آيا صوفيا.. حين تنكشف المواقف وتزول الأقنعة

بقلم: سري سمور

سري سمور
  • سري سمور
  • كاتب ومدون فلسطيني

المنهاج الدراسي الذي درسه أبناء جيلي، في المرحلة الابتدائية (الأساسية الأولى) والإعدادية (المتوسطة) كان يحتفي بالسلاطين العثمانيين الأوائل، ومنهم السلطان محمد الثاني (الفاتح) وكيف قام هذا السلطان بفتح مدينة القسطنطينية التي ظلت عصية على جيوش المسلمين منذ صدر الإسلام، وأنه قام بعد فتحها بتحويل كنيسة القديسة آيا صوفيا إلى مسجد، ووضع الهلال مكان الصليب في عام 1453م.

وفي الأيام الماضية جرى جدل كبير واسع، حول إعادة آيا صوفيا إلى مسجد من جديد، بعد 86 سنة من تحويله بقرار من مؤسس الجمهورية التركية العلمانية مصطفى كمال أتاتورك إلى متحف، وقد أقيمت أول صلاة جمعة في مسجد آيا صوفيا في ذكرى توقيع معاهدة لوزان (وقعت في 24 يوليو/تموز 1923م) في إشارة رمزية إلى أن تركيا تتجه نحو حالة جديدة من الاستقلال بقرارها، وأن هذا شأن سيادي داخلي، لا يحق لأحد الاعتراض عليه، وأيضا إشارة رمزية قوية أن تركيا صارت تمتلك قرارها واستقلالها التام، ولا تأتمر بأمر عواصم أو سفارات غربية مثل حال كثير من دول المنطقة.

فرح وغضب

الشعور الطبيعي لأي مسلم حقيقي هو الفرح لعودة هذا المكان بيتا من بيوت الله يرفع فيه الأذان وتقام فيه الصلوات المفروضة والنوافل، وتخطب فيه الجمعة، وتعود له دروس وحلقات العلم، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فرح بأن دولة مسلمة قررت قيادتها ومؤسساتها الاستقلال بقرارها وعدم الرضوخ إلى ضغوط الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة التي انتقدت القرار وطالبت القيادة التركية بإبقاء آيا صوفيا متحفا.

 

ومشاعر ومواقف الغضب من دول وجهات كنسية غربية قد تبدو مفهومة، كيف لا وتقارير تشير إلى أن صاحب الفكرة هو الأمريكي توماس ويتمور (Thomas Whittemore) الذي بعلاقاته بأجهزة مخابرات وعلاقات شخصية واجتماعية وغيرها أقنع قادة تركيا الذين دشنوا الحكم العلماني القومي بتغيير هوية مكان ظل مسجدا لحوالي 480 عاما.. غضبهم وحنقهم يبدو مفهوما من حيث الدوافع والأسباب وطبعا يضاف لهم أولئك الذين يسيرون في فلكهم ممن ينطقون بلسان عربي وهواهم وفكرهم وميلهم على يمين اليمين الغربي الحاقد، لدرجة أن أحدهم قد انسحب من مناظرة تلفزيونية بلا مبرر منطقي بعدما نال بلسانه من العثمانيين والسلطان الفاتح :-

أما المستهجن والمرفوض بل المكلل بالعار والشنار أن يقوم مسلمون ومنهم من يتبوّأ منصبا رسميا في مؤسسة دينية لدولة عربية مسلمة بالتدخل أولا في شأن تركي داخلي سيادي، وثانيا باللجوء إلى سلاح الفتوى المسيسة لرفض إعادة آيا صوفيا إلى مسجد، فهذا لعمري يدفع المرء إلى الحزن والأسى والشعور بالمهانة، ذلك أن التدخل في موضوع آيا صوفيا برفض الإجراء الذي اتخذته مؤسسات الدولة التركية، مرده الحقد على شخص أردوغان وتوجهاته في المنطقة، قبل أن يكون بل دون أن يكون للأمر علاقة بالحلال والحرام، ويجوز أو لا يجوز. فالرئيس التركي أردوغان رفض حتى الآن الاعتراف بنتائج الانقلاب العسكري في مصر، ووقف ضد النظام في سورية، والثالثة التي أثارت غيظ القوم، وقوفه مع حكومة الوفاق في ليبيا ضد الجنرال الانقلابي خليفة حفتر، والمدعوم سرّا وعلنا من قوى غربية، ودول عربية معروفة بدعمها للثورات المضادة.

 

ومن الجدير بالذكر أن معاهدة لوزان آنفة الذكر نصت على تخلي تركيا الجديدة عن حقوقها في الدول العربية ومنها ليبيا التي احتلها الطليان قبل المعاهدة بحوالي عقد من الزمن، ويدرك هؤلاء أن تركيا بإعادة آيا صوفيا مسجدا في ذكرى توقيع المعاهدة، مع تدخلها الفعلي في الأحداث في ليبيا ترسل رسائل قوية سياسيا وعسكريا بأنها لم تعد تركيا المنكفئة على ذاتها، أو التي يقتصر دورها على تنفيذ رغبات الدول العظمى والكبرى، وأنها لم تعد منسلخة عن تاريخا الطويل في حماية ورعاية المسلمين الذين قادت مسيرتهم قرونا طويلة، وبدل أن يفرح هؤلاء ويفصلوا بين موقفهم المناوئ لأردوغان، وبين عودة أو لنقل بداية عودة دولة مسلمة كبيرة إلى هويتها وحضارتها، وقفوا موقف المناكفة وكيل الشتائم والمزايدة-بغطاء ديني أو سياسي- لخطوة يفترض أن يرحبوا بها، أو على الأقل يسكتوا ولا يعلقوا عليها، فما صدر منهم وعنهم كشف حقائق توجهاتهم المعادية للهوية والثقافة الإسلامية، وليس لتيار أو حزب أو جماعة، مثلما ظلوا يزعمون طوال السنوات الماضية…عودة آيا صوفيا بمثابة النازع لأقنعة الزيف والتضليل كما تبين.

فتح ملفات منسية

من حسنات عودة آيا صوفيا إلى مؤسسة الوقف الإسلامي التركي، فتح ملفات المساجد والأبنية التاريخية الإسلامية في العديد من بلدان العالم التي حولت إلى كنائس أو متاحف أو بارات أو مطاعم أو حتى زرائب للحيوانات، لا أقول بأن هذا الموضوع لم يكن متداولا، ولكنه انتقل من أرشيف التوثيق التاريخي، إلى فضاء التفاعل الموضوعي المكثف، وفي صدارة المساجد التي تم تدنيسها وتغييرها وتحويلها، مساجد في فلسطين المحتلة تحدث عن بعضها راعي كنيسة اللاتين في غزة سابقا رجل الدين المسيحي الفلسطيني (منويل مسلّم):-

المسجد الأقصى والصهيونية

وهذا يقود إلى أهم مسجد يتعرض للاعتداءات اليومية، والتهديد بتقسيمه الزماني والمكاني، بل حتى هدمه لإقامة هيكل مزعوم مكانه أي المسجد الأقصى المبارك، وهو ثالث مسجد عند المسلمين بعد المسجدين الحرام والنبوي، وقبلتهم الأولى، ومسرى النبي محمد-صلى الله عليه وآله وسلم- وجوهر الصراع بين الحركة الصهيونية والشعب الفلسطيني خاصة وعموم العرب والمسلمين عامة.

ذلك أن إسرائيل قامت وتقوم بدعم مطلق من الدول الغربية التي أسستها وأمدّتها بأسباب القوة العسكرية والسياسية والإعلامية، وباركت علنا أو بالتواطؤ جرائمها بحق المسجد الأقصى، ومدينة القدس التي اعترف ترمب رئيس الولايات المتحدة أهم وأكبر وأقوى دولة غربية، بها عاصمة للكيان العبري ونقل سفارة بلاده إليها، وبالمناسبة لو فاز منافسه بايدن فلا تراجع عن هذا القرار-إلا في حال حدث تغير دراماتيكي غير متوقع- لأنه قرار كان يتم تأجيله من الرؤساء السابقين وهو توجه دولة لا خيار ونزوات رئيس أو مسؤول، وعودة آيا صوفيا إلى أصله دفعت الشيخ رائد صلاح وهو شيخ الأقصى، إلى اعتبار الأمر بشارة بعودة السيادة الإسلامية إلى المسجد الأقصى المبارك:-

وهذا الرجل  قضى سنوات طويلة من عمره مدافعا عنه، ومرابطا فيه، وداعما لكل المرابطين والمرابطات فيه، وهو سيدخل بناء على حكم محكمة إسرائيلية السجن في أيلول/سبتمبر القادم ليقضي حكما مدته 28 شهرا، وهي ليست المرة الأولى التي يعتقل فيها الشيخ ويضاف لها ملاحقته ومضايقته وفرض الإقامة الجبرية عليه ومنعه من دخول المسجد الأقصى مرات عدة، والسبب هو تصديه للعدوان الإسرائيلي المتواصل على المسجد الأقصى…وبالتالي لا يمكن المزايدة عليه، وكلامه ردّ على من يقول: ما علاقة آيا صوفيا بالمسجد الأقصى، أو من يزاود ويقول: ليحرك أردوغان جيشه لتحرير القدس والأقصى الآن، وهو يدرك أنه لو اتخذ قرارا كهذا حاليا ستقف في وجهه جيوش دول يدافع هذا المزايد عنها أو هو تابع لها…لكن العبرة أنه كما تحوّل آيا صوفيا بقرار أو بإيحاء غربي إلى متحف، فإن المسجد الأقصى المحتل بدعم وسلاح غربي سيعود إلى أهله قريبا إن شاء الله.

وفي كل الأحوال فإن عودة آيا صوفيا إلى ما كان عليه على يد السلطان محمد الفاتح-رحمه الله- حمل رسائل سياسية عدة واضحة لكل ذي بصيرة من جهة، وفتح أعين المسلمين على مساجد وأبنية لهم دنست وحوّلت إلى ما ذكرنا، وأيضا كشفت وجوها وأقنعة كثير ممن ينتسبون إلى العرب والمسلمين الذين تخلّوا عن تلك الأقنعة وأعلنوا صراحة أنهم يقفون على الجانب المعادي لتراث الأمة وثقافتها وتاريخها والأهم كرامتها وعزتها.

 

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت