- د. فايز أبو شمالة
لم يكن أردوغان وحيداً وهو يفتتح مسجد أيا صوفيا، كان الرجل يتكئ على عصا التاريخ، يهش بها على حاضر تركيا، ويعزز دورها الإنساني، وقد سبقه إلى ذلك أدباء تركيا وشعراؤها الأحياء منهم والأموات، فقد تغنى اليساريون أمثال ناظم حكمت بالمكان قبل عشرات السنين، وتغنى اليمينيون أمثال أوجل أرزين بالمكان المقدس، حين زغردت كلمات قصيدته على قباب آيا صوفيا، حين ربط الرئيس التركي أردوغان بين الكلمات ومشاهد الافتتاح.
قصيدة آيا صوفيا تختزل الزمن في لحظة عشق للمكان، فالقصيدة ليست إبداعاً فنياً فقط، بل تعد انعكاساً للإبداع الحضاري التركي، القصيدة عكست النهضة التركية بكل معانيها، وبشرت بالغد الطامح إلى جمع أشتات الشعوب الباحثة عن الحرية، والمعادية للظلم.
تقول كلمات القصيدة التي جاءت باللغة التركية والعربية والقرغيزية والبوسنية والألبانية والأذربيجانية والكردية والبنغالية والسواحلية:
"آيا صوفيا، نلجأ إلى ظل قبتك من العاصفة والرعد والليل وحرارة الشمس الحارقة.
آيا صوفيا، سنقف أمامك دون خجل، وأنت ستفتخر بأحفاد الفاتح.
آيا صوفيا، أنت لست مجرد حجر، نردد اسمك للعالم بأعلى صوت.
نحن أحياء ونقف هنا لنردد: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
يا آيا صوفيا، أنت عزيز على قلبي منذ الأزل، أنت آلام سنوات صمتي المحتاجة للصوت
عيناي لا تعرفانك فهما مغمضتان، وأنت الدواء لهما"
كلمات القصيدة لا تحاكي الماضي فقط، وإنما تتقاطع مع المستقبل الناهض تحت قباب الماضي الذي يمثله مسجد آيا صوفيا، الذي كان الحامي من العاصفة والرعد والليل وحرارة الشمس الحارقة، ليؤكد اليوم أن الشعوب تبعث حية من خلال رموزها التاريخية، وأن زمن الخوف من الأعداء والمتآمرين قد ولى، ومع آيا صوفيا لم يعد للصمت مكان، وقد ارتفع صوت الآذان بذكر الله، وعاد الشعب التركي إلى زمن محمد الفاتح، زمن الحياة الفاعلة والمؤثرة بعد سنوات الموت الطويلة التي دفنت تاريخ الدولة العثمانية.
كلمات القصيدة التي غناها أردوغان لحظة افتتاح المسجد تفيض بالمشاعر القومية والوطنية والدينية والإنسانية، وتفيض القصيدة بمعاني الوحدة والتوحد حين تقول كلماتها:
"من أجلك اجتمعنا، أبناء الجبل والصحراء والبحر، نحن المشتاقون لبعضنا.
نحن حلم سيدنا إبراهيم. فلتصدح أصوات أحفاد بلال الحبشي في هذا المكان الذي يجمعنا ويوحدنا بيضاً وسوداً
أتيناك بسلام مكة المكرمة والمدينة المنورة والمسجد الأقصى.
الشمس والقمر معا تحت قبتك البريئة
والآن نحن على أعتابك بأقدام حافية، تقف على الرمال الساخنة.
أنت كفاحنا، وقوتنا. أنت رمز خلاص الإنسانية الجريحة
آيا صوفيا.. دع الرياح تهب في قبتك، فمنذ الأزل حريتنا حريتك، أنت لنا، ونحن لك"
حين يربط الشعراء بين مسجد آيا صوفيا بدلالته الرمزية وبين خلاص الإنسانية، فهذه شهادة ميلاد لحضارة تليدة، تقوم على العدل والحرية والمساواة والتآخي، وكل ما سبق من معانٍ إنسانية كانت المحرض لطغاة تركيا لإعدام الكاتب التركي عثمان يوكسل سردنغتشيت، سنة 1983 بسبب مقالة كتبها تحت عنوان "آيا صوفيا" قال فيها:
"آيا صوفيا! أيها المعبد العظيم، لا تقلق سيحطم أحفاد الفاتح كل الأصنام، ويحولونك إلى مسجد، ويتوضؤون بدموعهم، ويخرون سجدًا بين جدرانك، وسيصدح التهليل والتكبير ثانية بين قبابك، وسيكون هذا الفتح الثاني، وسيكتب الشعراء عنه الملاحم، وسيصدح الأذان من جديد وأصوات التكبير من تلك المآذن الصامتة اليتيمة، وستتوهج شرفات مآذنك بالأنوار تقديسًا لله وشرف نبيه، حتى إن الناس سيظنون أن الفاتح بعث من جديد، كل هذا سيحدث يا آيا صوفيا، والفتح الثاني سيكون بعثًا بعد موت"
لقد تحقق البعث بعد موت، ذلك الموت الذي سمح لعصابة الصهاينة بإقامة دولة على أرض فلسطين، وأن تسيطر على بلاد العرب، وأن تكون لها الكلمة العليا في المحافل الدولية، إنه البعث الذي يرعب الصهاينة وأعوانهم، ويفرح عشاق الخلاص من ظلم الطغاة والمحتلين، وهم ينشدون نصيبهم من نهضة تركيا حرية وعدالة وكرامة إنسانية
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت