- معتصم حمادة
واهم (مرة أخرى) من يعتقد بإمكانية تعليب الحركة الجماهيرية في قوالب «التفاهمات الثنائية»
■ الواقع أكثر تعقيداً مما يعتقد الكثيرون، وقلة من العلماء، ورجال السياسة والفلسفة والحكمة من أستطاع أن يلم بالقدر الأوسع من تعقيدات الواقع، وكيفية قراءتها، ومن ثم الوصول إلى فهمها، ورسم اتجاهات ومعايير التفاعل الإيجابي معها، وفق المنطق العلمي، الداعي إلى معرفة الواقع من أجل تغييره.
والحقيقة مطلقة، لكن معرفة الحقيقة نسبية، ويجهد العلماء والفلاسفة، وإلى جانبهم رجال الفكر والسياسة لمعرفة الحقيقة، في ظل إدراك عميق أن كل خطوة إلى الأمام على طريق المعرفة الحقيقية، من شأنها أن تطرح المزيد من التساؤلات وعلامات الاستفهام وكأننا ما زلنا أمام الخطوة الأولى في رحلة آلاف الأميال نحو معرفة الحقيقة. ولعل هذا ما دعا أحد الحكماء للقول «كلما ازددت معرفة، كلما ازداد جهلي». لأن كل خطوة على طريق معرفة الحقيقة تدفعنا للاقتناع أن الحقيقة أوسع مما نعتقد، أو مما كنا نعتقد.
الأسباب التي دعتني إلى هذه المقدمة، هي قراءتي لأداء السلطتين، سلطة الحكم الإداري الذاتي في رام الله، وسلطة الأمر الواقع في قطاع غزة، في إدارة «معركة» مواجهة مشروع الضم وتطبيقاته، على رأس الحركة الجماهيرية، في خطوات رتيبة لا تتجاوز حدود التظاهرات والمهرجانات والخطابات السلمية، لم تنجح كلها (نعم كلها) في حشد العدد المطلوب (أو ما نعتقده مطلوباً) ليعبر عن رفض «الجماهير» لصفقة القرن، وخطة الضم وتطبيقاتها، والالتفاف حول أصحاب الدعوتين، كما شرحتها لنا البيانات الرسمية التي لم تجد في هذه المهرجانات والتظاهرات سوى تأييداً لقيادات الطرفين، كل في موقعه، وكل في اتجاهه.
وقد أجهدت بعض الأقلام نفسها إلى حد الإرهاق في كيل المديح لهذه المهرجانات وهذه التظاهرات، وكأنها شكلت حدثاً استثنائيا في مسار القضية الوطنية، في تضخيم مفتعل لأعداد الحشد، وفي تجاهل مقصود لبنيته، وللقطاعات التي ينتمي إليها. في الوقت نفسه تجاهلت، تماماً، المقارنة بين هذه «الحشود الجماهيرية» وتلك التظاهرات الغاضبة التي نظمتها نقابات المعلمين العموميين، والموظفين والعمال، إن في الدفاع عن مصالح المعلمين وحقوقهم، بعد أن أخلت السلطة في وعودها لهم، أو في رفض مشروع للضمان الاجتماعي، التقى (!) على رفضه العمال وأرباب العمل، كل من موقعه، في لحظة من شأنها أن تمكن القارئ النبيه لإدراك مغزى هذا الالتقاء وقراءة خلفيته.
والآن يجري التمهيد والترويج والدعاية لمهرجان غزة، الذي التقت الحركتان فتح وحماس، على تنظيمه، بحيث يكون منبراً للعديد من الكلمات، من بينها كما قيل واحدة للرئيس عباس، وأخرى لإسماعيل هنية، في وقت تتحدث فيه السلطة عن استعدادها للعودة فوراً إلى طاولة المفاوضات بمرجعية «الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية وتحت رعاية الرباعية الدولية» ويتحدث فيه رئيس المكتب السياسي لحماس عن إصرار حركته على «التحرير الكامل» لأراضي فلسطين.
بدورنا نقول «نعم لهذا المهرجان»، ونعم لغيره من المهرجانات والمسيرات والاعتصامات.. في رفض الضم وفي رفض الاحتلال؛ دون أن يساورنا أي وهم أن هذا هو السقف السياسي الذي وصلت (والذي يمكن أن تصل إليه) الحركة الشعبية في الضفة وقطاع غزة، ودون أن يساورنا أي وهم أن هذا وحده، من شأنه أن يستنهض الحركة الشعبية الفلسطينية. فالمواطن الفلسطيني بات أكثر وعياً من العديد من القيادات المنفصلة عن الواقع. والمواطن الفلسطيني بات أكثر وعياً وقدرة على قراءة السطور، وما بين السطور وما خلف السطور، ولم تعد الشعارات الرنانة، والخطابات الثورية، والكلمات الكبرى، والتهديدات بالويل والثبور، والرد المزلزل، تعني له شيئاً أمام الواقع الذي يعيشه والذي وصفناه بأنه أكثر تعقيداً مما يعتقد الكثيرون.
* * *
من سخريات الواقع (ومأسيه في الوقت نفسه) أن الطرفين، وهما يتزعمان، كما يقدمان نفسيهما، قيادة الحركة الجماهيرية، لا يترددان، في الوقت نفسه عن رسم حدود لسقف وطبيعة هذه الحركة، خاصة في المجال الاجتماعي.
ففي القطاع، على سبيل المثال، تدخل حركة «بدنا نعيش» في لائحة المحرمات، ونعتقد أن لدى الأجهزة الأمنية الملفات الضرورية للإحاطة المعلوماتية والأمنية بعناصر هذه الحركة ونشطائها، ما يبقيها تحت الأنظار، وكأنها مصدر خطر ومصدر شغب، وليست، كما يفترض أن تقرأ، وأن ينظر إليها، معياراً ومؤشراً بيانياً لواقع الأحوال الاجتماعية والمعيشية في القطاع، وأن هذه الحركة، التي لا تنتمي إلى فصيل بعينه، والتي شكلت مصدر إلهام للشباب، باتت تعبر، في صرخاتها وشعاراتها، عن وجع رب العائلة، وربة العائلة، والشباب العاطل عن العمل، والتاجر بكساد بضاعته، والمزارع بخسائره الموسمية.
فكيف يستوى، إذن، أن وتطالب الحركة الجماهيرية بالنهوض للدفاع عن مصالحها الوطنية في وجه الحصار والاحتلال والاستيطان والضم، ويحرّم عليها في الوقت نفسه أن تنهض لتطالب بحقها في الحياة وأن تصرخ من الوجع «بدنا نعيش».
هذه الحركة لا تتطلع خارج الحدود، ولا زال الأمل يداعب مخيلات نشطائها ويقدم نموذجاً حيوياً، بديلاً لنماذج الانتحار البائس.
وإذا كانت هذه الحركة، وكل حركة مجتمعية أخرى، لا تتوجه إلى السلطة في مطالبها، فلمن تتوجه إذن؟ من يتقدم لتولي السلطة عليه أن يتحمل واجباته ومسؤولياته. فالسلطة ليست مصالح ونفوذاً مالياً وسياسياً واقتصاديا واجتماعيا سلطوياً فحسب، والسلطة ليست بدلة مموهة مرصعة بالنجوم، وليست مكاتب وأثاثاً فاخراً. السلطة واجبات نحو المواطن. هكذا علمتنا الحياة.. وهكذا علمتنا تجاربنا وتجارب باقي الشعوب.
أما في الضفة الفلسطينية فالوضع ليس أفضل حالاً. القبضة الثقيلة للسلطة لا تفسح في المجال لأي تحرك لا تهيمن عليه من فوق، عبر أدواتها الأمنية والحزبية. وكل تحرك خارج إطار هذه الحدود، هو تمرد يستحق كل أشكال القمع. الناشطون دفاعاً عن حقوق الإنسان يتعرضون للاستدعاء والتحقيق. وكذلك الصحفيون ورجال الإعلام (في الضفة كما في القطاع) والناشطون في المجتمع المدني ضد الفساد وغيره من مظاهر انتهاك السلطة وسوء استعمالها. بينما الكثير ممن يتجاوزون القانون وينتهكونه، لا تطالهم يد السلطة، في تسويات تتم خلف جدران المصالح الفردية التي باتت مكشوفة حتى لمن يعيش بعيداً عن أرض الضفة المحتلة.
مرة أخرى نقول إن السلطة ليست مكاسب ونفوذاً فقط، بل هي واجب ومسؤولية. وإذا كان من الممنوع على المواطن أن يتوجه إلى السلطة في شكواه واحتجاجه ومطالبه المحقة في العيش الكريم، فلمن يتوجه إذن.
ألا تصل إلى بعض السلطة تلك الهمسات، بل وأحياناً الصرخات التي يدفعها اليأس للترحم على أيام الاحتلال وسيطرته المباشرة على الضفة؟
* * *
من أهم شروط نهوض الحركة الجماهيرية، هو أن تتوفر لها أجواء الديمقراطية والحرية، دون أن يعني ذلك انتهاك القانون بالطبع، فالقانون يكفل للمواطن الحرية والديمقراطية وحرمانه من هذا الحق، على يد السلطة، هو الانتهاك الحقيقي للقانون.
ومن أهم شروط النجاح في إدارة السلطة هو التصالح مع القانون والحرص على تطبيق القانون بكل جوانبه، ما للسلطة للسلطة، وما للمواطن للمواطن، بما في ذلك حقه في العيش (بدنا نعيش) وحقه في مكافحة الفساد، وحقه في انتقاد سياسات السلطة وكيفية مواجهتها للاحتلال وسياسات وممارساته.
أـما من يعتقد أن يستطيع (مرة أخرى) أن يعلب الحركة، الجماهيرية، في قوالب تصنعها هذه السلطة أو تلك في الضفة أو في القطاع، أو في قوالب تنتجها «تفاهمات» الطرفين، فإنه يفتقر إلى القدرة على رؤية واقع بتعقيداته، ولا يدرك في الوقت نفسه أن الحقيقة مطلقة، أما معرفته للحقيقة فهي نسبية ليس إلا.
ومعرفتنا النسبية بالحقيقة تقول لنا:
لا ديمقراطية مع أوسلو ... ولا ديمقراطية مع الإنقسام■
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت