- حسن عبادي
متنفَّس عبرَ القضبان(12)
بدأت مشواري التواصليّ مع أسرى أحرار يكتبون رغم عتمة السجون في شهر حزيران 2019؛ زرت أحمد وأحمد، باسم، حسام، سامر وسامر، سائد، شادي، طيون، عاصم، كريم، كميل، مروان، ناصر، هيثم، وائل ووائل، وليد، معتز، ومنذر، وغيرهم ودوّنت على صفحتي في الفيسبوك انطباعاتي الأوليّة؛ تعاصفنا وتثاقفنا، نعم، وجدت لقائي بهم، بأفكارهم وبكتاباتهم متنفّسًا عبر القضبان.
عقّبت الكاتبة المقدسيّة نزهة الرملاوي: "في كلّ يوم تكتب فيه عن سجين وأسمع كلماته وكلماتك.. أبكي ألما وأطرب أملا.. وأتساءل: أما آن للسجين أن يتحرر؟ أما آن أن يتهاوى السجن ويتبخّر؟"
بدّي أعيش
غادرت حيفا مع طلوع الفجر يوم الأحد 12 تموز 2020 ووِجهتي سجن نفحة الصحراوي، استشرت "الوييز" فأشار إلى طريق الساحل، ولكن على غير عادتي قرّرت أن أشاكسه وأسافر الطريق "السريع" وإذ بالسير بطيء جدًا، وحين وصلت مشارف الطيرة تبيّن لي أنّ جرّافات السلطات الإسرائيليّة قد اجتاحت المدينة لهدم قاعة رغدان للأفراح والمناسبات، وذلك تحت حماية قوّات كبيرة من الشرطة الخاصّة والخيّالة، سبّبت في إغلاق الشوارع، فاستغرقت الطريق ستّة ساعات بدلًا عن ثلاثة!
التقيت الأسير موسى سعيد موسى صوفان[1]؛ حدّثني بحماس منقطع النظير عن محنة الإهمال الطبي الذي يعاني منه، ومثله العشرات من الأسرى، فهو يعاني من أمراض لا تُعدّ ولا تُحصى، ورغم ذلك لا يتلقّى العلاج المناسب، وفي إحدى جلسات المحكمة انصاع القاضي العسكري لإلحاحه وزار زنزانته ليصل إلى النتيجة أنّها لا تصلح للبشر ودوّن ذلك في قرار صدر بتاريخ 15.07.2013.
أضرب موسى عن الطعام عدّة مرّات، ومطلبه تلقّي العلاج، وحين طلب الدواء من طبيب السجن أتّهم بالتهديد وحُقّق معه، وقال إنّها ظاهرة جديدة بتقديم شكاوى كاذبة ضدّ السجناء المرضى لإسكاتهم.
حدّثني موسى بحرقة عن تأخير الفحوصات الطبيّة والمماطلة التي تسبّب أضرار صحيّة جسيمة، تأجيل العمليّات الضروريّة والعلاج حسب مزاجيّة الطبيب!
حدّثني عن منع طبيب خاص من زيارته و/أو علاجه، كذلك عن ظاهرة جديدة وهي إجبار المرضى تعاطي أدويّة تسبّب الإدمان في الطريق إلى الموت السريع، وعن عشرات العمليّات الجراحيّة (ستّة منها في بطنه!) وملّف طبّي يرافقه كلّ الوقت.
ناقشنا فكرة مشروع تدويل قضيّة الإهمال الطبّي للأسرى، والصمت الصارخ في الساحة الفلسطينيّة.
قال لي موسى قبيل افتراقنا: "بدّي علاج، بدّي أعيش. ما بدّي نياشين بطولة على قبري!".
مرّت الساعات مُهرولة، وموسى يتحدّث بحماس، آملًا بحُريّة قريبة لعلّه يشفى من أمراضه.
لك عزيزي موسى أحلى التحيّات، الحريّة لك ولجميع أسرى الحريّة.
الرأي الآخر صمّام أمان
التقيت صديقي حسام زهدي شاهين[2] صباح اليوم في سجن نفحة الصحراوي، مباشرةً بعد لقائي بموسى صوفان، مبتسمًا كعادته؛ وبعد عناق طويل عبر ذلك "الحاجز الزجاجيّ"، أمسك كلٌّ منا سمّاعته وبدأ بالسؤال حول مشقّة السفر وأخبار أحفادي وبناتي، وزوجتي وأثر الكورونا على شغلها في المستشفى، فهو يهتمّ بكل صغيرة وكبيرة، بحميميّة لافتة.
تحدّثنا عن قراءاته في الفترة الأخيرة وعن تحديثات مشروعه القمريّ الذي أوشك على رؤية النور.
ناقشنا مشروع كتابة عمل مشترك بيننا، وأخبرني عن تقدّمه في الجزء الثاني من رواية "زغرودة الفنجان"؛ وحدّثني عن هوس الأخلاق وعقليّة العصابات لجيش العدو.
بحثنا مطوّلًا أهميّة تدويل قضيّة أسرانا؛ لتسليط الضوء بداية على ملف الإهمال الطبّي والاعتقال الإداري دون محاكمة، ليسمع كلّ العالم صوت معاناة أسرانا وعذابهم اليومي، والموت البطيء للكثير منهم، وهناك إجماع بين كل أطياف الحركة الأسيرة على العمل يدًا بيد لإنجاح المشروع.
تحدّثنا عن معاناة العائلات، وخصوصًا أمّهات الأسرى، فقال بحِرقة: "أمّهاتنا عرفت بوابات السجون... وهناك أمّهات عرفت بوابات الفنادق!". كم هو مؤلم يا حسام.
تناولنا أهميّة التعدّديّة والرأي الآخر، لا يجوز التهميش، فالرأي الآخر صمّام الأمان وكفيل للوصول نحو طريق الصواب.
تحدّثنا الكثير الكثير ومرّت الساعات، حمّلني السلامات لباسل وأمير... وعائلتي، فلا تغيب عنه شاردة أو واردة.
لك عزيزي الحسام أحلى التحيّات، حتى نلتقي قريبًا في حيفانا، فشمس الحريّة تتوق لعناقك.
كنت أحلم بكلمة "سيدي"
التقيت صديقي الأسير أحمد علي حسين أبو جابر[3] صباح اليوم في سجن نفحة الصحراوي، مباشرةً بعد لقائي بموسى صوفان وحسام شاهين، بعد عناق طويل عبر ذلك "الحاجز الزجاجيّ"، أمسك كلٌّ منا سمّاعته لتكملة حديثًا ابتدأناه يوم 15 كانون الثاني 2020 ولم ينته بعد.
تحدّثنا بداية عن قراءاته وكتاباته، إصدار سيرى النور قريبًا، مشروعي "لكلّ أسير كتاب"، الكتب التي وصلته وتلك التي في طريقها إليه، وكم هو ورفاقه متعطّشون للقراءة والتواصل الأدبي مع القرّاء والكتّاب عبر القضبان.
حدّثني عن علاقة تربطه بأصدقائي علي وجميل عمريّة (مرفق لوحة بريشة الفنّان جميل، ابن قرية إبطن) وطلب تبليغهم أشواقه وسلاماته.
تحدّث بحِرقة عن الانشقاق في الوطن، كلّ يشعر بأنّه "ظل الله على الأرض"، يوزّع شهادات شرف ووطنيّة... وتخوين في خدمة العدوّ. يحزّ في نفسه عدم الاهتمام بالأسير كحالة إنسانيّة، فهو أب/ زوج/ أخ... وجدّ وليس مجرّد رقم بطوليّ ونياشين.
تحرّك الشارع عواطف ومشاعر ومزاودات، وعقولنا ليست لها مفاتيح، كلّ منغلق بوهمه وفِكرِه ولا يطيق سماع الآخر، ونسينا أنّ الصفة المولودة مع الإنسان إنسانيّته.
حدّثني بتأثّره من كتابات فرانز فانون، فهناك فارق بين اللباس والجِلد، ليس من العيب تغيير لباسك، ولكن أن تغيّر جِلدك... والله عيب!
يحمل أحمد الهمّ اليومي والعنف المستشري في وسطنا، وما يتركه من أرامل وأيتام ومطلّقات لأتفه الأمور.
اعتقل وخلفه أطفال كبروا، وصار له أحفاد، هم شاغله الأكبر ويهتم بكلّ صغيرة وكبيرة تتعلّق بهم لعلّها تعوّضه عمّا حرم أولاده منه إثر اعتقاله وعدم تمكّنه من متابعتهم في حينه، كان حلمه أن يسمع كلمة "سيدي"، يا له من حلم كبير!
مرّت الساعات وأحمد يتحدّث بحماس... والأمل بالحُريّة القريبة يحلّق رغم السجّان الذي يلازمنا كلّ الوقت.
لك عزيزي أحمد أحلى التحيّات، الحريّة لك ولجميع أسرى الحريّة.
حسن عبادي
تموز 2020
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
[1] الأسير موسى صوفان، أُعتقل يوم 26 أيار 2003، حكمت عليه المحكمة العسكريّة الإسرائيليّة بالسجن المؤبد إضافة إلى خمس سنوات.
[2] الأسير حسام شاهين أُعتقل يوم 28 كانون الثاني 2004 حكمت المحكمة العسكريّة الإسرائيلية بحقّه حكماً يقضي بالسجن 27 عامًا.
[3] الأسير أحمد أبو جابر، أُعتقل يوم 8 تموز 1986 حكمت المحكمة العسكريّة الإسرائيلية بحقّه حكماً يقضي بالسجن المؤبد إضافة إلى عشرة أعوام.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت