-
أسامة نجاتي سدر
لا تنفصل قصة حياته عن حياة والده، أحد الرجال الذين رفضوا عبادة الأصنام والأوثان وبحثوا عن الدين القيم، من سادة بني عدي الكرام؛ عم عمر وزيد بن الخطاب رضي الله عنهما وصاحب الفضل الذي لم ينكره الناس حتى وإن خالفوه الفكر والمنهج، ضاق بما عبدت قريش من أصنام وأوثانٍ فخَرَجَ إِلَى الشام يَسْأَلُ عَنْ الدِّينِ الحق وَيَتْبَعُهُ، "فَلَقِيَ عَالِمًا مِنْ الْيَهُودِ، فَسَأَلَهُ عَنْ دِينِهِمْ.
إِنِّي لَعَلِّي أَنْ أَدِينَ دِينَكُمْ فَأَخْبِرْنِي.
لَا تَكُونُ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ.
مَا أَفِرُّ إِلَّا مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَلَا أَحْمِلُ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ شَيْئًا أَبَدًا وَأَنَّى أَسْتَطِيعُهُ؛ فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلَى غَيْرِهِ.
قَالَ: مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا.
قَالَ زَيْدٌ: وَمَا الْحَنِيفُ.
قَالَ: دِينُ إِبْرَاهِيمَ، لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَا يَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ.
فَخَرَجَ زَيْدٌ فَلَقِيَ عَالِمًا مِنْ النَّصَارَى، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، فَقَالَ: لَنْ تَكُونَ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ.
قَالَ: مَا أَفِرُّ إِلَّا مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ وَلَا أَحْمِلُ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ وَلَا مِنْ غَضَبِهِ شَيْئًا أَبَدًا وَأَنَّى أَسْتَطِيعُ، فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلَى غَيْرِهِ.
قَالَ: مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا.
قَالَ: وَمَا الْحَنِيفُ.
قَالَ: دِينُ إِبْرَاهِيمَ، لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَا يَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ.
فَلَمَّا رَأَى زَيْدٌ قَوْلَهُمْ فِي إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام خَرَجَ، فَلَمَّا بَرَزَ رَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْهَدُ أَنِّي عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ"، ورجع إلى مكة معلنا تبرؤه مما يعبد أهل مكة ويسند ظهره إلى الكعبة ويقول:" يا معشر قريش والذي نفس زيدٍ بيده ما أصبح أحد منكم على دين إبراهيم غيري، ثم يقول: اللهم إني لو أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك به، ولكني لا أعلم، ثم يسجد على راحلته".
تأثرت مكة بدعوة زيدٍ بين قبولٍ ورفض؛ فقد دغدغت كلماته قلوب بعضهم وجعلته يفكر بحال مكة وظلم أهلها وعبادة الأصنام والأوثان، مما دعا أخاه الخطاب أن يمنعه دخول مكة إذا ذهب للتحنث في غار حراء، واحتفظ زيد بمكانته في مكة واستمرت العيون تنظر إليه باحترام وتقدير، فهو من سادتها الأغنياء يُسند رأسه إلى الكعبة ويعظ الناس وكان يأخذ البنات اللواتي ينوي آباؤهن وأدهن ويكفيهم المؤونة ويربيهنّ ثم يعيدهنّ لأهلهنّ إن أرادوا، وحرم على نفسه ما ذُبح على الأنصاب، ويحذر أن الزنا يورث الفقر، فنقل الناس كلامه واستمروا بقص حكاياته حتى بعد بدء الدعوة الإسلامية، وقد سمى الخطاب ابنه على اسمه وبقي ذكره بذكر ابنه سعيد.
ذُكر أنّ زيدا كان يتحنّث في غار حراء كما كان عبد المطلب بن هاشم جد النبي يفعل ويتوجه إلى الكعبة ويسجد لله قانتا، وكان يدرس نصوص التوراة والإنجيل بشغف كي لا يفوته شرف اتباع نبي آخر الزمان، ولعله تفرّس بشباب مكة أيهم له هذا الشرف، وقد لقي النبي عليه السلام بأسفل بلدح(مكان في مكة) قبل الوحي وحين قدِّم له الطعام أخبره زيد: " إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه"، وحق لنبينا أن يعجب به ويصاحبه ويعجب بفكره ولهفته على اتباع الحق وخُلقه ؛ ومن يدري لعل زيداً رأى بنبينا عليه السلام علامات النبوة وكان ينتظر نزول الوحي إليه كصاحبه ورقة بن نوفل رحمهما الله؛ وقد حرص زيد أن يربي ابنه على أفكاره ومعتقداته، وفِكْرُ النّبي وخُلقَه الذي حباه الله به قبل النبوة سيجمع حوله الصالحين وأبناءهم، وهم سيكونون شركاءه في حمل الدعوة والذود عنها.
كان النبي ينتقي أصحابه الأوائل واحدا واحدا ويتفرس في شباب مكة أيهم يتقبل الإسلام ويمكن أن يعتمد عليه؛ ولو كان زيد حيا ما تركه الرسول لكنه مات قبل البعثة بثلاث سنوات أو خمس، وترك وراءه ابنه سعيد رضي الله عنه، وقد اتبع فكر والده وعقيدته حتى كان ابن عمه عمر بن الخطاب يضايقه ويثقل عليه ليرده عن ذلك، وكان يحمل على عاتقه أمانة من والده للمبعوث عليه السلام ويعلم بأنه لابد سيلقاه، وجاءت البشرى حين مر ابن أبي قحافة عليه ليخبره بأن محمدا عليه السلام يدعوه للإيمان بالله وحده لا شريك له وبأنه رسول الله يأتي بأمر الله من السماء ليتبعه أهل الأرض وأن عليه النصرة والثبات على الحق، فلم تسع الأرض فرحته ولم يشعر بقدميه تهرولان للقاء النبي والإعلان عن إيمانه ونقل السلام من والده رحمه الله.
لكن ... كيف يعود للمنزل والفرحة ستفضحه أمام ابنة الخطاب، بل لعلها ستشع من وجهه فتراها مكة بل الدنيا بأسرها، وهل سترضخ زوجته لرسول الله وتبايعه على الانقياد لله وحده فهي سمعت عن ما آمن به زيد بن عمرو وعلمت بأن سعيد يؤمن بما آمن به، واستجمع قواه ودخل بيته وما خرج إلا وزوجتُه على دينه، وعلم عمر بن الخطاب بأمره فأوثقه(حبسه وربطه) حتى أقنعه بأنه عاد عن إيمانه (وقلبه عامر بالإسلام) فتركه، ولعل سعيدا قد فتح عين ابن عمه زيد بن الخطاب على الإسلام فأسلم أيضاً.
وبدأ سعيد بمد يد العون للمسلمين الضعفاء ويشد من أزرهم بما رزقه الله من خير، ويتبادل وإياهم آيات القرآن الكريم وأحكامه في بيته، حتى أخبر أحد المسلمين المتخفين (نعيم بن عبد الله) عمر بأنه لا زال على إسلامه بل أنه جعل أخته فاطمة على دين محمد عليه السلام مثله كي يصده عن النبي وصحبه، فجن جُنونه، واقتحم عمر بيت أخته ليخرج مسلماً ويصبح أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأنعم به من بيت وأنعم بها من أسرة، وشهد سعيد المشاهد كلها وكان عاشر من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، وسابع من استخلف عمر لولا خشية عمر وتقواه من عظم المسؤولية وشدة حساب الله لم وليها "وأتى عمر بن الخطاب وسعيد بن زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن زيد بن عمرو بن نفيل فقال : غفر الله له ورحمه; فإنه مات على دين إبراهيم . قال : فكان المسلمون بعد ذلك اليوم ، لا يذكره ذاكر منهم إلا ترحم عليه ، واستغفر له".
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت