أسرار زير نساء محترم

بقلم: إبراهيم أبو عواد

إبراهيم أبو عواد
  • إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

 

     بدايةً ، ينبغي القول إن عبارة " زِير نساء " تُطلَق على الشخص الذي يُحادِث النساء ويُزاورهن . قال ابن منظور في لسان العرب : (( قِيل : الزِّير المُخالِط لهنَّ في الباطل . ويُقال : فُلان زِيرُ نساء إذا كان يحب زيارتهن ومحادثتهن ومجالستهن . سُمِّيَ بذلك لكثرة زيارته لهن )) .

     وتفكير الرجال في قضايا العشق والغرام يختلف عن تفكير النساء . وهناك عبارة شهيرة في هذا السياق : (( الرجال يعشقون النساء من المظهر، والنساء يعشقن الرجال من الكلام، لهذا السبب ، النساء يضعن المكياج ، والرجال دائمًا يكذبون ! )) .

     وهذا يُشير بوضوح إلى انجذاب المرأة إلى كلام الرجل وعباراته اللطيفة وتلميحاته الشاعرية. ولا يوجد أفضل من الشعراء للعب هذا الدور الحسَّاس ، فهم القادرون على زخرفة الكلام ، والتلاعب بالألفاظ ، وصناعة المعاني والصور الفنية المؤثرة . لذلك ، ليس غريبًا أن يكون أغلب أبطال قصص الحب في التراث العربي هُم مِن الشعراء . إنهم يصنعون الكلام ، ويُخلِّدون اللحظة .

     ومِن الشعراء البارزين في مجال العشق والغرام ، مسلم بن الوليد (140هـ _ 208 هـ ). وهو فارسي الأصل ، عربي الولاء . ويُعتبَر رأس مدرسة البديع ( عِلم تُعرَف به وجوه تحسين الكلام، من حيث الألفاظ ووضوح الدلالة ، على نحو يُكسِب التعبير الشعري طرافةً وجِدَّة ) .

     انقطعَ إلى يزيد بن مزيد الشيباني أحد كبار قادة هارون الرشيد. وعندما صارت مقاليد الأمور في يد الفضل بن سهل وزير المأمون في أول خلافته، قرَّبه وأنعم عليه بالمناصب والأموال والضِّياع. وقد أنفقَ أمواله الكثيرة على الخمر والنساء ، وكان شغله الشاغل هو تلبية شهواته ولذاته . ولَمَّا قُتِل الفضل ، لزم مسلم بن الوليد منزله ، وتركَ اللهو ، وأقبلَ على العبادة ، حتى وفاته .

     عُرف مسلم بن الوليد بلقبه " صريع الغواني " ، وقد لقَّبه هارون الرشيد بِه ، لِقَوله في قصيدته التي مدحه فيها : ( هل العَيشُ إلا أن تروحَ معَ الصِّبا ... وتغدو صَريعَ الكأسِ والأعينِ النُّجْلِ ).

     والغواني جَمْع غَانِيَة. والغانيةُ هي التي استغنت بجمالها عن مدح الناس ، أو التي غَنِيَتْ بزوجها عن غَيْره .

     كان مسلم بن الوليد مفتونًا بجمال النساء ودلالهن، وحريصًا أشد الحرص على إقامة العلاقات معهن . وعبَّر عن ذلك بأشعار كثيرة ، وصُوَر فنية شديدة التأثير ، وكان مُقبلًا على اللهو مع النساء ، ونَيل لذة المغامرات الغرامية . لكنه لَم يغرق في المُجون ، ولَم يُجاهر بارتكاب المعاصي والآثام مِثل الشاعر أبي نُوَاس ، الذي احترفَ المجون جِهارًا نهارًا . لقد أقامَ مسلم بن الوليد علاقاته الغرامية بعيدًا عن الأنظار ، وصنع عالمه السحري مع الخمر والنساء في الظل ، وراء الأبواب المغلقة. وكانَ يظهر أمام الناس كرَجل وقور ، وزَوج صالح مُخلِص لزوجته ، ويتحرَّك في المجتمع بكل أدب واتزان وهدوء . وكان حريصًا على اسمه وسُمعته وكرامته ونظرة الناس إليه .

     لكن السؤال الذي يطرح نَفْسَه : ما سبب هذا التناقض الصارخ في حياة مسلم بن الوليد ؟ . إنه يعيش حياتين مُنفصلتين، حياة في السر، وحياة في العلن . ولكل حياة أسلوبها الخاص ومشاعرها المحدَّدة . ما الذي يُجبره أن يكون إنسانًا مُزْدَوَجًا _ إن جاز التعبير _ ؟ .

     لقد وقع هذا الشاعر في صراع بين رغباته الذاتية والقيود الاجتماعية. أرادَ الانطلاق والتحرر من قوانين العقل الجمعي التي تفرض على الفرد أن يضبط شهواته وغرائزه ، ولا يُطلِق لها العِنان. ومن خالفَ هذا الأمر، فإنه سيتعرَّض للاحتقار واللوم والفضيحة والتشهير ، وتُصبح سُمعته سيئة للغاية ، ويتم نَبْذه ، وتسليط الأضواء عليه كعنصر فاسد في المجتمع .

     وهذه العقوبة لا يَقْدِر الشاعر على تحمُّلها، ولا يستطيع أن يدفع ضريبة الانشقاق عن الاتجاه العام في المجتمع. لذلك اختار الحياة السِّرية البعيدة عن الأضواء. ومَهما كان السَبَّاح قويًّا وعنيدًا ، فهو لا يستطيع أن يسبح ضِد تَيَّار النهر ، لأن العقل الجمعي أقوى من العقل الفردي . والكثرةُ غَلبت الشجاعة .

     بنى مسلم بن الوليد حياته بشكل مُزدوَج، كَي يُحقِّق رغباته وشهواته، ويُلَبِّيَ طموحاته الشخصية ، وفي نَفْس الوقت ، يُحافظ على نظرة المجتمع له باعتباره رَجلًا فاضلًا ذا سُمعة طيبة ، ويتمتع بِحُسن السيرة والسلوك . وهكذا ، يَضرب عصفورين بحجر واحد .

     إن هذا الانفصام في الشخصية له تبعات شديدة الخطورة على النَّفْس ، لأن يُحوِّل الإنسان إلى كائن اصطناعي هُلامي يَلعب على الحبلَيْن ، ويخلط الأوراق تبعًا لثنائية ( الوجه / القناع ) . وبالتالي ، يدخل الإنسان في حرب مع نفْسه ، ويخسر الانسجام والطمأنينة وراحة البال ، ويفتقد إلى قيمة التصالح مع الذات . وعندئذٍ ، يغيب السلام الداخلي والأمن الروحي ، ويفقد الإنسان قدرته على صناعة الفِعل، لأن حياته تصبح رَدَّة فِعل لأحكام الآخرين، أي إنه يَخسر رُوح المُبادَرة، ويصبح شبحًا هاربًا من الضوء إلى حياة الظل، ومرآةً تعكس حياةَ الآخرين ، ولا تشعر بحياتها الخاصة .

 

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت