بوح "4"

بقلم: مأمون احمد مصطفى

مأمون احمد مصطفى.JPG
  •  مأمون احمد مصطفى

بوح

" 4 "

ضجيج

المقابر

 

صمت يجلله صمت، ورهبة تجلل برهبة، ووحشة تجلل بوحشة، ومجهول يغوص بالمجهول، وغموض يهوي إلى قعر أعماق الغموض.

 

الشمس هنا تختلف عن شمس الأرض ، هنا تغلي الأشياء على مرجل الهيبة المنبثقة من رعب المخفي تحت الثرى ، تلتهب الأشياء وتصفر الحشائش ، ترى الحزن الساكن بكل غصن من أغصان الشجر ، وترى الموت الموزع على الأشياء المحاطة بسور المقبرة ، تتدلى الشمس من مكانها ، تهبط نحو الرأس ، يغلي الدماغ ، تتسلل إلى توزيعاته وتشعباته رهبة القادم والماضي والحاضر ، تتناثر الأفكار وتصطرع ، تضغط الحرارة على مركز الوعي والسيطرة ، تنهار المسلمات واللذات ، تتلوى الأفكار كصل منزوع من حرارة الصحارى ، تهبط نحو القبر ، أو تحس بانزلاق القدمين نحو حفرة مفتوحة لغيب ما زال مطويا في حجب اللحظات والأيام القادمة.

 

ما هي المقابر ؟

ولماذا تسكننا الرهبة حين نداهمها أو تداهمنا ؟

ولماذا لا ينبت  "البصلون "إلا فيها ؟

 

 " البصلون " وحده قصة غامضة ، تتوحد مع غموض المقابر وما يحيط بها من مجهول ، نحن نعرفه منذ الطفولة ، كنبات كريه الشكل والرائحة ، لملمسه نكهة من عذاب مضطرم ، تتولد في الجلد ، تدفعه نحو الاحمرار الشديد ، نحو الحك المتواصل ، حك ممزوج باللذة والغضب والألم والوجع والانهيار ، وحين كنا نحاول استئصاله بجهد جماعي ، ونهوي بالفؤوس والمجارف على جذوره ، كان يقاومنا ببعث رائحة تقشعر لها الأبدان ، ولكننا بعزم وتصميم ، متوحد مع غل مجهول ، كنا نتعمق في الهبوط نحو جذوره ، لنزيلها ونتركها لشمس المقبرة ، تلك الشمس المتدلية كقبة من نار غضبى على مساحة الموت والمجهول.

 

وحين كنا نعود بعد أيام ، مع جنازة جديدة ، كنا نراه وقد انبثق من تحت ركام الموت والمجهول ليتحدى الشمس وحرارتها اللاهية.

 

لماذا يستطيع هذا النبات تشقيق الموت والإطلال برأسه نحو الحياة ؟ رغم قساوة المكان والمجهول والغموض ، ولماذا – وببساطة – يتلاشى الإنسان كبخار معدوم من الوجود والبقاء حين يهبط نحو الأسفل ؟

 

لعل " البصلون " يمارس ثأره الأزلي من تعسفنا وكراهيتنا له ، دون سبب أو مبرر ؟

 

وحين نهبط نحو الأرض ، يغوص عميقا ليمتص وجودنا ويوزعه على القبة المتدلية كبركان محموم بالغضب والثورة.

 

تتوغل قليلا في المقبرة ، تدخل أعماقك القبور المنخسفة ، والقبور المتهدمة ، وتنتشر بأعماقك تشققات جدران القبر الضخم المشاد فوق جثة لا تستطيع مقاومة جذور " البصلون " أو الدود المتوالد والمتناسل من بقايا جسد كان يغتسل بالماء والعطر.

 

ترى الحراذين وهي تسارع بالانتقال من شق في هذا القبر إلى شق في ذاك القبر ، تطاردها ، لكنك تعجز عن الوصول إليها ، عن اكتشاف مكانها ، فتاتيك الفكرة ، ربما غاصت في القبر ، لتتوارى بين حنايا الموت الراقد في الجثة ، ولتمارس طقسا من الغموض والمجهول .

 

منذ الطفولة وللحراذين بأفكارنا مكانة خاصة ، مميزة ومتناقضة ، لا نفهمها ولا ندركها ، فنحن نطاردها من سور إلى سور ، نلهبها عذابا ووجعا ، نصبغ العشب بدمائها ، ثم نتركها تتعفن ، لا لشيء سوى أنها حراذين .

 

وحتى مقولة الصلاة التي كان يؤكدها كبار السن ، صلاة الحراذين على الأسوار ، وعلى أسطح المنازل ، والتي كنا نشاهدها ونشهد عليها ، إبتكرنا لها أغنية غريبة ، ترتبط بالموت والعذاب والنار .

 

كنا نطاردها ونحن نغني بصوت جماعي " صلي صلاتك يا حرذون ، أمك وأبوك في الطابون "

 

أغنية تربط الصلاة ، بالموت ، بالعذاب في النار ، ربط خرج من اللاوعي واللاارادة .

 

لماذا كنا ندعو الحراذين للصلاة ، ونحن نعلمها بوجود والديها في الطابون ، طابون الفلاحين المستعر بالحرارة واللهب .

 

كيف تولد الحقد فينا على مخلوقات ضعيفة تمارس العبادة ، كما كنا نفهم منذ الطفولة ؟

 

الحراذين أدركت ذلك ، بطريقة ما ، وحملت جنسها نحو المقابر ، طلبا للأمن والحماية والبقاء ، احتمت بالموت من الحياة ، واحتمت بالمجهول الغامض ، من المعلوم والمعروف .

 

فهل تركناها تنعم بصداقة الموت والمجهول ؟

 

تشعر بخشخشة بين الأعشاب الملوحة ، المحروقة والمصلية ، تطل عليك أفعى ضخمة ، ترقبها بعيون الرعب والهلع ، المقبرة والموت ، يبرزان أمامك كماردين من نار ، تشعر بالسم يسري بكيانك ، تتحسس جسدك ، تمسك انتفاضة الجلد المتواصلة ، تحدق بالأفعى ، وهي تتلوى ضائقة ذرعا بسم تدفعه الحرارة للخروج ، تتسارع دورتك الدموية ، وتبدأ القبة المتدلية بالغوص في أعماقك .

 

تقفز رعبا حين تلمس قدمك ورقة نبات جافة ، تصرخ صرخة تتكون في نغماتها انبعاثات الموت ورائحته ، تفتش عن الأفعى ، فتصبح مستحيلا بعد وجود.

 

تتحول إلى قطعة من الجبن والهزيمة والصغر ، تضج أحشاءك وتصطدم ، تتمنى دخول احد ما ارض المقبرة ، تلك الأرض المنزوعة من ذاكرة الإنسان والزمان والمكان ، رغم توسطها المدينة ، ورغم التفاف الشوارع حولها كحيات عملاقة.

 

التوقع والتحسب يسكنان أعماقك ، تتحول إلى قطعة من الخوف والعجز ، كقطعة من انهيار مشهود .

 

ألم يكن الحرذون يوما بين يديك ؟ فلماذا لم تشعر بأحاسيسه ونوازعه وهو يتلوى عذابا ووجعا وخوفا وعجزا ؟ لماذا لم توقف انهياره المشهود ؟

 

منذ سنين ، رحلت الحراذين من المقابر ، تلاشت ، ترى في أي مكان تخنفي هي الآن ؟

 

مقابر الطفولة ، تختلف عن مقابر الشباب والكهولة ، تماما كمرايا الطفولة ومرايا الشباب والكهولة.

 

يوم الخميس ، هو يوم المقابر المشهود لأهل مدينتنا ، فهو اليوم الذي يتحرك فيه الموتى من قبورهم لاستقبال الأحياء القادمين للزيارة ، ومعهم المصاحف ، والمسابح ، والأدعية ، والحزن والقهر والدموع ، ومعهم – وهذا ما يهمنا كأطفال – حسنة الصدقة من معمول وغريبة ومبسوس ، ومعهم بعض النقود المفكوكة إلى تعاريف وقروش .

 

كنا نتوجه زرافات ، إلى المقبرة الصامتة ، الغارقة بالصمت ، لنزاول مهنة السؤال والتسول ، سؤال أهالي الموتي أن يمنحونا بعضا من الحلوى والقروش .

 

يوم الخميس ذاك ، الذي اختفى بين غلالات زمن مهجور ، كان عيدا من أعياد الطفولة ، الطفولة التي كانت تتمنى موت المدينة لتكثر حبات المعمول والقروش .

 

تلتهب الشمس ، تتدلى أكثر ، تشعر بالشوك ينبت في حلقك ، ووخزه يمتد من أسفل الحنجرة ، إلى سقف الحلق ، يسقط الحزن بأعماقك ، كسقوط الشلال في مصب الوجود ، تتحرك حاجتك للبكاء ، لكنك تشعر بوهن عارم في القدمين ، تسقط ككومة لحم على صخرة تتلظى غيظا وقهرا ، يسافر الوجع ليجول المقبرة ، لاما كل آلام الموت ، ليقذفه بصدرك.

 

ترى ، لو لدغتني الأفعى ، أي مساحة من هذه الأرض ستكون حاضنة لجسدي ؟

 

اندفع لفح القبة مرة واحدة ، تأصل وتمكن وترسخ ، اندفعت الروح نحو مساحات الحيرة والغموض ، تجذرت ، وتلوعت النفس بخفايا ضياع موبوء بضياع ، تهاوت الأشياء ، والرؤى ، والأزمنة ، والأمكنة .

 

أين الحراذين التي هربت نحو الموت طلبا للحماية من الحياة ؟

  مأمون احمد مصطفى

فلسطين – مخيم طول كرم

النرويج – 1 – 9 -2007

 

 

 

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت