحاً لسماع صوتي، وقد ارتاح جداً لاتصالي به بمبادرة مني، وبعد تبادل كلمات التحية العادية تطرقت إلى الموضوع، فقلت له: إنه من جهتنا، فإن جميع الطلبة يستطيعون العودة من مصر إلى غزة، وإن كل من يريد يستطيع التوجه إلى مصر للدراسة فيها، ولكننا لن نسمح للصليب الأحمر، أو منظمة اليونسكو بالتدخل في الموضوع، فحتى من الأردن الذي لا يربطنا به اتفاق سلام يغادر ويقدم أكثر من 100,000 شخص سنوياً، بما في ذلك الطلبة، وكل ذلك يتم دون أن يتدخل في الموضوع أي شخص من منظمة اليونسكو، أو من الصليب الأحمر الدولي، وقلت له: إن كل ما كنت أريده هو أن يعرف بأننا لسنا نحن الذين وراء معاناة الطلبة، وأن موقفنا لم يتغير، وقلت: إذا أصر المصريون على رأيهم، فإن شبان غزة سيبقون في منازلهم، كما أن الموجودين في القاهرة سيبقون هناك 120 سنة أخرى). وتابع دايان قائلاً: (لم يتركني الدكتور أن أكمل كلامي، وقاطعني وهو يضحك قائلاً: "لم تكن بحاجة لأن تقول لي ذلك، فأنا أعرفك جيداً، وسأحاول العمل بقدر استطاعتي، واتفقنا على أن يتوجه إلى غزة في اليوم التالي "يوسي هداس" المسؤول في وزارة الخارجية عن هذا الموضوع، وأن يجتمع مع رئيس بلدية غزة ووجهاء آخرين، ومن ضمنهم الدكتور حيدر عبد الشافي، وأن يعقد الاجتماع في مبنى الحكم العسكري، حيث سيتم شرح ما قلته لعبد الشافي، والبرقية التي بعثتها لبطرس غالي إلى زعماء غزة وجهاً لوجه، فقد اعتقدت أنهم سيضطرون في النهاية لقبول شروطنا، وذلك ليس فقط لأننا أصحاب حق، وإنما لأن هذه المسألة تضايقهم، وهم مطالبون بإيجاد حل لها).
ولا ننسى في هذا السياق أن نذكر جهود بعض الشخصيات المستقلة في قطاع غزة من أجل قبول الطلبة الفلسطينيين في الجامعات المصرية بعد اتفاقية كامب ديفيد، حيث توجه وفد من غزة مكون من الشيخ فريح المصدر، والأستاذ نصري خيال، والمستشار زهير الصوراني، والمستشار هشام الحسيني، حيث قابلوا الرئيس أنور السادات، ونائبه السيد حسني مبارك في منتجع المعمورة في الإسكندرية، وقد أمر الرئيس السادات نائبه بالتنفيذ الفوري للسماح لدخول الطلبة الفلسطينيين من قطاع غزة للكليات العملية: (الطب، والهندسة، والصيدلة)، والكليات الأخرى. شكراً لمصر العروبة على ما قدمته لقطاع غزة من خدمات جليلة،،
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت