- بقلم /علي طقش ..
- مستشار وخبير تخطيط استراتيجي
بدأت الحرب، أو انتهت الحرب قبل أن تبدأ، حرب 1956، حرب العدوان الثلاثي حرب قناة السويس وحرب صمود بور سعيد وخان يونس... أحداث تتسارع وأخبار قتلى... الكل في ذهول، ضياع، خوف... لم نفهم نحن الأطفال ماذا يجرى حولنا؟ كلمات
جديدة... الحرب، الهروب، الطائرات، المدافع، الجيش، الملاجئ، الأمان كلها كلمات بدون معنى أو معنى جديد في ظل الظروف الحالية.
كان لنا كأطفال طائراتنا وحروبنا وهروبنا ومدافعنا وجيوشنا وهجومنا... آمالنا ولكنها لها معاني وأفعال بريئة كبراءة الأطفال وألعاب الأطفال... طائراتنا طائرات ورقية... نصنعها بأيدينا نطيرها... بخيوطنا نحارب بها طائرات أطفال الحارات الاخرى، كانت طائرات مزينه بألوان قوس قزح، وكان لنا هروبنا ونحن نهرب من الفريق الآخر في لعبة الاستغماية... وهروباً من الفريق الآخر أو الأستاذ عندما يقابلنا في الشارع بعد المدرسة ونختبئ في ملاجئنا في لعبة "عسكر و حراميه" أما الأمان فهو اللجوء إلى حضن الوالدة عند المرض، أو هرباً من الأب أو الأخ الأكبر عند احضار الشهادة من المدرسة، أو عندما نرتكب أخطاءنا الصغيرة بحجم أحلامنا البريئة.
فجأة تحولت همومنا اليومية السابقة ما قبل قتل حسن إلى مشاكل بسيطة غير مهمة لم تعد حتى تذكر، لم نعد نفكر أو نذكر التموين وعدم كفاية الحصة التموينية وقلق الأهل كيف يمكنهم استكمال الأسبوع الثاني بعد نفاذ الطحين وباقي مواد التموين التي كانت توزع على اللاجئين
كل أسبوعين... والتي كانت في معظم الحالات لا تكفي إلا لأسبوع واحد... كانت الأمراض الناتجة عن سوء التغذية والسير حافي الأقدام و واصابتنا بنزلات البرد والتهابات الصدر والسعال الديكي والسل، انهيار جدران الدار والأسقف بسبب الأمطار. فجأة انقلب الحال، حالة ضياع كامل، ذهول أسئلة كبرى، الهرب ولكن إلى أين؟ القطاع محاصر... مدينه غزة سقطت... الجيش الإسرائيلي وصل إلى قناة السويس، الحاكم الإداري لقطاع غزه سلم غزه وانسحبت القوات.
فجأة تحول المعسكر الذي نعيش فيه، إلى مدينة أشباح وأصبح المعسكر بارد وشوارعه التي كانت تضج بالحركة والمودة... أصبحت فارغة، حتى البيوت أصبحت فارغة... لا أعلم أين ذهب الناس...أقفلت المحلات، البقالات المحدودة في المعسكر، الفرن الوحيد مقفل، رجال و نساء يمرون مسرعين في الغالب فرادى يأتون ويذهبون... نظراتهم زائغة لا ينظرون إلى شيء... يحلمون في الفراغ...
مرت أيام لا أعلم عددها... كل ما كنت أشعر به ويمكنني تذكره... هي حالة الضياع و الذهول و الخوف من القادم المجهول... تحول أهل المعسكر إلى أفراد أو أجزاء من عائلات... لقد فقد المعسكر روح الجماعة التي كانت من أهم سماته، كثرت الأسئلة هل دخل اليهود؟ هل هناك هجرة ثانيه؟ هل سيكون هناك مذابح؟ هل انسحب الجيش المصري؟ أصبحنا بدون حماية، وهل وهل وألف سؤال وسؤال... ولا مجيب أين الراديو؟ وأين رجالات البلد؟ أين السياسيين أين الشباب والمعلمين؟ أين صوت العرب؟ رجال بملابس غريبة وملامح أغرب ليسوا جنوداً وليسوا من أهل المعسكر أو البلد، يمرون بسرعة دون أن يتكلموا مع أحد، بعضهم يطلب شربة ماء أو قميص أو جلابيه... وآخرين يسألون عن الطريق إلى رفح... كان معسكر خانيونس الغربي آخر مناطق مدينه خان يونس قبل الدخول إلى السوافي والأحراش الفاصلة بين مدينتي خان يونس ورفح.
مر العديد من الناس... وجوه غريبة من خارج المعسكر دون أن ندرى من أين أتوا ولا إلى أين هم ذاهبون؟
لم نعد نعلم الليل من النهار... استولى علينا القلق، الضياع والخوف، لا أدري هل تناولت الطعام؟ ولا أذكر أنني شعرت بالجوع وهل نمت أو أين نمت؟ لا أذكر ماذا حصل لجيراننا؟ أو هل لا زالوا في بيوتهم أم غادروها... الكل يبحث عن الأمان
جاءنا أخي الأكبر عبد الحميد... لا أدرى إن كانت هذه أول مرة يزورنا فيها بعد الحرب أم جاء قبل ذلك... ولكنه أتى في هذا اليوم وكان الوقت بعد الظهر... جاءنا كي يأخذنا معه إلى منزله داخل مدينة خان يونس... حيث كان يعيش وأسرته... دار نقاش طويل بينه وبين والدتي وأخي عبد الله... كان عبد الله هو الأخ الثاني من حيث السن "أربعة وعشرون" عاماً ، غير متزوج ويعيش معنا، كان بالنسبة لي بمثابة الأب والأخ والصديق، عبد الله كان هادئ المزاج، مرح، أنيق في حدود ما تسمح به ظروف الهجرة... عبد الله كان له حضور لا تخطئه العين... كان شلال من الحنان والأدب ذو ثقافه ملحوظة وحب للفن، هادئ الصوت عف اللسان وكان الأقرب إلينا أقصد أمي وأختي خديجه وحليمه وأخي الصغير ياسين... كان عبد الله اقرب عاطفياً وإنسانياً ووجدانياً، كان معنا وجزء من العائلة.
آه، أخي عبد الله... كنت أستمتع كثيراً عندما يأخذني إلي أقاربي ونحن نلعب في الحارة، يأخذني معه بعد أن يطلب من الوالدة أو إحدى أخواتي أن تحممني ويأتي إلي ببعض الملابس الجديدة، يكون قد اشتراها من البالة... يتأكد من أنني ألبس حذاء ويقول لي: "أنت اليوم صاحبي، تعال نروح مشوار".
عبدالله هو من علمني السباحة في بحر خانيونس
كان يضعني على ظهره ويسبح داخل البحر، كنت أشعر أنني أركب أكبر وأجمل وأأمن باخرة سياحية.
كان عبد الله غير موافق على أن نترك دارنا و الذهاب مع عبد الحميد... كان يشعر أن بقاؤنا مع من بقى من أهل المعسكر أكثر أمناً... وإن كنا سوف نخرج فسوف نخرج مع من سوف يخرج من الجيران إلى البحر أو إلى المواصي وهي الأراضي الزراعية على شاطئ البحر... دار نقاش لساعات وحسمت الوالدة القرار لصالح عبد الحميد فهو الأكبر وهو بالنسبة لها في مقام الوالد، ولنا جميعاً .
خرجنا مع عبد الحميد دون أن نأخذ معنا أي شيء...لا ملابس ولا أكل ولا شيء فقط خرجنا إلى البلد، إلى الأمان... إلى المنزل ذو الحوائط الإسمنتية العالية والسقف الإسمنتي... دخلنا بيت الأستاذ عبد الحميد طقش الشاعر و الأديب والمعلم والسياسي الذى مثل مدينة خانيونس كعضو منتخب في المجلس التشريعي لدورتين... منزله في مركز المدينة ليس على الشارع الرئيسي، بل في شارع فرعي جانبي... كان عبد الحميد قد انتقل إليه قبل فترة بسيطة... .منزله يتكون من غرفتين أمامهما برندة واسعه مسقوفه ومرتفعة عن قاع الدار... أمامها باحة المنزل... ساحه ممتدة ستة أمتار، تنتهى بالمنافع مطبخ وحمام، يرتفع في الباحة شجره نخيل معمرة... كان السبب بانتقالنا إلى دار عبد الحميد أنها أكثر أمناً... كان الصمت والحيرة والانتظار... انتظار المجهول هو سيد الموقف...
اليوم الثاني لوصولنا بدأنا التفكير في أمور الحياه اليومية... كنا احد عشر فرداً، في غرفه واحدة من المنزل، طلباً للأمان والدفء... شعرنا جميعاً بأننا بحاجة لتناول بعض الطعام... نعم، طعام... فلقد مر أكثر من يومين... قد يكون ثلاثة أيام بدون تناول أي وجبة طعام ولم نشعر بالحاجة للأكل... كان الخوف والقلق أكبر من الإحساس بالجوع أو النوم، علماء النفس يقولون فقدان الشعور بالأمن أقوى من الحاجه للأكل أو النوم... نظر الجميع إلى الوالدة طلباً للأكل ولكن من أين لها أن تجد ما يسد جوع أحد عشر شخصاً... فما جاع في بيت يعيش فيه أهله كما جاع أهالي خانيونس... من يوم إلى يوم... لا توجد ثلاجات ولا توجد امكانيات ماليه لتخزين المواد الغذائية... كان عبد الحميد ولأسباب سياسية وعقائدية وشخصية، منها الشعور بعزة النفس وتمسكه بعز زال قبل النكبة، عندما كان يعيش في منزل والده التاجر و صاحب الأرض وهو الأستاذ الذي يرفض الاعتراف، اللجوء و الهجرة، وكل ما نتج عنهما وخاصه وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، فلقد عاش عمره كله حتى توفى عام 1995 ولم يعترف بتلك الوكالة وأنشطتها، ولا التشغيل فرفض العمل في الوكالة رغم ارتفاع الراتب، رفض السكن في المعسكرات، ورفض الحصول على بطاقة الإغاثة.
"روح يا علي... روح ياما على بيتنا في المعسكر... ياما هناك شوية شعيرية وشوية خبز روح جيبهم" .
بيتنا في المعسكر يبتعد عن دار عبد الحميد أكثر من ثلاثة كيلومترات و للوصول إلى بيتنا نمر في أكثر شوارع خانيونس اكتظاظاً، محلات تجارية ومدارس ومنازل على جانبي الطريق... رجال، نساء، أطفال تسير في الاتجاهين طوال اليوم... عندما خرجت إلى الشارع كان الوقت بعد الظهر أكثر الأوقات تكون فيها الشوارع مزدحمة... لا أدري أي يوم كان... ولا كم يوم مر علينا في بيت عبد الحميد... كل ما أعرفه و أتذكره هو أنني شعرت مرة أخرى بالرهبة فورا بعد وصولي إلى الشارع الرئيسي في خان يونس شارع البحر، الشارع فارغ ، موحش، صامت، مهجور الأبواب مغلقة.
أسرعت الخطى... بل كدت أن أجرى كنت آمل أن أصل طرف المعسكر علي أجد أحدا أعرفه، أو جار أستأنس به... ولكنني لم أر سوى أطياف تمر مسرعة... يملأها الخوف...
وصلت دارنا فتحت الباب، أخذت ما وجدت، خرجت بسرعة لم أنظر إلى شيء كأنني أدخل مكان لم أعش به لسنوات... نمت فيه بأحضان الوالدة... وعلى ركبة الأخت والأخ، لعبت به مع الحبيب ياسين... وعدت كما جئت
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت