- بقلم: فراس ياغي
يقف الكثير مشدوها لما يجري في الإقليم من تسارع كبير في التحالفات ومن تغيْر تلك التحالفات، ومن تجاوز الخطوط الحمر التي كانت مرسومة منذ أكثر من نصف قرن، بل يحاول الكثير من المحللين غوْر ما يحدث، لكن التشتت النابع من الموقف المسبق من أي حدث يصيب الأغلبية منهم في إستنتاجاتهم وتحليلهم، وحتى السابقين من أصحاب الفكر الماركسي اللينيني في التحليل تجدهم يُبسطون المسألة بربطها بنتائج الإنتخابات الأمريكية القادمة، على الرغم من أهميتها بإعتبار الولايات المتحدة القوة التي لا تزال مؤثرة عالميا وفي كافة بقاع العالم وبالذات في منطقتنا حيث الصراع على أشده.
المخاض الذي يعتري غرب آسيا وشمال أفريقيا لم يتبلور بشكل كامل بعد، وما حدث من ظهور للأسلمة السياسية بشقيها السني والشيعي ومنذ صناعة "القاعدة" على يد أل "سي آي إيه" في "أفغانستان" ضد الإحتلال "السوفيتي" وحتى اليوم شهدنا متغيرات كبيرة وصلت لما يسمى "داعش" كصناعة إستخباراتية وحشية ولتحالفات بين الإخوان المسلمين وإدارة "أوباما" سابقا، ومفاوضات مع "طالبان"، والإتفاق النووي مع "إيران"، وأخيراً إدارة بيضاوية تصدرها الرئيس "ترامب" تتعامل وفق أجندة متقلبة ومزدوجة، فهي تحارب الأسلمة السياسية من جهة، ومن الجهة الإخرى تتعاطى بقوة مع هذه الأسلمة عبر أدواتها في المنطقة ك "تركيا" و "قطر".
يحاول البعض السياسي تبسيط الصراع القائم في الإقليم وتحت عنوان أن هناك "عطاء أمريكي" في المنطقة، وأن هناك ثلاث دول إقليمية تتصارع على هذا العطاء وهي "إسرائيل" و"إيران" و"تركيا"، ورغم قناعاتي بأن هناك صراع مصالح بين الدول الإقليمية الثلاث، إلا أن مفهوم "العطاء" في السياسة غير مقبول ويتعارض مع طبيعة الصراع وخلفياته الفكرية والأيديولوجية ومنطلقاته وأسسه الإقتصادية التي تُحرّكه..."إسرائيل" مثلا هي حليف إستراتيجي للغرب وللولايات المتحدة وهي فوق المصالح وفوق ما أسموه "العطاء"، لذلك فهي ليست جزء منه بل هي جزء ممن طرح هذا "العطاء"، وهنا أقصد في علم السياسة أن ما يجري بالأساس هو تقوية المحور الأمريكي بقيادة دولة "إسرائيل" وإعطاء الآخرين فرصة ليثبتوا مقدار قدرتهم على تقديم الخدمات لها، أي أن تلك الدول الإقليمية الأخرى يجب أن تواءم مصالحها مع مصالح "إسرائيل" وغير ذلك ستكون في المحور المعادي للغرب الأمريكي، لأن الغرب الأوروبي مصالحه تعارضت إلى حدٍ ما مع سياسة الرئيس "ترامب"، في حين نرى أن المحور الآخر "الصيني الروسي" غير المتبلور بشكل كامل شكلاً ولكن في الجوهر هناك إتفاق على مفهوم القانون الدولي، يعمل وفق أجندة مزدوجة، فهنا يحابي "إسرائيل" لكي لا يتواجه مباشرة مع الولايات المتحدة "القصف الإسرائيلي المستمر في سوريا حليفة روسيا"، وهناك يتحالف مع "تركيا" المتناقضة والمتحالفة أيضا مع حليفتهم "إيران"، نتيجة للصراع والتحالف المُتداخل يقوم البعض السياسي بتبسيط الأمور ويتحدث عن "عطاء أمريكي" للدول الثلاث الإقليمية الأساسية في الشرق الأدنى القديم.
لكن، إذا إستندنا للأساس الإقتصادي الذي هو جوهر الصراع قديما وحديثا، وحددنا الشكل الإقتصادي القائم عليه هذا الصراع، سنجد أن الطاقة والغاز ومصادرها وأنابيبها وطرق التجارة، هي من يتحكم في كل ما يجري في منطقتنا وعلى منطقتنا، وسنجد أن تدمير الدول العربية جاء بهدق مزدوج، إقتصادي وسياسي لخدمة "إسرائيل" وتحالفاتها الحالية والمستقبلية، وضمن ذلك يتم إستغلال كل شيء، و"الأسلمة السياسية" تم إستخدامها كأداة تخريبية لتدمير الدول العربية بما أسموه "الربيع العربي" وهذه "الأسلمة" بفكرها الغيبي وبشكل صناعتها إعتقدت أن الضوء الأخضر "الأمريكي" سيؤدي لسيطرتها على النظام السياسي العربي مما يدفع بإتجاه تحالف كامل مع الولايات المتحدة وفق نموذج "أردوغان" وهي هنا تجاهلت مسألة مهمة وأساسية تتعلق بمكانة "إسرائيل" كجزء من النظام السياسي الأمريكي، وعليه لا مكان لهذه "الإسلمة" إلا بقرار "إسرائيلي" أساسة تصفية القضية الفلسطينية كمقدمة أولى وكإمتحان تجريبي لها.
معادلة الصراع رغم تشابكها تتعلق بالإساس بالإستراتيجية الإمريكية في مواجهة العملاق "الصيني" المتحالف مع "روسيا" وكل ما يجري في المنطقة هو جزء أساسي من هذه الإستراتيجية، لذلك الإشتباك القائم لا يزال في مخاض متسارع غير واضح المعالم بالنسبة للأسلمة السياسية بشقيها السني والشيعي، وهو أكثر وضوحا بما يتعلق بالحليف "الإسرائيلي"، حيث القرب والبعد من "إسرائيل" سيحدد طبيعة العلاقة مع أمريكا وإستراتيجيتها.
القضية الفلسطينية ضمن الإشتباك القائم أصبحت مجرد أداة للبعض يستخدمها لخدمة مصالحه كدولة وليست قضية حقوق وإستقلال وطني وشعب يرزح تحت الإحتلال، فنرى طريقة التعاطي معها بطريقة فجّة وإستهبال لا نظير له، المطبعون العرب يرون أن علاقتهم ب "إسرائيل" هي في صالح القضية الفلسطينية، والمُطبعون الداعمون للإخوان المسلمون يستخدمونها لإثبات قدرتهم على تطويع الأخْوَنَة لصالح الرؤيا الأمريكية للسلام بإعتبار أن المستقبل للإخوان المسلمين فلسطينيا وبما يؤسس لسيطرة الإخوان لاحقا على النظام السياسي العربي لاحقا بعد نجاحهم في الإختبار الفلسطيني.
القيادة الفلسطينية المنهمكة في الدفاع عن الحقوق الفلسطينية العادلة وفي رفض السياسات "الترامبية" يغيب عن ذهنا وعن إستراتيجيتها أن العمق العربي ومهما كانت طبيعته هو الضامن الأساسي وأن داعمي الإخوان المسلمين وبالذات "تركيا" لهم إستراتيجية مختلفة كليا حتى لو حدث توافق أو تفاهم هنا أو هناك معهم، مع التشديد على أن حركة "حماس" جزء من مكونات الشعب الفلسطيني الذي يجب التوافق معه فلسطينيا وضمن العمق العربي وليس ضمن أي مُعطى آخر، وهنا أقصد وبوضوح عدم الإنجرار لنصبح أداة في الصراعات القائمة بين دول المنطقة والتي جُلّها يبحث عن دور له في خدمة الإستراتيجية الأمريكية في المنطقة وبالتالي خدمة رؤيتهم السياسية لحل القضية الفلسطينية "إقرأ تصفية القضية الفلسطينية".
إن التعاطي مع الواقع القائم وفق ردّات الفعل وبطريقة غير لائقة لا يخدم بالمطلق المنطلق الوطني الفلسطيني، ويؤسس لأحقاد ستكون نتيجتها في غير صالح الإستراتيجية الوطنية، كما أن سياسة الإنتظار واللعب على المحاور القائمة والمتصارعة في داخل المحور الأمريكي لن تُجدي نفعا بل ستعمق الجراح خاصة أن الكل يلعب في نفس الملعب، ملعب السياسة الأمريكية الخاصة بالشرق الأدنى القديم وأساسه "إسرائيل" في مواجهة طريق واحد وحزام واحد الصيني، وتحويل بوصلة العداوة من الإحتلال "الإسرائيلي" إلى العدو "الإيراني".
عندما أصدرت إسرائيل “قانون الغائبين” وصادرت أملاك الفلسطينيين الذين لجؤوا إلى البلدان العربية المجاورة بحجة غيابهم! وفي نفس قامت بتطبيقه على الأوقاف الدينية فصادرتها، وكأن صاحبها – وهو الله عز وجل – قد أصبح غائباً أيضاً!! كتب الشاعر الفلسطيني المرحوم راشد حسين قصيدته
"الله أصبح غائبا يا سيدي
صادر إذا حتى بساط المسجد
وبع الكنيسة، فهي من أملاكه
وبع المؤذن في المزاد الأسودِ
حتى يتامانا أبوهم غائب
صادر يتامانا إذاً يا سيدي
أنا لو عصرتُ رغيف حبزك في يدي
لرأيتَ منه دمي...يسيل على يدي"
أليس نحن الحاضرون الغائبون؟!!! نلعب لعبة الغِياب لأننا لا نُجيد الحضور كما أجاده أسطورة الثورة المعاصرة الشهيد الخالد ياسر عرفات.
لعبة الحاضر الغائب المُنتظر في إقليم هادر الموج ليست سوى وصفة للضياع والإستسلام، وإذا أردنا البقاء والوجود فعلينا أن نجيد الحضور ضمن مشهد الممكن سياسيا بلا ردّات فعل واللعب مع لاعبين إقليميين يلعبون في نفس ملعب رؤيا السلام الأمريكية، وبلا تنازل عن الحقوق التي أساسها دولة مستقلة ذات سيادة على حدود الرابع من حزيران وعاصمتها القدس الشريف.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت