- سري سمور
- كاتب ومدون فلسطيني
انتشرت خلال السنوات الماضية (صرعة) تقوم على حضّ الناس، وتدريبهم على الإقبال على الحياة وتحقيق النجاح، والاهتمام بالذات، وشملت الصرعة إصدار كتب ونشرات، وتدشين مواقع على الإنترنت، وبرامج ودورات تدريبية، بعضها تكلفتها باهظة، وبعضها غير ذلك.
الصَرعة أو الموضة الجديدة تمأسست وصار لها عناوين وأهل اختصاص، إذا صحّ الوصف، وبالمجمل فإن نتاجهم يتمحور حول الاقتداء بأشخاص حققوا نجاحاً في حياتهم، لاسيما في المجال المالي، وجمعوا ثروات خلال فترات قصيرة نسبيا، مع أنهم أساساً ليسوا من بيوت ثرية، والحضّ على التخلص من الإحباط والأفكار السلبية والانطلاق نحو الحياة بأمل وإصرار وخطة أهداف مرسومة.. إلخ. وحتى نتحلى بالإنصاف فإن هذه البرامج والدورات قد نجحت في بعض الحالات في نقل أشخاص من حالة كآبة واستسلام للفشل، إلى حالة تفاؤل وإيجابية ملحوظة، وآخرين –أو الأكثرية- تحولوا إلى مدربين لتدريب غيرهم على ما تدربوا عليه من كلام، أي إعادة إنتاج الكلام نفسه، لا وجود فعل حقيقي ملموس!
وما أريد الحديث عنه هنا، هو فكرة صارت تطغى على كثير من المنخرطين في هذه الصرعة، تقوم على محاولة صبغ الموضوع بصبغة دينية، والغمز من قناة المتدينين؛ ومردُّ أو جذر هذه الفكرة ظهور ما يعرف بالدعاة الجدد (المودرن) وهم قد انطفأ بريقهم مؤخراً، لأسباب لا مجال لذكرها الآن، ولكن فكرتهم ظلت مترسخة وتتردد باستمرار عند المنخرطين في مجال التنمية البشرية، والمشكلة سير قطاع من المتدينين في ركبهم لأنهم اقتنعوا أن التدين الحقيقي هو تمركزهم حول الدنيا والثروة! وهذه الصبغة/الفكرة تقوم على أن المتدينين عموماً لم يفهموا الدين بشكل صحيح، حيث أنهم أهملوا الحياة الدنيا والنجاح في مجالاتها المختلفة، ولم يسعوا إلى جمع الثروات، وأنهم بهذا حتى يخالفون نهج النبيّ-صلى الله عليه وسلم- والذي كان حسب ما يرون (مليونير أو ملياردير) ويردفون أن بضعة صحابة من المبشرين بالجنّة كانوا من أهل المال والثروة، ويجعلون هذه الجزئية نقطة هجوم على الدعوة إلى الزهد وتركيز المسلم على الحياة الآخرة ونعيمها. وإذا أردنا الردّ على هذه الأطروحة سنجد صعوبة مع سهولة الأمر، والصعوبة سببها أنهم جعلوا ما يتوهمون حقيقة ثابتة، وحوّلوا الفرضية إلى قاعدة مسلّم بها، من خلال كثرة الضخ المتواصل القائم على فكرة تصحيح فهم المتدينين للدين من هذه الزاوية!
وأحب أن أبدأ بالردّ على هذه الافتراءات أو الأوهام، بما يقولون عن النبي-صلي الله عليه وسلم- فهو وإن كان فعلاً يملك ويستطيع أن يملك الثروات فإنه لم يكدّسها، ولا تظهر على سمته وحياته؛ فبيته بيت بسيط جداً، وقد يمر الهلال (الشهر) أو الإثنين أو الثلاثة دون أن توقد فيه نار، أي دون أن يأكل طعاما مطبوخا، ومع ذلك فقد كان النبي-صلى الله عليه وسلم- أجود النّاس، أما الصحابة الكرام ووجود أثرياء بينهم فهذه دلالة تنوّع، وشهادة لهم بأن الدنيا ومتاعها وأموالها لم تشغلهم عن دينهم وقرآنهم وسنة نبيهم.
والخطورة في هذا الكلام حول النبي-صلى الله عليه وسلم- تقود إلى الخوف المشروع من تقليد الأمم التي تنتسب اسما وشعارا إلى المسيح عيسى بن مريم-عليه السلام- فقد كان عنوان الزهد والتقشف في حياته، ويروى أنه كان يحمل صحناً للأكل، ومشطاً لتسريح شعره، وكوز ماء يشرب منه، فلما مرّ على رجل يغرف الماء ويشرب بيديه تنازل عن اقتناء كوز الماء، فأين من يزعمون الانتساب له من زهده، وطابعهم العام الاستغراق في متاع الحياة الدنيا وزينتها؟! فكيف بمسلمين يريدون تصوير نبيهم بأنه ملياردير؟!
وجانب الافتراء والظلم الموجه إلى الشباب المتدين من قبل القوم أنهم يصورون المتدينين كمجموعة دراويش أو مترهبنين يجلسون في مساجدهم وزواياهم، لا يتعلمون ولا يعملون ولا يتزوجون ولا يسعون إلى توسعة أرزاقهم، ولا أدري من أين جاءوا بهذه الفرية التي تملأ حديثهم المعلن أو ما بين سطوره في كتبهم ومحاضراتهم وندواتهم؟ ذلك أن المتدين قبل هذه الصرعة وأثناءها وما بعدها هو إنسان يسعى لتحسين حياته ومعيشته؛ بل قد يكون منتقداً في بعض الأحيان، من استغراقه في ذلك، وإعطاء النجاح الدنيوي مساحة كبيرة على حساب ابتغاء الآخرة وطلب النعيم في الجنّة. وربما يكون السبب -كما يقال- هو وجود خطاب وعظي ساد فترة من الزمن يحضّ الإنسان المسلم على السعي نحو الآخرة، والتخفف من زخارف الدنيا، والزهد والتقشف، وعدم استحواذ حبّ الدنيا وأموالها وزينتها على قلبه.
وحقيقة أن هذا الوعظ ضروري ومطلوب، ومن المحزن تراجعه كثيراً في السنوات الماضية، بل وصل الحال ببعض الواعظين إلى التخلي عن مهمتهم بتذكير النّاس بالآخرة، والحض على ابتغائها، إلى الحديث عن ضرورة السعي إلى تحقيق الذات في الدنيا والنجاح وجمع المال والتميز وغير ذلك، ذلك أن النفس الإنسانية تميل إلى حب الدنيا وشهواتها، وابن آدم لو كان له واديان من الذهب لتمنى الثالث، ولا يملأ عينه إلا التراب، ومن أدوار الدين في حياة الإنسان تهذيب هذه النزعات ولجم الطمع والحرص وطول الأمل في نفس ابن آدم، وبالتالي فإن وحتى في ظل وجود الوعظ الذي يذكّر المرء بالآخرة فإن الإنسان يميل إلى شهوات الدنيا، فثمة فرق -ربما هو سبب التهمة أو الفكرة التي يطرحها أرباب التنمية البشرية- بين خطاب ووعظ ودروس يسمعها المرء، وبين درجة الالتزام بما تحويه.
العبادات عموماً تهذّب قدر الممكن من جنوح وميل المرء الدنيوي؛ فالصلاة في أوقاتها المعلومة، تجبر المرء على التخلي-مع الخشوع فيها- عن مشاغله الدنيوية للوقوف بين يدي ربه وذكره
فالحال سوريالي بامتياز حيث صار أهل التنمية البشرية، ومعهم مجموعة من الواعظين والمشايخ، وظروف موضوعية قائمة، وسلوك وفطرة في الإنسان تدعو إلى السعي وراء تحقيق الذات والنجاح في دروب الحياة الدنيا، وجمع الثروة، فمن يا ترى سيذكّر المرء بالموت والقبر والآخرة والحساب والجنّة والنّار؟ جميعنا نسعى نحو تحقيق ذاتنا، نتعلم ونعمل ونكسب ما نستطيع ونسعى إلى تحسين معدلات دخلنا، والترفيه عن أنفسنا، ونتزوج وننجب، وبعضنا ينظر بنوع من الغبطة أو الحسد إلى ما في يد غيره من متاع الدنيا فيتمنى مثله أو يسعى عملياً إلى الحصول على مثله أو أكثر منه. وبالتالي لسنا بحاجة إلى محاضرات تذكرنا بما نحن في حالة غرقٍ فيه أصلا، ولا ينقصنا شيخ ينسى مهمته الأساسية وهي حضنا وتذكيرنا على ضرورة الخروج ولو جزئياً منه.
إن العبادات عموماً تهذّب قدر الممكن من جنوح وميل المرء الدنيوي؛ فالصلاة في أوقاتها المعلومة، تجبر المرء على التخلي-مع الخشوع فيها- عن مشاغله الدنيوية للوقوف بين يدي ربه وذكره، والصوم يفترض أن يبعد المرء عن التعلق بالشهوات ساعات معلومة، ولباس الإحرام في الحج والعمرة يذكر الإنسان بالكفن، والزكاة والصدقة، هي من معالم تهذيب حب المال والحرص في النفس البشرية حين تتنازل عن شيء من مالك الذي اكتسبته أو ورثته لمحتاج…مما يعني أن السعي للآخرة هو الشيء المركزي وليس العكس، وسرعة قطار العمر تدل المرء على أن القبر قريب وأنه لو كان عاقلاً فعلاً فليعمر آخرته، أكثر مما يسعى وراء دنيا هو مفارقها بلمح البصر.
فهلاّ عاد الواعظ إلى دوره في تذكير النّاس بآخرتهم لعلهم يتعظون ويسمعون ويتأثرون ولو لحظياً، وهلاّ توقف سدنة التنمية البشرية عن اتهام النّاس بالخروج عن محبة ما جبلوا على محبته وهو زخرف الحياة الدنيا؟! وأختم بخير الحديث والكلام في هذا الشأن:- الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا-سورة الكهف
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت