أنا وكثير من المسلمين نحب قراءة سورة يوسف وينتابنا شعور من نوع خاص عند سماع آياتها الكريمة من فيّ قارئ عذب الصوت مجوّدة. إضافة إلى ذلك فإن السورة تتناول قصة نبيّ كريم (يوسف) ابن أنبياء كرام (يعقوب وإسحاق وإبراهيم) عليهم السلام وكيف لا وقد قال الله تعالى في آيتها الثالثة (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) وبالطبع علمنا أن القرآن الكريم لا يورد قصص الأنبياء ولا الأفراد ولا الأمم للتسلية وتزجية الوقت، بل لاستخلاص العبر، وتمثل النموذج، واتباع النهج القويم.
لذا فإن ثمة علماء ومفكرين كثر قد سطروا كتباً ودراسات ومقالات مدارها قصة يوسف كما جاءت في القرآن الكريم، مع بعض الأخذ المفرط أو الحذر من أهل الكتاب، واجتهدوا لإخراج ما في السورة من كنوز دعوية وجهادية وأخلاقية وحتى اقتصادية وسياسية ثمينة…ومثل كثير غيري تابعت مسلسل (يوسف الصديق) الإيراني المدبلج لبنانيا، مع تحفظات لا مجال لسردها على المسلسل، ولكن ما أريد تسليط الضوء عليه ها هنا مختلف -في حدود ما أعلم – ولا أقول بأنه خارج عن المألوف والمتواتر بقدر ما هو محاولة لفهم أوسع لأحداث القصة التي تتناولها السورة، وهل يجدر دوماً استحضارها عند البلاء والمحنة، مثلما صار هذا ديدن كثير من الملتزمين بالخط الإسلامي؟
فمثلا حين فاز د.محمد مرسي برئاسة الجمهورية في انتخابات نزيهة في مصر، قال بعض الدعاة والوعاظ وغيرهم، إن هناك شبه بين حاله وحال يوسف الصديق من حيث أن يوسف سجن ظلماً، ثم خرج معززاً مكرماً وجعله الملك على خزائن الأرض، وكلا المظلمتين وما بعدهما من تمكين على أرض مصر، وهي بالمناسبة البلد الوحيد الذي ذكر الله سجونه وخصّها بالظلم! ولكن د.محمد مرسي-رحمه الله- عاد إلى السجن من جديد بعد سنة لم يتمكن فيها حتى من أن تكون له كلمة على مجرد مقدم برامج، عوضاً عمن يفترض أنهم حراسه المكلفين بحمايته، بل حتى هوجم مقر الرئاسة (قصر الاتحادية) بالجرافات من قبل البلطجية، ومات مرسي مظلوماً في سجنه. إن لبّ الفكرة أنه كلما تعرض امرئ من أهل الحق الواقفين في وجه الطغيان والاستبداد، استحضروا، أو ثمة من يستحضر لهم قصة يوسف، بأنه سجن ظلماً وبهتاناً، ثم خرج بعد بضع سنين ليتبوّأ أرفع الدرجات وينقذ مصر وما حولها من الجوع وتبعات القحط.
ولكن هل هذا المثل أو هذا الاستحضار دوماً يلائم الحالة؟ أليس هناك من ماتوا في السجون من المظلومين المقهورين؟ أليس هناك من أفنوا بدل بضع سنين، بضع عشرات من السنين وراء القضبان، وما يكادون يخرجون من السجن حتى يعودوا إليه من جديد؟ وإذا خرجوا يكونوا قد بلغوا من الكبر عتيّا وأجسادهم تنهشها الأوجاع والأمراض، وبقي الظلم معشعشاً ويسرح الظالمون في الأرض ويمرحون، ولم يمكّن هؤلاء الذين لا يكادون يعوفون غير الزنازين مسكنا في حياتهم؟ لماذا يغفل الذين يأتون بيوسف الصديق مثلاً على التمكين وظهور الحقيقة بعد الظلم والسجن ببضع سنين، على أن الظلم يستمر في زماننا والزيف وتغييب الحقيقة هي الماركة المسجلة لهذا العصر؟ قد يبدو كلامي دعوة لبث اليأس والإحباط؛ ولكن ما قصدت هذا والله أعلم، بقدر دعوتي إلى الزهد في جعل يوسف مثلاً لما يقع ولهذا تحضرني عدة أفكار مهمة في هذه في هذا السياق:-
1- إن يوسف هو نبيّ كريم من أنبياء الله، وحسبه الأنس بالله والقرب منه، وهو يوقن بمصيره ولو قضى عمره كله مسجوناً، بل حتى لو قتلوه كما حصل مع أنبياء بعده، وقد يقال إن الاستحضار هنا لذات السبب الذي تراه غير مناسب، وهو إذا كان نبيّ كريم ابن أنبياء كرام قد حصل معه ما حصل، والأنبياء هم خيرة وصفوة النّاس عند الله تعالى، فليصبر من هو دونهم، قلت: الصبر مطلوب عند المحن، ولكن هل بعد الصبر تمكين بالضرورة؟ ثم إن النبيّ-أي نبيّ- لمجرد أن علاقته بالله سبحانه وتعالى هي الرسالة والنبوة فقد أوتي أفضل ما يؤتى أي إنسان ولو ذاق من الإبتلاءات مالا يطيقه غيره.
2- في القصة ما يفيد بأن السجن ليس دوماً هو الخيار المفضل، فقد كان يمكن ليوسف أن يدعو الله وهو بإذن الله مستجاب الدعاء أن يخلص من فتنة النّساء وغيرها لكن هو قال (ربِ السجن أحب إليّ…) ولعل هذا درس لغيره، فأهل الحق يجب أن يسعوا إلى حماية أنفسهم بما يستطيعون بوسائل مادية وبالدعاء إذا كانوا كالأنبياء ممن يستجيب الله لهم، ولننظر إلى أصحاب الكهف والرقيم كيف فرّوا بدينهم، دون أن يرتدوا وأيضاً دون أن يتعرضوا للقتل والتعذيب والتنكيل، فاختاروا أن يأووا إلى الكهف.
3- كان يوسف الصديق يهيأ إلى ما صار إليه، وتهندس له حياته، وقد أوتيَ علم تأويل الأحاديث (الرؤى والأحلام وغيرها) والحكم والعلم، ولكن ماذا عمن لا يعرف أصلاً ما هو سائرٌ إليه؟ هل أقول بأن يوسف كان يعلم الغيب، لا، ولكن بالتأكيد بما أوتي من علم ووحيّ، فإن له ما يأنس به وتطمئن به نفسه، فماذا عن المظلومين في هذا الزمان؟
4- الأنس بالله بلا ريب يغلب على الشوق والحنين إلى ما دونه، وهذا حال يوسف النبي، فهل هذا حال المظلوم الذي يعيش في السجن سنوات طوال دون رؤية أهله الذين قد يموتون وهو مسجون وتفتك به الأمراض وقد يصاب بالجنون أو الأمراض النفسية؟ بل إن يوسف بقي أباه يعقوب عليه السلام حيّا حتى بعد أن أصبح على خزائن الأرض، بل حصلت معجزة أن يرتد بصر أبيه إليه بقميصه، فيما يخرج بعض الذين قضوا سنوات طويلة في السجون ليذرفوا الدموع على قبور الأمهات والآباء أو أن يجدوهم على وشك الدخول إلى المقابر…ومن ناحية أخرى ثمة روايات بأن أعمار الناس ومنهم الأنبياء في تلك الأزمنة كانت طويلة، وليست في السبعين في المعدل نصفها صراع مع المرض!
5- الأنبياء لديهم قدرة خاصة على تحمل البلاء والألم والعذاب وأذى النّاس من ملوك وحكام ابتداءً ونهايةَ بالرعاع والساقطين، أكثر من غيرهم وكما قلت حسبهم الرسالة والوحي والأنس بالله، فلا يقارنون بغيرهم.
وماذا بعد؟ هل نترك الاعتبار والاتعاظ واستخلاص الدروس من قصة يوسف التي جاءت في سورة طويلة تحمل اسمه؟ لا أقول هذا على وجه الإطلاق، ولكن المبتلى والممتحن في زماننا لا تقاس عليه حالة يوسف للأسباب التي ذكرت ولأسباب أخرى لم يفتح الله لي كل أسردها أو لا يتسع المجال لذلك، وسورة يوسف فيها كثير من العبر والدروس بلا شك، ولكن على من يقع عليه الظلم ألّا يظنن نفسه يوسف العصر وألّا يقال له مثل هذا، على الأقل في جزئية السجن والتمكين بعده. والله تعالى أعلى وأعلم.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت