اصطفافات المشهد السياسي التونسي.. من المستفيد؟

بقلم: فيصل علوش

  • فيصل علوش

تتجدد بين الفينة والأخرى المحاولات الرامية إلى جمع شتات ما يسمّى في المصطلحات السياسية التونسية بـ«العائلة الوسطية»، ذات الطابع العلماني الديمقراطي الليبرالي، وتوحيد صفوفها بعد تشتّتها وتشظيها إلى كتل وأحزاب صغيرة، وتسجيلها نتائج هزيلة في الانتخابات التشريعية والرئاسية الأخيرة، وذلك على أمل تشكيل تيار وسطي كبير، يمتح من الجوانب المضيئة في تجربة الحركة الدستورية البورقيبية، ويستطيع إعادة التوازن إلى المشهد السياسي، بما يضمن تعزيز مدنية الدولة ومواجهة النفوذ المتزايد لتيار الإسلام السياسي في تونس.

ويندرج في هذا الإطار التحالف السياسي الجديد الذي حمل اسم «أمل»، وأعلن عنه مؤخراً، والمتمثل باندماج حزب «الحركة الديمقراطية» بزعامة السياسي المخضرم، أحمد نجيب الشابي، وحزب «أمل تونس» برئاسة وزيرة السياحة السابقة، سلمى اللومي، ومجموعة من حزب «نداء تونس» بقيادة رضا بلحاج، إضافة إلى عدد من قدماء المناضلين والمستشارين البلديين.

وأعلن التحالف الجديد سعيه إلى توسيع قاعدته عبر إقناع أحزاب أخرى بالانضمام إليه، لـ«تشكيل جبهة سياسية، واستنهاض همم وآمال التونسيين حتى لا يبقوا في موقع المتفرج». وقال الشابي، إن عزوف التونسيين عن المشاركة في مختلف المحطات الانتخابية، تدعو إلى العمل على تجميع القوى السياسية الديمقراطية بهدف «إنقاذ البلاد والعودة من جديد إلى الحياة السياسية المتوازنة، وإحداث تغيير ملموس بحلول عام 2024».

وقد بدأ «التحالف» بالفعل مناقشات مع عدد من الأحزاب، ومنها حركة «مشروع تونس» بقيادة محسن مرزوق، وحزب «بني وطني» برئاسة سعيد العائدي، وكلاهما منشقان عن حزب النداء سابقاً، إضافة إلى حزب «آفاق تونس» بقيادة ياسين إبراهيم.

يجدر بالذكر أنّ حزب «نداء تونس» الذي أسّسه الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، تمكن في الانتخابات البرلمانية والرئاسية التي أجريت في 2014، من التقدّم على حركة «النهضة» وفاز بالأغلبية البرلمانية ورئاسة الجمهورية. وذلك بعد أن سيطرت النهضة على المشهد السياسي خلال حكم «الترويكا» بين عامي 2011 و2013. ولكن دوره تراجع كثيراً بعد ذلك، وتعرّض إلى انشقاقات عدة، على خلفية تفاهمه مع حركة «النهضة» (الإسلامية) من جهة، ومحاولات توريث القيادة إلى نجل السبسي، من جهة ثانية.

ويُسجّل المراقبون أنّ التحالف مع «النهضة»، غالباً ما أدّى إلى إضعاف، أو حتى تفجير الأحزاب التي فعلت ذلك، وهذا يصحّ على «نداء تونس»، مثلما يصحّ على حزبي «التكتل من أجل الديمقراطية» بزعامة مصطفى بن جعفر، و«الاتحاد من أجل الجمهورية» بزعامة الرئيس السابق المنصف المرزوقي، اللذين اشتركا في حكم «الترويكا».

هدف التحالف الجديد؟

واعتبر الشابي، أحد قيادات التحالف الجديد، أنّ الغرض الرئيسي من وراء التحالف، هو مواجهة حركة النهضة، التي باتت أشبه بـ«أخطبوط يحاول الهيمنة على الدولة والمجتمع، في إطار مشروع إقليمي متكامل». ورأى أنّ هذه الحركة «لم تُبدِ سوى الرغبة في التمدد داخل الدولة وتحويلها إلى أداة لتنفيذ مخططاتها، وبالتالي هي «تمثل خطراً على مقومات الدولة الحديثة الساعية لتكريس قيم الديمقراطية والتعايش السلمي وقبول الاختلاف».

ولقد تفاوتت ردود الفعل التونسيين تجاه المبادرة الجديدة، فمنهم من ثمنّها ورأى فيها خطوة في الاتجاه الصحيح، ومنهم من اعتبر أنها «لعبٌ في الوقت الضائع»!، معتبراً أن الوجوه التي تقف وراءها جُرّبت لسنوات وفشلت، و«لم تتمكن من اختراق أفئدة التونسيين». ولفت البعض إلى حاجة تونس إلى حزب جديد، ولكن على نحو جديد ومختلف عن التجارب السابقة، مُذكّرين بصعود حركة نداء تونس ومن ثم تراجعها وانهيارها، تحت وقع الانقسامات والضربات المتتالية التي تعرضت لها!.

تحالف برلماني في خدمة «النهضة»!

وفي مقابل محاولات توحيد العائلة الوسطية التي قد تجدي وتثمر، وقد لا تفعل، فإن ثمة تحالفاً برلمانياً (يمكن أن يعدّ ما بين 120 و140 نائبا) قد يعلن عنه قريباً، ويضم حركة النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة وعدداً من المستقلين، بهدف توحيد المواقف تجاه بعض القضايا والاستحقاقات؛ مثل المحكمة الدستورية وتعديل القانون الانتخابي، وتعيين هيئة مكافحة الفساد.. الخ.

وفي خطوة فاجأت المراقبين، كان رئيس كتلة «ائتلاف الكرامة» القريب من حركة النهضة الإسلامية، سيف الدين مخلوف، أعلن عن عقد تحالف علني جديد مع حزب «قلب تونس» (ليبرالي)، برئاسة رجل الأعمال، نبيل القروي، على رغم الخصومة السابقة بينهما، وهو ما أثار جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية التونسية.

ورأى مراقبون أن التحالف مع من كان يتهمه مخلوف بالأمس بالفساد وتكريس منظومة الاستبداد، يُعتبر مقدمة للتحالف مع حركة النهضة، ويهدف إلى «تقوية حزامها النيابي والسياسي ضد كل خصومها»، بفضل الأغلبية التي بات رئيسها ورئيس البرلمان راشد الغنوشي يتمتع بها.

وقال المراقبون إن «ائتلاف الكرامة» متهم بالتطرف الإسلامي، ونشر خطاب تكفيري وتمجيد التزمت والتعصب، وهو يجد في التحالف مع قلب تونس، المقبول دولياً باعتباره ليبرالياً، طوق نجاة، عبر الادعاء بأنه «يعمل في اتفاق تام مع الأحزاب الليبرالية، ولا علاقة له بالإرهاب التكفيري»!.

مخاطر «التحالف الهجين»!

وأجمعت معظم المواقف حول خطورة هذا «التحالف الهجين» وتداعياته المحتملة. ورأى كثيرون أنه يهدف ليس إلى الالتفاف أكثر حول تيار الإسلام السياسي وتقويته فحسب، بل وإلى «تقوية الجبهة المناهضة للأحزاب والقوى المدنية، ويشكل بالتالي تهديداً للدولة المدنية الحديثة ومؤسساتها ومسارها الديمقراطي». كما رأى البعض أنه موجّه ضد رئاسة الجمهورية، واتحاد الشغل والقوى اليسارية، وسوف يدفع نحو مزيد من الاستقطاب والتخندق في الساحة السياسية التونسية.

وكانت الخلافات بين الرئيس التونسي قيس سعيّد، ورئيس حكومته هشام المشيشي، قد طفت على السطح في أجواء متوترة تُنذر باحتدام الصراع بينهما، وسط خلافات وتناقضات مُتشعبة بين خيارات الرجلين، تتداخل مع حسابات مرتبطة بموازين القوى السياسية، لجهة من يُمسك بزمام السلطة التنفيذية وتحديد توجهاتها ورسم أولوياتها. وخصوصاً بعد التقارب الأخير بين المشيشي والغنوشي والقروي على حساب علاقته مع الرئيس.

ويشير اصطفاف الغنوشي إلى جانب المشيشي ودفاعه عن قراراته، الذي ترافق مع انتقادات حادة وجهها مسؤولو حزب قلب تونس، إلى الرئيس سعيّد، إلى أن الخلافات بين هرمي السلطة التنفيذية تُخفي صراعاً مُتعدد المناحي والجبهات، وليس معزولاً عن السياق العام لتشابكات المشهد السياسي الداخلي.

وفي سياق ذلك، أعربت بعض الأوساط السياسية عن تخوفها من تقارب «قلب تونس» المصلحي مع أحزاب السلطة، وتوظيف هذه العلاقة لخدمة أجندات مشتركة، والالتفاف على مكاسب الدولة المدنية. في وقت ترى فيه أنّ الصراع في الأساس هو «أقرب إلى صراع لوبيات ومافيات، أكثر منه عملاً سياسياً طبيعياً»!. علماً أنّ الصعود السريع والمثير لـ«قلب تونس» في 2019، أثير حوله الكثير من اللغط والانتقاد وسط اتهامات بالفساد وغسيل أموال موجّهة لرئيسه نبيل القروي، وهي قضية قديمة تعود إلى عام 2017.

أما الرئيس التونسي، فيجد نفسه في خصومة مع أغلب الأحزاب، فهو يريد إقامة «نظام سياسي غير تمثيلي». ويرفع شعارات: «من تحزب خان، والتمثيل تدجيل..». وعلى خلفية قناعاته هذه ينخرط بقوة في الصراعات السياسية الدائرة، ويزيد من التوتر الحاصل عوضاً عن أن ينأى بنفسه عنه، ويكون قوة ضبط وتوازن للساحة السياسية.

غياب رجالات «الدولة»!

وعلى العموم، تعاني القيادات السياسية التونسية بمختلف أطيافها من غياب رجالات «الدولة»؛ الذين يُقدّمون مصالح الدولة وترسيخ مؤسساتها، وكذلك قضايا التنمية وتلبية الاحتياجات الأساسية للسكان، على حساب مكاسبهم الحزبية أو الشخصية والسلطوية الضيقة.

وعلى سبيل المثال، ترى أوساط تونسية عديدة أن زعيم النهضة لم يستطع أن يُطوّر شخصيته من زعيم تنظيم إسلامي إلى «زعيم وطني»، وبأنه أضاع فرصة تاريخية ليقوم بذلك عندما فاز برئاسة البرلمان، لكنه آثر أن «يبقى وفياً لمنهج الجماعة، ومصرّاً على ممارسة سلوكيات تنمّ عن ضيق الأفق الفكري والتنظيمي»، وهو ما بدا واضحاً في محاولاته إقحام البلاد في صراعات المحاور وتجاذبات السياسة الإقليمية والدولية، فضلاً عن تعييناته وآليات اختياره لمستشاريه، حيث «حوّل ديوان رئيس المجلس إلى مكتب داخل حركة النهضة»!.

ولعلّ ذلك ما ساهم باتساع المعارضة البرلمانية لاستمرار الغنوشي كرئيس للبرلمان، وتصدّره لترتيب أسوأ الشخصيات السياسية في تونس، للشهر الخامس على التوالي، وفق الاستطلاع الشهري الذي تقوم به مؤسسة «سيغما كونساي».

وفي هذا الصدد، يمكن قول الكثير أيضاً عن الصراعات التي شهدها «نداء تونس» سابقاً لخلافة السبسي، وخصوصاً في ظلّ ما بدا من محاولة توريث قيادة الحزب إلى نجله حافظ. كما تساءل مراقبون عن الدور الذي لعبه النزاع المحتدم بين حمة الهمامي ومنجي الرحوي حول زعامة «الجبهة الشعبية»، في خسارة هذا التحالف (اليساري القومي) لجميع مقاعده البرلمانية تقريباً (البالغة 15 مقعداً) في الانتخابات الأخيرة!.

وإلى ذلك، يشكو كثير من التونسيين من عدم اهتمام المسؤولين بإجراء الإصلاحات المطلوبة في العديد من المجالات، بينما يشغل هؤلاء جلّ وقتهم واهتمامهم في صراعات على الزعامة والمناصب، وسجالات عقيمة تجعل من الفاعلين السياسيين والمهتمين بالشأن العام يدورون حول أنفسهم بما يشبه الحلقة المفرغة، بدلاً من الانخراط الفاعل في إنجاح مرحلة الانتقال الديمقراطي، وبناء دولة المواطنة والقانون والمؤسسات!.

عيوب «الديمقراطية التوافقية»!

وعلى ذلك، فقد دعا أكثر من طرف سياسي إلى تنظيم «مؤتمر وطني للإنقاذ» بهدف «توحيد الجهود في مواجهة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، والابتعاد عن مظاهر التجاذب السياسي التي عطلت التنمية وأخّرت كثيراً من عمليات الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي والسياسي».

وفي الميدان التطبيقي، أفرز دستور 2014 نظاماً هجيناً تضمن العديد من الثغرات التي تسبّبت في صراعات وتنازعٍ على الصلاحيات بين الرئاسات الثلاث (الجمهورية والحكومة والبرلمان)، وشكلت عملياً معوقات أمام التقدم في العملية السياسية وبناء المؤسسات السيادية، وخصوصاً في ظلّ تبني الأحزاب لمنهج التوافق والتفاهمات الائتلافية في تشكيل الحكومات. من قبيل التوافق الذي جمع «نداء تونس» (علماني) مع حركة النهضة (إسلامية)، وما استتبع ذلك من خلافات وسجالات لا تنتهي حول ملفات داخلية وجيوسياسية وحتى اقتصادية.

ويرى كثير من المحللين أن آليات «الديمقراطية التوافقية»، أضحت تمثل عقبة أمام التحول الديمقراطي والإصلاح المطلوب في البلاد. فتحت يافطة «التوافق»، تخلّت الدولة عن قضايا إصلاحية ملحّة، ولم يتسنَ لها اتخاذ الإجراءات المطلوبة بشأن دعم الاقتصاد المتردّي، أو حتى تشكيل المحكمة الدستورية.

كما أدّت سياسة التوافق العرجاء، إلى تطبيق نظام المُحاصصة الحزبية، وتعيين مسؤولين تنقصهم الكفاءة اللازمة، ويفتقرون إلى التجربة والوعي المطلوب في إدارة شؤون البلاد، مما فتح الباب على مصراعيه لتفشّي الفساد والمحسوبية!!.

 

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت