- بثينة حمدان
يُعلنُ الكثيرون منا نبذها فجأة رغم أنها تلبي احتياجاتنا وتمنحنا وقتاً ممتعاً وثرياً، إنها الثقافة والفنون والموسيقى، نعيش معها في تناقض واضح ما بين الفعل –بمتابعتها- وردة الفعل على الأعمال الفنية والثقافية والفاعلين فيها. ورغم دورها في حياة الشعوب خاصة التي تعيش تحت الاحتلال أو جائحة أو أي ظرف ما، إلا أن هناك انتقاد ورفض لوجودها في الأزمات ومحاولات للتقليل من شأنها أو اعتبار استمرارها عيباً في ظل سقوط الشهداء والمعارك على الأرض، وربما نخاف من الاعتراف بدورها في حياتنا. بل واستهجان واستسخاف لمطالب الفنانين والمثقفين بالتعويض أو أي دعم حكومي بعد توقف أعمالهم، رغم أن التمثيل والغناء والفن التشيكلي والعزف وبيع الكتب هي مهن مثل أي مهن أخرى من حيث الضرر الواقع عليها وتوقف مصادر الرزق بسبب الكورونا. نتذرع بعدم جدوى الفن والثقافة "بالعربي مش رح تحررنا"! رغم أن معظم أوقاتنا نقضيها في المشاهدة أو القراءة لهذه الأعمال التي لولاها لأصيب الكثيرون بالاكتئاب مبكراً بسبب الحجر والخوف من المرض وتوقف مصدر الرزق والمشاكل الاجتماعية المصاحبة لذلك كله.
نعم اذا كانت نظرتنا بهذا الشكل المجرّد، فإن الثقافة والفنون لن تحررنا، ولن تجد دواءً لأي وباء، ولا حلاً لخربشات الأطفال على الجدران!! وضمن نظرة التجريد والتسطيح هذه، تصبح الحجارة أيضاً هزيلة أمام رشاش المحتل أو دبابته، كما يصبح دور الاعلام شكلياً، والمظاهرات عبثية... أما الحقيقة فهي مختلفة كثيراً؛ صورة واسم فارس عودة لا يمكن أن تنساها الذاكرة، فيها اصرار ودفاع ووطنية تشحذ هممنا وآمالنا وتجعلنا نستمر رغم الطوفان. كما لا ننسى ريشة ناجي العلي ولا حكايا أبو العبد لدى بهاء البخاري.. والتي تؤرخ لمرحلة كاملة من عمر الثورة الفلسطينية بل والفكر الاجتماعي.
في تاريخنا تتحدث الأغنية والأهازيج وقصص كنفاني وشعر درويش وسميح القاسم وبسيسو ورحلة طوقان الجبلية الصعبة وسخرية أميل حبيبي وصوت أبو عرب وفرقة العاشقين.. كل هذه العناصر الثقافية هي التي تذكرنا بكل شيء، بل وتعيد لنا المشهد بكل مكوناته؛ بصوت العاصفة وصرخة أم الشهيد وزيتونة عرفات، تذكرنا بصور نضالية، تؤرخ لمراحل الثورة بل وقصص الحب الماضية التي كانت تسكن ذاك الجيل أو الذي قبله. الأغنية أو المسرحية أو المقال ليست مجرد لون فني أو أدبي يستعرض الواقع أو يستحضر الخيال بل هي جزء من النقد للمرحلة وقياداتها، وساهمت في مسار التصحيح والتوجيه اللازم والضروري لحركات التحرر عموماً.
تحت الجائحة يؤرخ المشهد الثقافي العالمي والفلسطيني لحالة عامة، تستثير ابداع الفنانين والمثقفين، الكبار والصغار، كل على طريقته، حالة تستدعي المؤثرين في هذا المشهد لقيادة بوصلة الوعي بهذا الوباء، ولاطلاع المحجورين في منازلهم على التجارب المختلفة في الشعر والرواية والغناء والعزف والرسم والنحت والرقص الشعبي والمعاصر والاجابة على تساؤلات جيل ينشأ، تساؤلات تتكرر دوماً، تتعلق بـ: كيف يمكن أن أكون؟ سؤال بل هاجس الأجيال.
يعيش المثقف والفنان اليوم جائحتين: الأولى تتعلق بالاستخفاف به منذ نعومة أظافره، فلا يجد الكثير من الدعم، مما يجعله يشعر دوماً بأنه أقلية مهمشة ومضطهدة وهو المبدع والمتميز عن اترابه، بل إنه من يقود التاريخ والسياسة والتجديد. والثانية هي جائحة قد تكون أسوأ من كورونا، وهي أن يهزأ "المثقف" أو من يدعي الثقافة، بدور الثقافة في حياتنا، والتي هي أساس صراعنا وحكايتنا وهويتنا. الهوية ليست الوطن فحسب، بل هي كيف نفكر تحت الجائحة وبعد الجائحة ورغمها؟ الهوية هي من نحن؟ لمن ننتمي ولماذا؟
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت