العالم نحو صياغة إقتصادية جديدة على ضوء تداعيات وباء كورنا

بقلم: عذاب العزيز الهاشمي

عذاب العزيز الهاشمي
  • بقلم الدكتور عذاب العزيز الهاشمي

 بالتاكيد لم تكن جائحة كورونا (COVID-19)، ذات منحى وبائي صحي فقط، بل إن ارتداداتها الاقتصادية كانت واضحة ومباشرة على الاقتصاديات المحلية للدول، وكذلك الحال على اقتصاداتها البينية.

فبحسب تقرير "بنك التنمية الآسيوي"، فإن الاقتصاد العالمي قد يتكبد خسائر تتراوح ما بين 5.8 تريليونات دولار و8.8 تريليونات دولار، أي ما بين 6.4% و9.7% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي نتيجة الجائحة.

تبرز هذه الأرقام حجم التداعيات الاقتصادية التي يمكن أن تنعكس بشكل مباشر على اقتصاديات الدول الكبرى ولا تستثني كذلك الدول الصغيرة أو النامية، فيما تشكل حالة شمولية لجميع القطاعات وبنسب مختلفة.

وفي محاول لتقديم قراءة متوازنة لطبيعة انعكاسات الجائحة على الاقتصاد العالمي، استقرأ رأي مجموعة من الخبراء المختصين، الذين رسموا ملامح هذه الانعكاسة من خلال:

1-    توقعات بحالة ركود قاسية بسبب حجم الديون الضخم التي وصلت لها الاقتصادات نسبة للناتج الاجمالي.

2-    العالم ينتظر الدول التي ستنجح في إدارة الأزمة الصحية وبناء اقتصادها وستكون النموذج الذي يحتذى به.

3-    السياسات الاقتصادية في ظل الأزمة تسعى إلى إيجاد نقلات نوعية في طريقة التعاطي على سبيل إيجاد سياسات نقدية من البنوك المركزية والسلطات للخروج من الأزمة بأقل الأضرار.

4-    الأزمة الحقيقية ستظهر بعد انتهاء كورونا على القطاعات الاقتصادية ال‍منهكة بسبب تداعيات الإجراءات الحكومية والفيروس، إذ ستجد الكثير من الدول نفسها مدينة بأرقام مرتفعة وعليها السداد.

5-    الأمر البارز على مستوى العالم من وراء هذه الأزمة، بدرجة أولى، هو عودة الصناعات والأموال المهاجرة إلى بلادها، ما قد يؤدي إلى صدمة كبيرة حول العولمة التي كانت متبعة بالعقود الماضية، وستؤدي إلى عواقب وخيمة، لأن هجرة الأموال من بلد إلى بلد، ستنتج فراغ في الدول المهاجر منها الأموال.

6-    أسس الاقتصاد الحر والليبرالي ستبقى وتستمر برعاية صندوق النقد الدولي الذي لا شك أنه استغل هذه الأزمة لصالحه بشكل كبير.

7-    التداعيات المباشرة للأزمة ستكون أولا على سلسلة القيم العالمية، إذ سيكون هناك عودة لسلسلة القيم الجهوية، ما يعني بداية نهاية عولمة الاقتصاد.

8-    هناك تشكل لنظام سياسي عالمي جديد تكون فيه الصين وبعض الدول كروسيا وتركيا وغيرها قوى اقتصادية عالمية.

9-    الأوربيون يتخوفون من أن الركود الاقتصادي إذا حل، سيخلق تعددية استراتيجية، وحينها الاتحاد الأوروبي لن يكون له ثقل.

10-  على الدول العربية النفطية أن تفكر باتجاه إعادة تنظيم العلاقات الاقتصادية، من خلال إعادة تشكيل الصناعات والإشراف عليها بشكل مباشر.

المواطن ربما يتجاوز النظام الاقتصادي الرسمي للدول ويبدأ البحث عن فرصة من خلال إما شبكات التواصل الاجتماعي، أو منصات التمويل المجتمعي

«لقد تغير العالم... وأن غدا لن يشبه اليوم»، هذا ما قاله الرئيس الفرنسى، ماكرون، بعد جائحة كورونا، مكررا ما قاله الرئيس الصينى قبله بأيام؛ أما داهية السياسة الخارجية ومستشار الأمن القومى الأمريكى الأسبق، هنرى كيسنجر، فيرى بأن «فيروس كورونا سيغير النظام العالمى إلى الأبد». هذه الكلمات، والتى صدرت عن قادة ومفكرين من شرق العالم وغربه ووسطه، تظهر بوضوح أن التغيير القادم سيكون هائلا؛ وأن عالم ما بعد كورونا لن يكون كسابقه. لذا، سنحاول فى هذا المقال استشراف سمات عالم ما بعد كورونا، حتى نتمكن من صياغة سياسات مناسبة للتعامل مع هذا المستقبل الغامض. ولكى تكون عملية الاستشراف تلك علمية ومنهجية، سنحاول فى هذا المقال التعرف على الانعكاسات الاجتماعية والاقتصادية والاستراتيجية الرئيسية لوباء كورونا على مستقبل العالم.

كورونا... «كساد اجتماعى» وفقدان الامل

تعتبر التبعات الاجتماعية لكورونا أكبر حجما وأعمق وأدوم أثرا من تبعاته الاقتصادية، خاصة فى المجتمعات الغربية. ففى تلك المجتمعات التى يعيش أفرادها حياة ناعمة منضبطة ومستقرة، ولم يتعرضوا لتقلبات الحياة، يصبح الفرد أكثر هشاشة من الناحية النفسية. ومع طغيان النزعة الفردية فى هذه المجتمعات، تضعف «المناعة النفسية» للفرد والمجتمع، وتظهر العديد من الأمراض النفسية والاجتماعية. كما أن تفاقم تلك الجائحة بهذا الشكل الكبير والسريع فى دول الغرب المتقدم، لم يثر الذعر والإحباط لدى الأفراد فقط، بل لدى الحكومات والقيادات.

وترى مجلة «Scientific American« أنه مع كورونا والحَجْر الصحى وتزايد حالات البطالة، فقد أصبح القلق، والإحباط، ونوبات الهلع، والاكتئاب، والميول الانتحارية، شائعة جدًا أثناء الإغلاق. وتتوقع بعض التقارير أن يكون ضحايا الانتحار بسبب جائحة كورونا أكبر بكثير من ضحايا الفيروس نفسه. وأن تزايد معدلات الانتحار فى الغرب، ليس بين كبار السن فقط، بل بين الصغار أيضا كما أشارت صحيفة الجارديان

من ناحية ثانية، وفى ظل هذه الظروف الاجتماعية، من المتوقع أن تنخفض معدلات المواليد، المنخفضة للغاية أصلا، فى أوروبا والولايات المتحدة. كما أن تلك المناطق ستكون أقل إغراءً للمهاجرين عما كانت عليه قبل كورونا؛ وهو ما يعنى أنه سيكون هناك تناقص سكانى حاد فى تلك المناطق، وهو ما سوف يكون له تبعات اقتصادية حادة فى هذه الدول.

كورونا والاقتصاد العالمي ...  بين بطالة وركود وديون

يقول تقرير الأمم المتحدة الصادر نهاية مارس الماضى، بعنوان «المسئولية المشتركة، التضامن العالمى: لمواجهة الآثار الاجتماعية والاقتصادية لـCOVIDــ 19»، أن حائجة كورونا سيكون لها آثار هائلة وطويلة المدى على الاقتصاد العالمى واقتصاد الدول على السواء. وقد انتهى صندوق النقد الدولى للتو من إعادة تقييمه للنمو المتوقع لعامى 2020 و2021، ليقول بأن العالم قد دخل مرحلة كساد أسوء من تلك التى شهدها العالم عام 2009.

ويوضح تقرير لصحيفة نيويورك تايمز، بتاريخ 16 مارس 2020، بعنوان «هكذا سوف يدمر كورونا الاقتصاد»، أن فيروس كورونا يهدد بإحداث مضاعفات حادة فى اقتصاد عالمى مريض ومثقل بالديون. ومع احتمال استمرار ضعف، أو توقف، التدفقات النقدية للشركات والدول، نتيجة لجائحة كورونا، ستصبح العديد من هذه الشركات والدول عاجزة عن سداد أقساط الفائدة، فضلا عن التداعيات الخطيرة المصاحبة؛ كانخفاض الإنتاج وارتفاع معدلات البطالة والركود الاقتصادى. وهو ما بدأت ملامحه فى الظهور بانخفاض أسعار النفط إلى مستوى متدن للغاية يهدد شركات النفط التى تسعى لسداد ديونها؛ ويهدد الدول المصدرة للبترول التى تعتمد على عوائده فى شراء احتياجاتها.

ويؤكد التقرير أنه كلما طالت مدة جائحة كورونا، كلما زاد احتمال حدوث أزمة مالية أخطر بكثير من تلك التى شهدها العالم عام 2008. وفى ضوء هذا الوباء النادر الذى لم يستطع العلم بعد أن يفهمه بصورة كاملة، ناهيك عن إيجاد علاج له، فإن تبعات هذه الجائحة ستستمر لفترة طويلة. هذا الغموض حول مدة تأثير هذه الجائحة يضيف عبأً اقتصاديا آخر، يمثل فى تخوف الشركات والدول من ضخ استثمارات ضخمة فى مستقبل غير واضح.

وفى تقرير للإندبندنت العربية بتاريخ 25 مارس 2020، ترى الصحيفة بأن كورونا يدفع بشركات ضخمة نحو الإفلاس نتيجة لانخفاض الارباح وتزايد الديون. ويتوقع التقرير أنه مع تفاقم الأزمات المصاحبة لانتشار فيروس كورونا المستجد، تحوّلت الأزمة من مجرد كساد وركود عنيف إلى أزمة أكبر تتمثل فى انهيار شركات ضخمة وإعلان إفلاسها.

كورونا... وإشراكية المرض

تشير العديد من التقارير إلى أن أزمة كورونا لم تثبت فشل العولمة فحسب، بل أثبتت مدى هشاشتها وزيف الكثير من الحجج التى سيقت لتبريرها. فمع بداية الوباء، سارعت جميع الدول التى روجت للعولمة، واستفادت منها اقتصاديا واستراتيجيا، إلى الانغلاق إلى الداخل والحد من السفر وإغلاق حدودها، وتخزين الإمدادات الطبية. وترى صحيفة «Foreign Affairs» الأمريكية بأن «كورونا يقتل العولمة التى نعرفها» وأن هذا الوباء يعتبر هدية للقوميين؛ وتتوقع أن يكون له آثار طويلة المدى على حرية الحركة للأفراد والبضائع.

من ناحية ثانية، ترى بعض التقارير المهمة أنه بينما كانت العولمة تخدم أنظمة رأسمالية دولية على حساب الفقراء فى العالم الثالث، فإن كورونا قد تخطى تلك الفوارق الطبقية وأوجد ما يمكن تسميته بـ«اشتراكية المرض»؛ بحيث أصبح الفقير والغنى معرضين بنفس الدرجة لهذا الوباء الذى أصبح عابرا للطبقات الاجتماعية بكل درجاتها وتصنيفاتها (بى بى سى، 28 مارس 2020). هذا الوضع قد جعل الجميع متسايين، من حيث العجز، أمام مواجهة هذا الوباء.

التداعيات الاقتصادية وارتداداتها العكسية:

 لا شك إن إيقاع التغير المتسارع يجعل انتقال الآثار أسرع، ويجعل القدرة على التكيف أضعف، في ظل الاضطراب الذي يتركه متغير قليل الاحتمال عظيم التأثير، وهو الكورونا في حالتنا هذه.

وبالنظر إلى السوابق التاريخية في تأثير الأوبئة على الاقتصاديات الدولية، نجد مثلاً أن السارس SARS كلف دول شرق آسيا في سنة 2003 نحو 2% من إجمالي ناتجها القومي في حينه، بينما زلازل اليابان سنة 2011 كلفت اليابان ما يوازي 235 مليار دولار، وتوقف الإنتاج في بعض من أكبر شركاتها، [10] وبقيت آثار الزلزال حتى سنة 2017، على الرغم من الإمكانيات الكبيرة لليابان على التكيف، ولا شك أن آثار الكورونا تفوق ذلك في حالة دول كثيرة.

ومن الواضح أن تداعيات الأزمة لا تتساوى في كل الدول (بشرياً واقتصادياً)، ولا في كل القطاعات (قارن قطاع السياحة أو شركات الطيران أو الشركات الكبرى مع قطاع البنوك أو البورصات...إلخ)، ولا في كل الأقاليم (قارن نسبة التأثير في أوروبا والولايات المتحدة والصين مع الدول الإفريقية أو دول أمريكا اللاتينية)، او بين الدول النفطية وغيرها من الدول حيث تراجعت أسعار البترول الى 20.84 دولار للبرميل مع الأسبوع الاخير من نيسان/ أبريل وهو أدنى مستوى لها منذ سنة 2000، بل إن الأسعار النفطية في السوق الأمريكي وصلت إلى حد السالب، وهي المرة الأولى التي يصل فيها التراجع هذا الحد.

أما في الدول النامية أو الفقيرة أو التي تعيش فترات عدم استقرار سياسي سيكون العبء عليها أكثر وطأة، فتدفق الأموال الخارجية نحوها تباطؤ بقدر كبير، كما أن تكاليف المواجهة مع الفيروس من خلال النفقات الصحية وتعطل الأعمال يزيد الأمور سوءاً، ونتيجة للمخاطر المحتملة في هذه الدول بشرياً واقتصادياً بدأ الاستثمار في هذه الدول يتجه نحو تضييق نشاطاته، فخلال الفترة من بداية أزمة الكورونا حتى أواخر آذار/ مارس سحب المستثمرون ما قيمته 83 مليار دولار من هذه الدول، وهو أعلى قيمة في تاريخ الاستثمارات الأجنبية، مما دعا 80 دولة حتى الآن للتقدم لصندوق النقد الدولي أو البنك الدولي للمساعدة، وهو أمر قد يدفع هذه المؤسسات الدولية للتعامل مع هذه الدول من خلال حقوق السحب الخاصة Special Drawing Right، على غرار ما جرى في أزمة سنة 2008، إلى جانب أن العديد من البنوك المركزية الرئيسية تعمل من خلال خطوط مقايضة Swap ثنائية مع دول الأسواق الناشئة، وقد تدفع المنظمات المالية الدولية هذا الاتجاه للأمام وتوسع نطاقه خصوصاً إذا طالت الأزمة،  لا سيّما وأن التقديرات الأولية تشير إلى أن الاقتصاد العالمي بحاجة لإنقاذ قد يصل إلى أكثر من 10 تريليون دولار،  مع ضرورة التنبه إلى أن معدلات النمو الاقتصادي العالمي من 2008 (الأزمة المالية) إلى 2020، لم تتجاوز خلال الـ 12 سنة معدل 3% إلا في ثلاث سنوات هي سنة 2010 (4.5%)، وسنة 2011 (3.4%)، وفي سنة 2017 (3.3%)، بينما باقي السنوات كانت دون 3%، مما يعني أن الاقتصاد العالمي كان يعاني الكثير من المشاكل قبل الكورونا، وعليه لا يجوز رسم صورة مستقبلية منفصلة عن بنية النظام الاقتصادي العالمي السابق للكورونا.

كما وتشير معطيات التعامل الاقتصادي مع الأزمة، إلى أن الاتجاه التعاوني هو الأرجح دون نفي أن هذا الاتجاه يستبطن في أحشائه قدراً من التنافس، لكن الضغوط المالية والتجارية والنقدية تشمل الجميع، على الرغم من تباين وطأتها، من مكان لآخر، فهي مثلاً في قطاع غزة أثقل كثيراً منها في أي بقعة أخرى في العالم.

من جانب آخر، تبين أن هناك علاقة إيجابية بين مستوى الانخراط في العولمة وبين معدل زيادة دخل الفرد من إجمالي الناتج المحلي، وتشير الدراسات إلى إن زيادة نقطة واحدة في مؤشر العولمة يؤدي إلى ارتفاع دخل الفرد بمعدل 0.33 نقطة. [19] وهو أمر تدركه الكثير من الدول التي ستبقى حريصة على العولمة في بعدها الاقتصادي خصوصاً.

وأخيرا، فإن الفجوة التنموية بين العالمين، المتقدم والنامى، قد بدأت فى التناقص نتيجة لانخفاض انتشار كورونا وانخفاض كلفته الاقتصادية فى العالم النامى مقارنة بالعالم المتقدم.

هذه المتغيرات توفر فرصة نادرة لصياغة نظام عالمى جديد أكثر عدلا؛ إذا إن التفاوض فى هذه الحالة لن يكون بين منتصر ومهزوم، كما كانت الحال عند صياغة النظام العالمى الحالى، بل سيكون بين مهزوم ومهزوم جدا. هذا الوضع يوفر فرصة نادرة للعالم النامى للضغط لصياغة نظام دولى أكثر عدلا من الناحية الاقتصادية والاستراتيجية.

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت