- بقام الأسير: كميل أبو حنيش
من يتأمل نصوص ديوان "في مديح الوقت" للشاعر الفلسطيني مرزوق الحلبي، سيجدها متنوعة وعميقة وفسيفسائية الألوان في الصورة الفنية، متوترة وهادئة وغاضبة وجريئة وقاتمة ومتفائلة، غير أنّ الثابت في هذه النصوص هو الوضوح النابع من مواقف مبدأيه يتبناها ويؤمن بها الشاعر، وهذه المواقف ليست لحظية أو انفعالية أو مختزلة وإنما ناضجة ومكتملة وابنة زمانها ومكانها ومنسجمة مع المرحلة التاريخية بأوجاعها ومفارقاتها وتناقضاتها .
إن كانت هذه النصوص تمتاز بالتجريدية العالية، غير أنها تلامس الأحداث والتطورات الجارية على الأرض، وغير منفصلة عن سياقها الزماني.
وفي هذه الوقفة مع نصوص هذا الديوان سنحاول تسليط الضوء على بعض مع حملته من مضامين، تاركين للنقد الأدبي مهمة التنقيب والبحث والكشف عما يمكن أن تتضمّنه هذه النصوص من متانة أو ضعف.
أولاً - تأملات ومواقف
يحاول الشاعر الإيحاء أنّه منحاز للحق والحقيقة وتبنّي مواقف مبدأيه وأخلاقية من التاريخ والواقع.
منذ البداية في نصوصه قرر الشاعر أن يتدفّق في نصوصه بوضوح تام، وبلا أيّة أقنعة، وبلا أية اعتذارات قد تبوح بها النصوص في لحظات معينة، إذ يقول:
فكُنْ ما شئتَ في حالة الفَيض
ولا تعتذر! (21)
عندما يفيض الشعر في وجدان الشاعر فإنّه يرغب في تدوينه كما هو. وبكل ما يهجس به وكل ما يتجلى له من حقائق عادية حتى وإن لامست هذه النصوص بعض المحرمات. ولن يعتذر الشاعر أو يتراجع عنها، أو يسعى لإعادة حذفها وتنقيحها في لحظات محدّدة.
إن ما ينظمه الشاعر أو ما يفيض به منسجمٌ مع الحقائق الواضحة التي لا لُبس فيها، كما في هذا النص:
المرآة هِيَ هِيَ،
على حالها من أوّل الخلق
تعكس ما تراه
وحدها الوجوه هي التي تخذُلنا ( 51)
المرآة هي الحقيقة الوجوديّة، تعكس الأشياء كما هي.
تلك الحقائق لا يمكن طمسها أو التحايل عليها أو إلغاؤها وإن حدث، فإنها تبقى ساطعة كالشمس لا يمكن الاختباء منها من وراء بنان أو حجبها بغربال، وحدها الوجوه البشرية من تفضحها المرآة وتظهر مزاياها وعيوبها، فالوجوه البشرية، أي الإنسان، هو المفردة الوحيدة في هذا الوجود من تتصف بالخداع، المراوغة وارتداء الأقنعة أمّا بقية الموجودات الأخرى فإنها منسجمة مع طبيعتها وسليقتها وبالتالي منسجمة مع الحقيقة التي تعكسها مرآة الوجود.
ويعيد الشاعر التأكيد على هذا الموقف:
إن أردتَ اختبارَ الحقيقة يوماً،
فكُن صادقاً،
لأنّها أسرع في اكتشافك، منك! (66)
لذا يتعين على الإنسان أن يكون صادقاً بلا أية أقنعة زائفة لأن الخداع والمراوغة لا يمكن أن تتواصل كل الوقت ويؤرق كما يؤرق غيره من البشر، الأسئلة الوجودية عن الحياة والموت ومعنى الوجود، ويضع يده على سؤال الموت المستعصي على الإجابة حين يهتف :
عند الموتِ
يلتقي الزّمانُ والمكانُ في حفرةٍ
ولا يخرجانْ (44)
هذا المصير النهائي لكافة الكائنات الحية بما فيها الإنسان بوصفه الكائن الوحيد الذي يدرك وجوده. وعند الموت يموت الزمان من المكان خارج الكيان الإنساني. هذا النص ينطوي على فكرة العدم وعلى عبثية الحياة والوجوه التي يحملها الموت إلى مجرد حياة خالية من أي معنى. وإن الرحلة الإنسانية في مسارها الشائك الطويل لا زالت خاضعة لذات التفسيرات القاصرة من الماضي السحيق الى الحاضر الآني، كما يلخص موقفه بهذا النص:
الماضي حاضرٌ بكثافة هنا،
بكل طواغِيته
لا مُستقبلَ لي سوى هناك
فمن يدرّبني على احتمال الرّحيل؟ (47)
الحاضر هو الماضي بموروثاته وتبعاته المكثّفة ولا إجابة عن حقيقة الموت التي تلخص العدم وهذا البحث عن الإجابة عن سؤال الموت وما بعدها موضوع الفلسفة والعقائد الدينية وتصدى له الشعر أيضاً، وقد ورد مثل هذا التساؤل في عشرات من رباعيات الشاعر عمر الخيام كما في هذه الرباعية:
ليس لذا العالم ابتداءٌ يبدو ولا غايةٌ وحدُّ
لم أجد من يقول حقاً من أين جئنا وأين نغدو
ومع أن تأملات الشاعر الفلسفية المنطوية على فكرة العدم، فإن ذلك لا يمنع من تبنّي مواقف أخلاقية من التاريخ والقضايا الإنسانية العامة، لأن الشاعر منسجم مع مبادئ يحملها ويؤمن بها كما في هذا النص:
في الوجدانِ
بوصلةٌ تتبعُ إبرتُها
أصوات المظلومين
وتخِز! (101)
فهو في أعماقه منحاز للعدل والحق ولقضايا المظلومين وليس بوسعه التنصّل من هذا الموقف.
ثانيا - الاحتجاج على الأوضاع القائمة:
يفتح الشاعر نيران غضبه على الواقع وما يحمله من صور ومظاهر تنطوي على الظلم والاستبداد والتخلّف والدجل والرياء، والأمراض الاجتماعية المتفشية.
في أيّامنا التي لم تُفلت من قسوة الجفاف
شقوقٌ،
تطلعُ منها العفاريت وبعض النّراجس (102)
كما أن في تاريخنا صفحات سوداء، تسمح بظهور بعض الصور الفظيعة والقاسية والجرائم والحروب الطائفية والأصولية المعبأة بالحقد والكراهية والاستبداد التي تجعلنا نحترق وجعاً وقهراً وخجلاً كما في هذا النص:
في تاريخِنا هُوًى سحيقةٌ
يخرج منها تنِّينٌ ينفثُ النّارَ
فتحترق صورتُنا في أعيُننا (103)
أما الجرح الفلسطيني المفتوح في الزمن العربي المتخاذل والمتواطئ والواهن:
في جُرحي المفتوح
ملحٌ، عبّأه الإخوةُ ذرّةً
ذرّةً...
وعلى شفةِ الجُرح نظراتُهم الّتي تعرفونها
من جِراحكم! (103)
ولا يكف الشاعر عن استحضار الجرح الفلسطيني والجريمة المتواصلة بحق الأرض والبشر:
في أرضنا ما يفيضُ
من شواهدَ وقبورٍ
وأكاليل زهورٍ لا تستُرُ هول الجريمة (104)
ويستدرك الشاعر أن الصراعات والحروب لا معنى لها فثمة متسعٌ للجميع بأن يعيش حياة كريمة وسعيدة وان الظلم الذي يتعرض له غالبية البشر لا مبرر له:
في الدّنيا،
متسعٌ لكلِّ شيءٍ
كي نعيش
وكي نموتَ دون أن ينقُصنا شيء (105)
ويطلق النار على المستبدين والمحتلين ويذكرهم بأن الظلم والطغيان الذي يمارسونه، كان قد مورس بحقهم ومن الممكن أن تعود وتنقلب الصورة كما يقول في قصيدته "إدانةٌ":
أنتم
المُمسكون بالوقتِ الرَّاهنِ على أعناقنا
هل نسيتُم أثَرَ حِباله حَول أعناقِكم (229)
ويواصل هجومه على الطغاة في كل زمان ومكان، ففي قصيدة "لغةٌ مومس!" يتّهمهم بالنرجسية والتزوير والاستبداد والعنف:
همُ الطُّغاةُ يملكون قدرةً خارقةً
على استمالةِ المُفردات
وزجِّها في المقدّمةِ (290)
وفي نص آخر يهتف:
كلُّ الطُّغاةِ بحاجةٍ إلى لغةٍ حليفةٍ كي يكونوا
واللغةُ خائنةٌ
تأكل بنهديْها كالمُومساتِ! (291)
كل الطغاة بحاجة إلى تاريخ وإلى لغة يطوعونها ويلوون عنقها كما يلوون أعناق الحقائق، واللغة قابلة للاستخدام وصالحة للمد والجزر والمط والقضم. وهؤلاء الطغاة لا يحترمون شعوبهم ولا تاريخه ورموزه وإنما فقط ولاءهم لأنفسهم، وامتيازاتهم، واحتياجاتهم الذاتية والأنانية ولا يترددون في استخدام سلاح العنف والجريمة وحتى الإبادة حفاظاً على امتيازاتهم كما يعيد التأكيد في قصيدة "صُوَر النرجس!":
همُ الطُّغاةُ يعشقون صُور النَّرجس
في المرايا
يصكُّونَ لغةَ الجَّنازاتِ
ويملَؤون الوَقت بِالمقابر(298)
إن استفحال حالة الاستبداد والطغيان تجعل من الأوطان سجوناً، ومن البشر مجرد قطيع جاهز للحكم أو للذبح وقت الحاجة. وهو ما سنراه بعد قليل في موقف الشاعر من الوطن الخاضع لقضية الطغاة.
ثالثاً - جدلية الوطن والمنفى:
في قصيدة "التباسُ الوطنِ وضوحُ المَنفَى" يحاول الشاعر لفت الأنظار إلى ما يخلّفه الظلم والقمع في الأوطان من جراحات نازفة، وحتى كفرٌ بالوطن وتمجيد للمنفى. مع أن الشاعر شخصياً يعيش في وطنه. أما نصوصه التالية ، فإما أنها تعكس اغتراباً يعيشه على أرض وطنه المحتل وكأنه يعيش حالة من المنفى الذهني وأما أنه يروي المنفى بلسان أحدهم، وفي هذه الحالة يعبّر عن تعاطفه معه ومع سائر الذين يُفرض عليهم المنفى القسري.
أحببتُ المنفى لأنّه اتَّسع لبديهَتي
ولأخطائي في لفظ المفردات
أحببته لأنّه سألني عن معنى اسمي (111)
يجد الشاعر، أو من يتعاطف معه، بالمنفى حالة من الأمن والاستقرار وأهمية الذات التي كان يفتقدها بالوطن.
أحببتُ المنفى لأنه جعلني أشبِه نفسي
حدَّ التَّطابق
وكرِهتُه لأنّني أدركتُ فيه
كم كنتُ غريباً في الوطن! (111)
وأيضاً:
النُدبةُ الّتي فتحَها الوطنُ
في روحي
ضمّدها المنفى
وبَكى (112)
ويواصل:
أشربُ في المَنفى
نخْبَ الذين سرَق الحُرّاس
كؤوسَهم المُترعة بالوطَن (113)
إن هذا المديح للمنفى والغربة على حساب الوطن نابعٌ من الإحساس بالقمع و الإذلال الذي يتعرّض له الإنسان في وطنه. وهذا الموقف امتداد للكثير من النصوص الشعرية العربية، التي اشتكت من الظلم وأكثرت من العتاب للوطن، كما قال الشاعر العراقي معروف الرصافي قبل أن يموت فقيراً في وطنه:
إذا لم يعش حراً بموطِنه الفتى فسمِّ الفتى ميتا وموطنه قبراً
أو كما قال محمد مهدي الجواهري:
لي عتاب على بلادي شديدٌ وعلى الأقربين جدّ شديدِ
أوَ صقرٌ طريدة لغراب ؟! ونبيغ ضحيةٌ لبليد؟!
ويواصل الشاعر الحلبي مقاربته عن الوطن والمنفى:
هُنا في المَنفى
أستطيع أن أشتُمَ
كلَّ الذين جعلوا من المنفى وطناً
وأبقَى حياًّ ( 114)
فهو في المنفى يمتلك الحرية التي لم يجدها في الوطن، لكنّه يصل إلى ذروة انفعاله حين يهتف:
وانأ في المَنفى،
يطيبُ لي أن أطلقَ النّارَ
عَلى أعلى نقطةٍ في السّماء
اسمُها وطنْ! (116)
وفي قصيدة أخرى "ولادة ثانيةٌ!" نجده يصل إلى استنتاج أن الأوطان تموت كما البشر:
هيَ الأوطانُ مِثلنا،
تموتُ
ومثلَنا،
تعوزُها وِلادةٌ ثانية! (261)
***
كانت لنا هذه الوقفة المتواضعة مع هذه النصوص للشاعر مرزوق الحلبي الواردة في ديوانه (في مديح الوقت) الذي يحتاج إلى وقفة وقراءة شاملة لما تضمنه من نصوص متنوعة تتسع لأكثر من قراءة ومقاربه.
بقلم الاسير الفلسطيني الكاتب كميل أبو حنيش
سجن ريمون الصحراوي
***من الجدير بالذكر أنّ الديوان وصلنا خلف القضبان، مع روايات ودواوين أخرى،
من خلال مشروع "لكلّ أسير كتاب" للمحامي الحيفاوي حسن عبادي
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت