- أسامة نجاتي سدر
شارف النهار أن ينتصف واشتدت حرارة الشمس عما يتحمله الناس، فهربوا إلى القيلولة بالظل ولكنّ خبابا لا زال يعمل مقابل التنور في صنع السيوف لزبائنه، الذين لا يقبلون سواها لمهارته وشدتها، علّه ينتهي من دفع المال ثمنا لنفسه ويصبح حرّاً مرة أخرى كما كان، وسيدته أم أنمار لا تسمح له بالراحة ولا تترك له وقتا لنفسه إلا هذا، وهو ينتظر اليوم جليسه محمد عليه الصلاة والسلام ليبث له همه ويحادثه في أمر مكة وأهلها، وكان عليه السلام يخبره بأنه يأبى عبادة الأصنام ولا يرضى الظلم للحر أو العبد وسوء الخلق والربا ووأد البنات والربا وأكل مال اليتيم، وكان خباب يبادله الحديث ويخبره بيأس أن تلك الحجارة التي يعبدونها لن ترفع الظلم عنه أو أمثاله لأنها لا تستمع إلا لمن يقدم القرابين، لكن النبي يخبره بأن الله الذي يعبدون هذه الأصنام لتقربهم إليه زلفى لن يرضى دوام الظلم.
ومر حليفه وحليف سيدته عبد الرحمن بن عوف على دكانه، ولكنه بدا كرجل آخر وكأنما يراه لأول مرة، كان يتأمل فيه بعيون لم يكن يراها من قبل ويحس بأنه رجل آخر بنفس لباس الأمس، ولعله أخبره بضرورة أن يمر على مجلس أبي بكر أو يزور محمد فإن عنده السكينة والنور الذي ينتظره منذ كان طفلا عبدا لأم أنمار أو أخيها.
لقي خبابٌ النبيَّ في بيته ولم يكن بحاجة أن يحاور محمد عليه السلام أو يجادله، فهو جليسه وصاحبه الذي يحبه ويحترمه منذ زمن، وما كان للصادق الأمين أن يكذب في أمر السماء وما قال غير الصدق في أمر الدنيا، وعلم خباب أن حلمه بالعدل والرحمة بعد الظلم والجور قد اقترب، وأن الله نظر بعينه إلى المعذبين ورسم لهم مستقبلا أجمل، وكان على خباب أن يخفي إسلامه لكن، هيهات، ونور الله يشع في وجهه، وقلبه يرف من الفرح بنصر الله ورحمته التي كادت تملأ الدنيا، ولم يكن الفرح معتادا على وجهه.
وأحست أم أنمار بالسعادة تتسلل إلى قلب عبدها خباب برغم ما يعانيه من ألم وظلم، لكنها تجاهلت ذلك حتى علمت بأن صاحبه محمد عليه السلام يدعو إلى دين جديد، فأدركت سبب سعادته ودفعتها الحمية لدينها إلى مواجهة خباب وثنيه عن دين صاحبه الجديد كي لا تعيّرها قريش به أو تجد نفسها يوما دونه، فأخبرت أخاها سباع بن عبد العزى وجمعت بعض الرجال وأتت إليه تسأله إن كان ترك دينه واتبع محمدا صلى الله عليه وسلم، وما كان ليكذب وهو صاحب الصادق الأمين فلم ينكر وبدأ رحلة العذاب فانهال عليه الرجال ضربا حتى غاب عن الدنيا، وتركوه متوعدين إياه بعذاب أشد غدا، وتركته أم أنمار مرميا على الأرض حتى الصباح ووضعت على رأسه قضيبا حارا لتوقظه وتهدده إن لم يترك دينه الجديد لكنه ما كان ليعود وقلبه مطمئن بالإيمان، وتركته أم أنمار لتعود مع أخيها وزمرته ليأخذوا خباب منتصف النهار تحت الشمس الحارقة ليلقوه على أحجار ملتهبة ويدعسون على صدره حتى تدخل الحجارة في ظهره وهو لا يعطي الدنية في دينه.
وعلم أهل مكة بإسلام خباب وعذاب أم أنمار وأخيها، واغتاظ الناس حين سمعوا بأنه لم يتزحزح ولو بكلمة، فماطلوا بدفع أجرته وهي أشد ما يرجوه من أجل حريته، فهذا العاص بن وائل يرده قائلا:
- "لا أعطيك حتى تكفر بمحمد".
- "لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم حتى تموت ثم تبعث".
- "إذا بعثت كان لي مال فسوف أقضيك"
فرجع حزينا مسلّما أمره إلى الله وأخبر النبي عليه السلام فأنزل الله تعالى( أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا، أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا، كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا، ونرثه ما يقول ويأتينا فردا)، وشكى إلى النبي ظلم أم أنمار ووضعها الحديد الملتهب على رأسه فدعا له النبي: "اللهم انصر خبابا" فباتت تشكو صداعا لا يزول إلا إذا اكتوت بالنار على رأسها.
هذا الصحابي الجليل خباب بن الأرت (أبو عبد الله) الصابر المحتسب الذي لم يحتمل العذاب على صحبه وانهار حين رأى أثره على النبي، فسأله أن ينتصر الله لهم ويرفع عنهم العذاب، فبشره النبي عليه السلام بالراكب يسير من حضر موت إلى الشام لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، عوضه الله خيرا في الدنيا فكان له راتب من بيت مال المسلمين كعمار وبلال لسبقه وثباته رغم تعذيب قريش له، فكان لا يمنع منه مسكينا ولا جائعا وتوفي في الكوفة وكله خوف من الله ألا يجمعه بصحبه الذي اشتاق إليهم وافتقدهم حين رحلوا بكامل أجرهم وأكرمه الله في الدنيا، رحمه الله وما كان الله ليتركه دون أن يظهر نصره على ظالميه وقد دعا له نبيه صلى الله عليه وسلم.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت