- أسامة نجاتي سدر
غصنان من سيد مكة ورائدها (قصي بن كلاب) نَبَتُوا وأورقوا فخرج من عبد مناف زهرةٌ فاح عطرها المقدس حتى بلغ السماوات والأرض(محمد عليه الصلاة والسلام)، وخرج من عبد الدار زهرة سرى فيها عطر أختها وكرمها الله في الدنيا لتكون أجمل ما رأت العيون واصطفاها الله بخير العمل وحسن الخاتمة هو مصعب بن عمير.
كان شابا وأيُّ شاب؛ ترنو إليه عيون الرجال غبطة وحسدا على ما أعطاه الله من نعيمٍ بين أهله، وعيون النساء لحسن هندامه وعطره الفواح وشخصيته الباهرة، وكان له عند الله فضل وثواب ادّخره الله في علمه، تربى في بيت ورث سدانة (حجابة) البيت الحرام وحمل الراية في الحرب ودار الندوة، وهي ما يشبه مقر الحكومة في عصرنا حيث كانت مقر اجتماعاتُ سادةِ مكة، وفيه تتخذ القرارات المصيرية بخصوص مكة وأهلها وزوارها.
كان مصعب يتردد على دار الندوة ليرى إخوته الأكبر سنّاً يتناقشون مع سادةِ مكّة ويقررون ما يرونه في صالحها، وتعطر مجالسهم بذكر فضائل محمد عليه السلام وحسن أفعاله، وكانوا يحسدون بني عبد مناف على أنه بينهم، إلى أن سرت بين الناس أنوار النبوة وبدأ عليه السلام يدعو للتوحيد وترك عبادة الأصنام والأوثان، فتغير كلام السادة من المدح إلى الذم ومن الفخر والحسد إلى الاحتقار والتبرؤ، ومصعب يرقُبُ هذا الاختلاف في آراء السادة ويتعجب من اختلافهم في نفس الشخص خلال مدة قصيرة.
دارت في بيت مصعب نقاشات حول هذا الدين الذي اتبعه الموالي والعبيد، وبعضٌ من خاصة أبي بكر ومحمد ثم رجال لا ينقصهم العقل والتدبير سحرهم محمد عليه السلام بالقرآن الكريم، وكان رأي أمّه أن هذا الدين يمنّي العبيد بحسن المعاملة وربما الحرية، وتدغدغ الموالي والضعفاء فكرة المساواة مع السادة، أما السادة فما الذي يُغريهم بهذا الدين؟؟؟
وكان أخوه زُرارة (أبو عزيز) يقول بأن من المستحيل أن يدخل سادة مكة في هذا الدين حتى لو كان محمد عليه السلام صادقا لأن هناك توازنات من الصعب التنازل عنها، وقص زوج أخته حاجب الكعبة وحامل مفتاحها عثمان بن طلحة أنه دعاه إلى الإسلام فأبى، وحاول منعه من دخول الكعبة فقال له كلاما غريبا: "يا عثمان لعلك سترى هذا المفتاح يومًا بِيَدِي أَضَعُه حَيْثُ شِئْتُ"، أمّا مصعب فكان صامتا يفكر كيف يمكن أن يلتقي بمحمد عليه السلام ليفهم لم يصنع بقومه هذا، ومن أين يأتي بكلماته التي أثرت بالناس وبهرت عقولهم، وهو يعلم كأنما يلعب بالنار فما لأهله أن يقبلوا بالتعاطف معه أصلا.
أفاق مصعب والأفكار ما زالت تداعب قلبه وعقله فوجد بجانبه الطعام الذي تتركه له أمه كل يوم(تمر بالعسل) ولبس هدية(حلة شريت له بمئتي درهم) ولم يجد نعله الحضرمي لأن الخادم كان يلمعه، فخرج قاصدا دار الندوة يلقي التحية على إخوته وسادة مكة، ثمّ أنه قد دعاه صحب له للخروج للصيد، لكن قدميه جرته لدار الأرقم بن أبي الأرقم فدخل بشجاعة ليجد عددا من المسلمين يجلسون حول النبي صلى الله عليه وسلم يستمعون للقرآن ويتعلمون دينهم، فرح بعض الصحابة بدخوله طمعا في إسلام فتى مكة الأول، وهاب البعض أن يكون قد استخدمه السادة ليعرفوا مكان اجتماعهم، واستقبله الرسول عليه السلام وحدثه فوجده ذا عقل راجح وقلب سليم فأسلم رضي الله عنه وأرضاه.
ووجد مصعب ضالته في الدين الجديد فكان فيه اطمئنان للنفس وراحة للبال وبات رضى الله وجنّتُه طموحَه وتهون له الدنيا وما فيها، وبدأت تتغير حياته وتختلف معاملته مع الناس القريب والبعيد، ولم تلحظ أمه ذلك لأنه كان أكثر الناس برا بها قبل إسلامه، ولكن صهره عثمان بن طلحة لاحظ ذلك وبدأ يراقبه إلى أن رآه يصلي خلف النبي عليه السلام في شعب مكة فأخبر أمه وإخوته.
كانت أمه أم خناس بنت مالك صاحبة شخصية قوية لا يعرف عندها لين إلا مع مصعب، وكانت ترجو له أن يكون أحد سادة مكة يعظم آلهتها ويمضي على نهج آبائه، وما كانت ترى الإسلام إلا دين الضعفاء والعبيد وما لأتباعه إلا الشقاء والعذاب، وأشفقت على مصعب أن يُسلم ويترك دين قومه فتحول لينُها إلى قسوة ورفقها إلى غضب ودعت إخوته لينظروا في أمره، فطلب شقيقه زرارة (أبو عزيز) أن تتركه له بعض الوقت ليرده إلى دين قومه فمن أين لشاب غضٌّ مثله الشدة والصبر وهو أكثر شبابُ مكة ترفا وعطرا، فحبسه في غرفته ومنع عنه كل ما كان يعرفه من ترف العيش وطيب المأكل والمشرب، ولكن مصعب ثبت وصبر وظل يدعو أهله للدين الجديد، وأذن الرسول للصحابة الهجرة إلى الحبشة فبعث لمصعب في محبسه فأخبره بأنه مهاجر معهم ويسر الله له الحرية، وخرج مع الصحابة ولاقى فيها ما لقي من العذاب، لكنه صبر وتحمل عذاب السفر لكنه عاد لمكة بأول فرصة شوقا للنبي عليه السلام، فسلم عليه ثم أتى أمه فقالت له أتدخل مكة ولا تسلم علي أولاً، قال: والله مالي أعز من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: اذهب لشأنك، لم أعد لك أما، قال: يا أمة إني لك ناصح وعليكِ شفوق، فاشهدي بأنه لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، فقالت:".
"انظروا إلى هذا الذي قد نور الله قلبه، لقد رأيته بين أبويه يغذيانه بأطايب الطعام والشراب، ولقد رأيت عليه حلة شراها أو شريت له بمائتي درهم، فدعاه حب الله ورسوله إلى ما ترون."، وهذا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يقول" قُتل مصعب بن عمير وهو خير مني، فلم يوجد له ما يُكفَّن فيه إلا بردة، إن غُطي بها رأسه بدت رجلاه، وإن غطي بها رجلاه بدا رأسه، ثم بُسط لنا من الدنيا ما بُسط -أو قال: أُعطينا من الدنيا ما أُعطينا-، قد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام." رواه البخاري.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت