تناولت ورقة تقدير استراتيجي تحمل عنوان: حرب كارباخ .. أرمينيا وأذربيجان (الجذور، التدخلات، السيناريوهات) إشكاليات العلاقة بين أرمينيا وأذربيجان، ونقاط الخلاف الرئيسة بينهما.
وتقول الورقة التي أعدها الكاتب والمحلل السياسي د. صلاح الوادية، "قبل أيام بدأ صراع قديم جديد بين أذربيجان وجارتها أرمينيا على أرض إقليم ناغورنو كارباخ (قرة باغ)، ويقع كارباخ ضمن الأراضي الأذربيجانية والذي يقطنه سكان أرمنيين بنسبة 95%، المعارك بين الطرفين تشتد فالطرف الأذري يقول أنه احتل 24 قرية وبلدة واعتلى بعض تلال الإقليم وأنه أوقع خسائر فادحة في صفوف الجيش الأرمني وعتاده العسكري، في حين يقول الطرف الأرمني أنه صد كل محاولات التوغل الأذري في الإقليم وأوقع الكثير من الخسائر في صفوف عدوه".
وتضيف:"فجأة وبشكل لافت للانتباه أصبح العالم برمته مهتما بشدة بهذا الإقليم وما يجري فيه وحوله، وبدأت تعلو الأصوات المطالبة بوقف المعارك وبدء الحوار وأصوات أخرى أعلنت اصطفافها وغيرها هدد وندد، لكن هذا الصراع له جذور وليس وليد اللحظة أو السنوات الأخيرة، وهذا الصراع يخفي خلفه الكثير من الوجوه الإقليمية والدولية المتناحرة بالوكالة وذات مطامع وطموحات في أذربيجان وبحر قزوين وفي دول القوقاز وغيرها عموماً".
ورصدت الورقة أهم التدخلات في الحرب بين أذربيجان وأرمينيا والتي لها مبرراتها عند أصحابها، والتي قد تؤدي إلى اشتباكات إقليمية تنتهي بصراع أو حرب دولية غير محمودة عقباها، كما أنها استعرضت أشكال ومآلات الحل أو النهايات، وأهم السيناريوهات المحتملة، وتستشرف مستقبل الصراع بين البلدين.
وإليك الورقة كاملة
ورقة تقدير استراتيجي
حرب كارباخ .. أرمينيا وأذربيجان
الجذور، التدخلات، السيناريوهات
د. صلاح الوادية
توطئة
قبل أيام بدأ صراع قديم جديد بين أذربيجان وجارتها أرمينيا على أرض إقليم ناغورنو كارباخ (قرة باغ) ومعناه (جبال الحديقة السوداء) نظرا لأن الإقليم عبارة عن سلسلة جبلية، يقع كارباخ ضمن الأراضي الأذربيجانية والذي يقطنه سكان أرمنيين بنسبة 95%، المعارك بين الطرفين تشتد فالطرف الأذري يقول أنه احتل 24 قرية وبلدة واعتلى بعض تلال الإقليم وأنه أوقع خسائر فادحة في صفوف الجيش الأرمني وعتاده العسكري، في حين يقول الطرف الأرمني أنه صد كل محاولات التوغل الأذري في الإقليم وأوقع الكثير من الخسائر في صفوف عدوه، ناهيك عن أن هذه الحرب ستجد فيها تناقضات لا أنزل الله بها من سلطان في التحالفات والمواقف العتاد العسكري وحتى المقاتلين وتنوع الا يلتقي إلا على أرض كارباخ، وهذا ما سنتبينه هنا بالتفصل.
فجأة وبشكل لافت للانتباه أصبح العالم برمته مهتما بشدة بهذا الإقليم وما يجري فيه وحوله، وبدأت تعلو الأصوات المطالبة بوقف المعارك وبدء الحوار وأصوات أخرى أعلنت اصطفافها وغيرها هدد وندد، لكن هذا الصراع له جذور وليس وليد اللحظة أو السنوات الأخيرة، وهذا الصراع يخفي خلفه الكثير من الوجوه الإقليمية والدولية المتناحرة بالوكالة وذات مطامع وطموحات في أذربيجان وبحر قزوين وفي دول القوقاز وغيرها عموماً، وهذا يدعونا لدراسة مجمل هذه التفاصيل بشيء من الدقة لمعرفة خبايا كل ما يدور حولنا، فهذه المعارك قد تمتد لحرب إقليمية أو عالمية جديدة.
تبحث هذه الورقة إشكاليات العلاقة بين أرمينيا وأذربيجان، وتركِّز على نقاط الخلاف الرئيسة بينهما، وتسلط الضوء على التدخلات الخارجية، وتستشرف مستقبل الصراع بين البلدين.
أولاً: جذور الصراع
يقع إقليم ناغورنو كارباخ ضمن حدود أذربيجان وهو أرض أذرية بالأساس ولكن سكانه حاليا بنسبة 95% هم أرمنيين، حيث يقع على الحدود بين أذربيجان وأرمينيا، ويعتبر سلسلة جبلية غنية بالمعادن الثمينة مثل الذهب والنحاس ويعتمد سكانه على التعدين والزراعة والسياحة ولا يوجد به أي نفط أو غاز، ويبلغ عدد سكانه 150 ألف نسمة، ويتمتع بإستقلالية عن أذربيجان وتبعية لأرمينيا، غير أنه لم يعترف باستقلاله دوليا حتى اللحظة، ويحتل إلى جانب أراضي الإقليم الأصلية ما يقارب 9% من أراضي أذربيجان كمناطق عازلة لتبلغ مساحة الإقليم الإجمالية 4800 كم أي ما يقارب 20% من أراضي أذربيجان.
وعودة للجذور، حيث احتلت روسيا البلشفية عام 1921 كل من أذربيجان وأرمينيا وأصبحتا ولايتان تابعتان للاتحاد السوفييتي، وكانتا مثل كل ولايات الاتحاد السوفييتي متعايشتان وليس بينهم أي مشاكل، فلم يكن أصل الصراع موجوداً بعد إضافة إلى قدرة الاتحاد السوفييتي وتحديداً في عهد جوزيف ستالين على فرض التعايش بين ولاياته بالقوة، وفي حينه أعلنت روسيا البلشفية أن إقليم كارباخ يتمتع بحكماً ذاتياً بحجة أن سكانه من الأرمن، لتعود عام 1923 وتجعل إقليم كارباخ تابعاً إدارياً لأرمينيا، وفي المقابل تجعل إقليم ناخيتشيفان الواقع في الأراضي الأرمينية تابعاً إدارياً لأذربيجان، وبذلك أسست روسيا للصراع بينهم بشكل لا ينتهي إلا بحلول مغايرة وخلاقة ومنها تبادل أراضي.
ولكن الاشتباك لم يبدأ بشكل فعلي بينهما إلا بعد تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991، واستقلال كل من أذربيجان وأرمينيا، حيث أعلنت أذربيجان بعد استقلالها انتهاء الحكم الذاتي لإقليم ناغورنو كارباخ، لتسارع إدارة الإقليم بإعلان استقلاله عن أذربيجان وبدعم من روسيا وأرمينيا، ولكن إعلان الاستقلال اشعل الحرب عام 1992 بين أذربيجان وأرمينيا التي انتهت بتغيير الخارطة الديموغرافية للإقليم حيث كان سكانه بنسبة 75% من الأرمن و 25% من الأذربجانيين، ولكن خلال الحرب حصلت حالات تطهير عرقي للمسلمين في الإقليم فهربوا إلى أراضي أذربيجان ليصبح عدد سكانه بنسبة 95% من الأرمن، كما أدت الحرب لاحتلال أرمينيا إقليم كارباخ و7 مقاطعات محيطة به ما نسبته 20% من أراضي أذربيجان، وأودت تلك الحرب التي بدأت عام 1992 وانتهت عام 1994 بحياة ما يقارب 35 ألف انسان من الطرفين، ورغم أن الحرب انتهت بوقف إطلاق النار إلا أنها بقيت بؤرة صراع ساخنة تتجدد فيها الاشتباكات بين الفينة والأخرى.
ثانياً: المواقف والتحالفات
إن الذي يدعونا للقول أن هذه المعارك قد تمتد لحرب إقليمية أو دولية أو قد يتم إخمادها بأسرع وقت هو حجم التدخلات فيها وحجم التحالفات العلنية والخفية مع كلتا البلدين، فلو نظرنا لأذربيجان نجد أن تركيا منذ اللحظة الأولى أعلنت عن وقوفها معها وأنها ستساندها عسكريا ولوجستيا، وأكثر من هذا فهي في العامين الأخيرين وجهت قوات من تركيا نحو أذربيجان لتدريب القوات الأذرية لزيادة كفاءتها القتالية وتحسينها، كما أنها تمدها منذ سنتين بأحدث المعدات والطائرات العسكرية التركية، كما أنها نقلت المرتزقة السوريين من ليبيا إلى أذربيجان مع بدء المعارك ليحاربوا إلى جانب الأذريين، أما إسرائيل فهي حاضرة أيضا في المشهد فتجد الطائرات الإسرائيلية تحارب إلى جانب الطرف الأذري فالرئيس الأذربيجاني إلهام علييف هو صديق حميم جدا لإسرائيل، ورغم غياب الولايات المتحدة عن المشهد في حرب كارباخ نظرا لانشغالها في الانتخابات الأمريكية إلا أنها سيكون لها كلمتها وحضورها في أقرب وقت، أما على الجانب الأرمني فهناك دعم عسكري لوجستي إيراني وأوروبي وتحديدا فرنسي ودعم روسي حيث يحارب الأرمنيين بالسلاح الروسي المتطور ناهيك عن وجود قاعدة عسكرية روسية في أرمينية، هذه التحالفات لها مسبباتها ودوافعها لكل دولة على حدا أهمها:
- مطالبات أذربيجان المتكررة باسترداد إقليم كارباخ من أرمينيا وضمه لها بصفته أراضي أذرية، وهذه المطالبات لن تنتهي إلا بتسوية سياسية دولية تكون مرضية لأذربيجان.
- الأهمية الاستراتيجية للإقليم بالنسبة لأذربيجان، فهو جبال عالية تكشف معظم الأراضي الأذرية وتشكل تهديدا حقيقياً للأمن الأذري، كما أن التواجد الأرمني فيها يهدد أنابيب النفط والغاز المتجهة نحو أوروبا والتي تمر بالقرب من الإقليم وأرمينيا، إضافة إلى أن نصف الإقليم الحالي هو أراضي تحتلها أرمينيا كمناطق عازلة وتم تهجير ما يصل إلى مليون أذري منها في حرب عام 1992 وأذربيجان لا تتنازل عن هذه الأراضي.
- الأهمية الاستراتيجية للإقليم بالنسبة لأرمينيا، تعتمد أرمينيا اقتصاديا على التعدين والزراعة ولا يوجد بها نفط حتى الآن، كما أنها تعاني من حصار اقتصاديا من جارتيها أذربيجان وإيران اللتان تغلقان حدودها معها ولا تشاركها في استثماراتها النفطية عبر التفاف امدادات النفط والغاز من خلال جورجيا، كما أن أرمينيا ليس لها أي حدود بحرية وإنما حدود برية مغلقة في معظمها ما عدا جزء بسيط مع ايران وجزء مع جورجيا، وداخل هذه الحدود المغلقة توجد أراضي أذربيجانية مستقلة، لذا هي تبقي سيطرتها على إقليم كارباخ لتحسين شروط تفاوضها مستقبلا أو للضغط على أذربيجان لتمر أنابيب النفط إلى تركيا وأوروبا عبرها مستقبلا لتستفيد منه بأسعار زهيدة ولتستثمر عبر توصيله من خلال أراضيها.
- النفط والغاز في أذربيجان، حيث تعتبر الأخيرة دولة غنية بالنفط والغاز، فقد وصل إنتاج النفط في أذربيجان إلى حوالي 914,000 برميل نفط يوميا وبليون متر مكعب من الغاز ووصل معدل الإنتاج إلى أقصاه في 2008 حيث أنتجت أذربيجان 1.2 مليون برميل نفط يومياً في 2008 ومن المتوقع أن تعود لصدارة الإنتاج مجددا.
- الطموح الإقليمي والدولي لأمريكا وإسرائيل وروسيا وتركيا وأوروبا في التواجد في بحر قزوين وأطماعهم بالنفط الأذربيجاني، والتي سنأتي عليها بالتفصيل.
- القوميات والنزعات الاثنية والعرقية، فتركيا لها طموح تاريخي وتواجد تاريخي أيضا في أذربيجان تسعى لإعادة إحياؤه، وإيران تسعى لاستعادة العلاقة المتينة مع أذربيجان الشيعية بعد أن نقضتها التدخلات الأمريكية.
- خطوط الغاز والتي تعتبر نقطة صراع مهمة ومصيرية بين روسيا وتركيا، سنأتي عليه بالتفصيل.
إذن هذه أهم الأسباب التي دفعت البلدين للاشتباك في الوقت الحالي، والتي يتضح منها أن خلفها الكثير من المصالح والتدخلات الإقليمية والدولية والتي بها الكثير من التناقضات المفهومة وغير مقبولة.
ثالثاً: التدخلات الإقليمية والدولية في حرب كارباخ
هناك الكثير من التدخلات في الحرب بين أذربيجان وأرمينيا والتي لها مبرراتها عند أصحابها، ولكن هذه التدخلات قد تؤدي إلى اشتباكات إقليمية تنتهي بصراع أو حرب دولية غير محمودة عقباها، فهناك كثير من اللاعبين أعينهم على هذه الرقعة الصغيرة المتصارع عليها، وهنا نرصد أهم التدخلات ودوافعها، كالتالي:
- تركيا، هناك طموح تركي لإستعادة التواجد التركي التاريخي في القوقاز وآسيا الوسطى والبلقان (الحزام التركماني) وبذلك يحيي القومية التركية التي تمتد من بحر قزوين حتى بحر إيجه، فقد بدأ التواجد التركي في القوقاز منذ عام 1915 حين دخل أنور باشا على رأس جيش تركي إلى القوقاز وتحديدا لأذربيجان ووقعت حينها ما تسمى اليوم (مذابح الأرمن)، كما أن هناك مقولة بين الطرفين الأذربيجاني والتركي تقول أن كل من تركيا وأذربيجان هي دولتان لشعب واحد، دليل على عمق العلاقات التاريخية بينهم، أما الجديد فإن تركيا تولي اهتمام كبير لخط الغاز الأذربيجاني أو التركي (تاناب) الذي يمر من أذربيجان عير جورجيا إلى تركيا ومن ثم إلى أوروبا وإسرائيل، والذي يتدفق عبره 16 مليار متر مكعب سنوياً؛ حيث تريد تركيا أن تنوع مصادرها للطاقة وأن تقلل من اعتمادها على الغاز الروسي الذي يصلها بسعر ضعف الذي تحصل عليه أوروبا من روسيا، وهو استغلال واضح من روسيا لحاجة تركيا للغاز، وهذا الأمر قد ينتهي باستغناء تركيا عن الغاز الروسي وعدم تجديد العقد الذي ينتهي في عام 2021، فالجديد أن تركيا أصبحت تعتمد بشكل كبير على نفط وغاز أذربيجان في الأعوام الأخيرة، في الاستهلاك والاستثمار من خلال توريد هذا النفط والغاز لأوروبا، أيضا زيادة حجم التبادل التجاري بينها وبين أذربيجان وجورجيا ودول أوروبا المستوردة لنفط أذربيجان عبر تركيا، وهو مدخل مفيد لها في أوروبا ليبقى لها قدم هناك في بحثها عن حلمها الدائم بالانضمام للاتحاد الأوروبي.
الجدير بالذكر أن تركيا تشعل أكثر من بؤرة توتر وتخوض معارك على أكثر من جبهة، خدمة لطموحها واستعادة دورها في الإقليم، والأهم أنها تخوض ثلاث معارك غير مباشرة وبالتزامن مع روسيا في كل من ليبيا وفي إدلب سوريا وفي كارباخ أذربيجان، وهذه المعارك قد تتصاعد لتصل إلى حرب بين الطرفين رغم أنها محسوبة، إضافة إلى نقاط التوتر التي تفتحها مع كل من اليونان ومصر، وخسارتها للمحور العربي نظرا لدعمها المطلق للإخوان المسلمين.
- روسيا، إن كل من أذربيجان وأرمينيا تعتبر الحديقة الخلفية لروسيا، فهم يوما ما ليس ببعيد كانتا ولايتان تابعتان لها وليس دولا مستقلة وكانت كل خيراتها تحت تصرف روسيا، وهي ما زالت موجودة هناك من خلال العرق الروسي الذي وزعته في زمن الاتحاد السوفييتي على كل ولاياتها ومن خلال مصالحها ومن خلال قاعدة عسكرية في أرمينيا وأيضا من خلال دعمها لأرمينيا وإقليم ناغورنو كارباخ، فمن مصلحة روسيا أن يستمر الصراع بين أذربيجان وأرمينيا لأكثر من سبب، منها:
- حتى يبقى لها نفوذ في البلدين وإمكانية للتدخل في شؤونها وبينهما.
- حتى تستطيع بين السلاح للطرفين، صحيح أنها تبيع السلاح الأكثر تطورا لأرمينيا ولكنها لا تتوانى عن بيع السلاح للأذريين.
- أن تستطيع استخدام هذه الورقة في وجه الغير مثل أمريكا وأوروبا والأهم في وجه تركيا التي ترتبط مصالحها بشكل كبير مع أذربيجان.
- الاستفادة من نفط وغاز أذربيجان عبر تحويل خطوط أنابيبه ليمر بروسيا بدلا من جورجيا، وهي طموحة لإنشاء خط الغاز الروسي الذي ينطبق من بحر قزوين وأذربيجان ويمر بروسيا وصولا لأوروبا، بدلا من خط تاناب التركي، وهي تحاول إبقاء الصراع مستمر لتتعالى المعارك وتتضرر خطوط الامداد التركية، لتبدأ معها رحلة تحول خطوط الامداد نجو روسية التي تستطيع أن تضمن سلامته أكثر من تركيا، وهذا ما قد يستحوذ على اهتمام أذربيجان فيما بعد، فهي أولا وقبل كل شيء تريد أن يصل نفطها لأوروبا بسلام حفاظا على تجارتها الدولية.
هذا يعني أن في الصراع بين أذربيجان وأرمينيا هناك صراع مصلحي موازي وأكثر حدة مستقبلا بين روسيا وتركيا، صراع لن ينتهي بمجرد وقف المعارك بين الأذر والأرمن، فهو ممتد في أكثر من بؤرة وعلى أكثر من جبهة، ولن تهدأ روسية قبل أن تحصل على حصتها من النفط والغاز الأذربيجاني.
- إيران، لطالما العلاقات الإيرانية الأذربيجانية استراتيجية ومتينة وفيها تبادل دبلوماسي وتجاري كبير وواسع، فقد كانت السفارات الإيرانية تخدم المواطنين الأذريين وتمثل أذربيجان عبر العالم وذلك بعد استقلال أذربيجان عام 1992، كما أن عدد سكان أذربيجان 6,5 مليون نسمة، في حين أن ايران يوجد بها أكثر من 8 ملايين أذري متواجدين في شمال إيران، ولطالما كانت إيران داعمة للمطالب الأذرية في إقليم ناغورنو كارباخ، ولكن حدث الكثير منذ أن اعتلى إلهام علييف حكم أذربيجان، حيث انفتح على العلاقات مع الغرب والولايات المتحدة على حساب العلاقات من مع كل من روسيا وايران، وتم تجاوز ايران في كثير من مشاريع النفط وخطوط النفط المتجهة نحو الغرب بعيدا عن أراضي إيران ومبادرات تعزيز أمن الطاقة والخلافات بين البلدين على حقول الغاز في بحر قزوين.
وأمام الضغط الأمريكي والعقوبات المفروضة على طهران، جرى استبعادها من مشروع القرن النفطي، وهو ما أوجد حالة من انعدام الثقة بين الجانبين، وانتقلت إيران من الشريك التجاري رقم واحد لتصبح الشريك التجاري رقم 3، وكانت تركيا وروسيا في مقدمة منافسي إيران على هذا الصعيد، كما أن الولايات المتحدة مارست الضغط على أذربيجان في عهد إلهام علييف لطرد المستشارين العسكريين الإيرانيين من أذربيجان وهو ما حدث فعلا كما ألغت أذربيجان اتفاقية التعاون المشترك بينها وبين إيران تحت الضغط والتهديد الأمريكي بسبب العقوبات التي على إيران، لذلك فإن إيران في حرب كارباخ الحالية تقف ضمناً إلى جانب الأرمن انتقاماً من أذربيجان وعلى أمل أن يتم استبعاد كل من روسيا وجورجيا من المشروع الذي تعمل عليه بروكسل بمرور خطوط نفط بحر قزوين وتحديدا غاز تركمانستان عبر إيران وصولا لبروكسل في خطوة من شأنها إنهاء التبعية لروسيا في إطار أمن الطاقة في أوروبا.
- إسرائيل، وهي دولة احتلال لها مصالح إقليمية وتبحث عن الانفتاح على دول الإقليم شمالاً وجنوباً، فهي تمتلك قدرات تصنيعية عسكرية كبيرة وتبحث عن أسواق لهذا السلاح، وتجمعها بأذربيجان علاقات وطيدة منذ أن جاء إلهام عليه الرئيس الحالي لأذربيجان، وتستفيد من النفط والغاز الأذربيجاني عبر خط الغاز التركي الذي يصلها من أذربيجان عبر تركيا، لذلك فإن إسرائيل تقف مع أذربيجان وتدعم تطورها عسكرياً ومقاتلاتها فوق تحلق في سماء أذربيجان.
- الولايات المتحدة، من الطبيعي أن يكون لأمريكا الدولي الأقوى في العالم مكان في هذا الصراع الدولي على النفط والغاز، وهي لا تفوت ذلك، حيث تخطط الولايات المتحدة لإنشاء قاعدة عسكرية أمريكية في أذربيجان مطلة على بحر قزوين، وستقوم بذلك في أقرب فرصة بعد الانتهاء من الانتخابات الأمريكية، وسيتضح موقف أمريكا من الصراع في القريب العاجل بعد انتهاء الانتخابات الأمريكية، وسبب التأخر في التدخل أو الإعلان عن الموقف هو اللوبي الأرمني في أمريكا وتأثيره في الانتخابات وهو الأمر الذي يخشاه الرئيس الأمريكي ترامب في حال تصرف على عكس المزاج الأرمني في الصراع، لذلك سيكون الموقف الأمريكي بعد الانتخابات، فهناك أكثر من مليون ونصف المليون أميركي أرمني، ولديهم عضوان في مجلس النواب، وعدة صحف تصدر باللغة الإنجليزية، ويعتبر اللوبي الأرمني إلى جانب اللوبي اليهودي واليوناني جماعات الضغط الأكثر تأثيراً من أي جالية أخرى على السياسة الأميركية.
- دول أوروبا، ليس لها موقف منحاز فالاتحاد الأوروبي يدعو إلى وقف إطلاق النار فورا ويندد بالتدخلات الخارجية في إقليم ناغورنو كارباخ، في حين أن البعض يرصد ميل فرنسي لدعم أرمينيا.
ربما هناك تدخلات أخرى غير ملحوظة وغير مذكورة وقد تتطور هذه التدخلات في الأيام المقبلة وقد يصبح بعض دول الإقليم أطرافاً أصيلة في هذه الحرب.
رابعاً: التناقضات
الغريب في هذه الحرب أنها تحمل الكثير من التناقضات في التحالفات والتناقضات في المواقف، فتجد أن اليهودي الإسرائيلي يقاتل إلى جانب المسلم الأذري ضد المسيحي الأرمني، والمسلم السني التركي يقاتل إلى جانب الشيعي الأذري في حين تزعم تركيا أنها تدعم السنة في سورية ضد الشيعة، وأن الشيعي الإيراني يدعم المسيحي الأرمني ضد الشيعي الأذري، وغيرها من المفارقات، هذا يدلل على أن كل الادعاءات التي ساقتها دول مثل تركيا وإيران في السابق بحجة دعم السنة أو دعم الشيعة ما هي إلا مبررات لتدخلها في شؤون الدول الأخرى وشؤون الغير عموماً، ولذلك تعتبر هذه الحرب كاشفة لكثير من الوجوه التي تدعي حرصها على الأقليات السنية هنا أو هناك مثل تركيا، والتي تدعي حرصها ودعمها للأقليات الشيعية هنا أو هناك مثل إيران، فكل من إيران وتركيا تدعم في حرب كارباخ طوائف عكس التي تدعي دوماً أنها تدعمها في دول المحيط.
خامساً: سيناريوهات حرب ناغورنو كارباخ
تتصاعد المعارك بين أذربيجان وأرمينيا بشكل مطرد ومقلق، الأمر الذي قد يؤدي إلى مآلات بعضها لا يحمد عقباه، وقبل الدخول في السيناريوهات، يجب أن نعلم أن القدرة العسكرية من معدات وآليات ومقاتلين وأيضا المساحة الجغرافية وعدد السكان كلها عوامل تميل لصالح أذربيجان، وأن الدعم العسكري وزيادة كفاءة المقاتلين الأذريين أتى أوكله وأنهى النقص في النوعية الذي كان موجودا في الجيش الأذري، لذلك إذا ما ترك الأمر لأذربيجان وأرمينيا وتم عزل التدخلات الخارجية فإن النصر سيكون حليف أذربيجان، ولكن الأمر لا يتم على هذا النحو وليس بهذه البساطة، ولن تقاتل أرمينيا أو أذربيجان وحدها، لذلك سوف تتعدد أشكال ومآلات الحل أو النهايات، وأهم هذه السيناريوهات المحتملة:
السيناريو الأول: وقف إطلاق النار وعودة الأوضاع لما كانت عليه قبل الجولة الحالية من التصعيد.
استمرار المعارك والقتال بين الطرفين فترة من الزمن مع تحقيق انتصارات بسيطة لهذا الطرف أو ذاك، وصولاً لتدخلات دولية تؤدي إلى وقف إطلاق النار، والجلوس لطاولة المفاوضات أو مؤتمراً دولياً يؤسس لحل الأزمة على مراحل وليس دفعة واحدة، فالأزمة بينهم شائكة ومتشعبة وتحتاج لمفاوضات مرحلية وطويلة، قد تنجح وقد تنتهي في أي لحظة بعد بدئها لتعود الأمور إلى ما كانت عليه قبل المعارك.
اعتقد أن هذا السيناريو هو الأقرب للتحقق في المرحلة الحالية، فلا يستطيع أحد الأطراف كسر الآخر نظرا للتحالفات الموجودة، ونظرا لرغبة روسيا في بقاء الصراع بين الدولتين، وهنا أؤكد أن مفتاح حل الصراع هو روسيا إذا ما توفرت الإرادة الروسية للحل، لذا فالأقرب للتحقق في هذه المرحلة هو إبقاء الحال على ما هو عليه قبل المعارك.
السيناريو الثاني: استعادة أذربيجان للسبع مقاطعات الأذرية المحيطة بإقليم كارباخ.
ووفق هذا السيناريو وبناء على ما يرد من ساحة المعركة فقد يستطيع الجيش الأذربيجاني استعادة المقاطعات السبعة التي احتلتها أرمينيا في حرب 1992 والتي ضمتها لإقليم كارباخ وجعلت منها مناطق عازلة، وإذا ما استطاع الجيش الأذري استعادة هذه المناطق فهو بذلك يحاصر إقليم ناغورنو كارباخ، ويقطع الامدادات العسكرية التي تصله من أرمينيا من خلال قطع التواصل الجغرافي بينه وبين أرمينيا، وحينها سوف تستجيب أذربيجان لمطالبات وقف اطلاق النار والجلوس على طاولة المفاوضات مع إدارة إقليم كارباخ وأرمينيا، ويطالب بعودة الأذريين الذين هجروا من المناطق الأذرية السبعة والذين يصل عددهم إلى ما يقارب مليون نسمة، وعودة توزيع الديموغرافيا في إقليم كارباخ ليعود إليه العرق الأذري بنسبة لا تقل عن 30%، أي عودة الأمر إلى ما كانت عليه قبل احتلال أرمينيا للإقليم.
قد يبدو هذا السيناريو صعب تحقيقه في ظل الدعم الروسي والإيراني والفرنسي لأرمينيا ووجود مقاتلين من حزب العمال الكردستاني إلى جانب مقاتلي الإقليم والأرمن وفق مزاعم أذربيجان، ولكن الدعم التركي الإسرائيلي لأذربيجان لا يستهان به ويشكل إضافة نوعية لقدرات الأذر العسكرية، لذلك ممكن أن يكون هذا السيناريو قابل للتحقق جزئيا، ولكن سيكون هناك ضحايا بالآلاف بين الطرفين.
السيناريو الثالث: احتدام القتال بين أذربيجان وأرمينيا ليمتد لحرب شاملة بين الطرفين.
قد تتطور المعارك بين الطرفين لتصل لحرب شاملة، وهذا أمر وارد حيث أن الطرفان وفق الأخبار الواردة قد ضربوا عمق الآخر ولم تقف المعارك عند حدود كارباخ، فإذا ما ضغط الجيش الأذربيجاني على مقاتلي كارباخ فقد يضطر مقاتلي كارباخ الأرمن إلى استخدام الميزة الجغرافية للإقليم، حيث أن تلال إقليم ناغورنو كارباخ وجباله تعتبر من أهم الأماكن الاستراتيجية في القوقاز، ومن يعتلي هذه التلال يستطيع التحكم في طرق التجارة وقطعها ويستطيع ضرب أنابيب الغاز ويستطيع أيضاً ضرب العمق الأذربيجاني بالمدفعية، وإذا ما حدث هذا سيضطر الطرف الأذري من زيادة وتيرة القصف واستهداف مدن أرمنية في أرمينية وليس إقليم كارباخ فقط، وفي حينها ستندلع الحرب الشاملة بين الطرفين، والتي لن يمكن السيطرة عليها بسهولة أو دون خسائر فادحة، والتي ستأخذ وقتا طويلا لتتوقف أو لا تتوقف في المنظور القريب.
هذا السيناريو وارد ويحتمل وقوعه إذا ما خرجت المعارك عن السيطرة، ولكنني استبعده لأن أذربيجان دولة نفطية صاعدة ولها شأن اقتصادي في الإقليم، ولن تضحي بهذه المكانة في الإقليم والعلاقة المميزة مع الغرب بسهولة، لذلك سوف تتصرف بعقل وحنكة وتحاول أن تستعيد ما تستطيع من الأراضي الأذرية والتوقف عند ذلك الأمر، في تحقيق سريع لمكاسب جغرافية، مع استمرار تجارتها دون الخوض في غمار حرب قد تأتي على كل ما راكمته من مكانة ونجاحات.، كما أن أرمينيا في غنى عن الدخول في حروب طويلة الأمد، فوضعها الاقتصادي المتواضع لا يسمح لها بذلك وتفوق أذربيجان عليها عسكريا وجغرافيا وسكانيا يؤخذ في الحسبان.
السيناريو الرابع: اندلاع حرب إقليمية أو دولية (حرب عالمية) تنطلق من كارباخ.
تتشابك وتتلاقى وتتضارب المصالح الدولية في إقليم كارباخ، فهناك طموحات إقليمية وطموحات دولية وطموحات عرقية وطموحات نفطية في القوقاز، في أذربيجان وفي بحر قزوين، هذه الدول العظمى والكبرى التي لها هذا الطموح هناك لن تتخلى عنه بسهولة، ولن تتنازل عن أحلامها وطموحاتها في أهم مناطق العالم بدون مقابل، واذا ما احتدم الصراع وأصبح التدخل في المعارك مباشرا أي ليس حرب بالوكالة، واضطرت هذه الدول الدخول في ساحة المعركة دفاعا عن مصالحها، أو في حال تغلب أحد الأطراف المتناحرة على الآخر فلن يقف حلفاؤه متفرجين وسيدخلون المعركة، وفي حينه ستندلع حرب إقليمية لن تقف حدودها على حدود القوقاز أو الإقليم اجمالا وإنما ستكون المعركة الحاسمة لكثير من الحسابات والخلافات الدولية والتي تم تأجيلها وارجاءها في أكثر من مرة، وهنا سنكون أمام حرب عالمية ثالثة.
لا اعتقد أن هذا السيناريو قابل للتحقق بشكل كبير، فالدول الكبيرة وصاحبة المصالح عابرة القارات تدير علاقاتها وحروبها بميزان من ذهب، وتحاول الابتعاد جاهدة عن الحروب التقليدية عالية الكلفة المادية والسياسية، وتتجه نحو السباق الاقتصادي، وحروب الوكالة، ومؤخرا بتنا نتوقع وجود الحروب البيولوجية الصامتة، والتي قد تكون جائحة كوفيد-19 أحد هذه الحروب التي سيكون لها ما بعدها، وستعيد ترتيب الاقتصادات الدولية المتنافسة لصالح أحد أطراف السباق الاقتصادي المحموم، لذا هذا السيناريو مستبعد على الأقل في المرحلة الحالية والجميع سيعمل على تفاديه.
قد تتوافق بعض السيناريوهات مع بعض القراء وقد يتنافر البعض الآخر من جزء منها ويتفق مع آخر، ولكني أرى أن السيناريو الأول هو الأقرب للتحقق في ظل المعطيات المحلية والدولية، وفي ظل كل المصالح المحيطة بمنطقة القوقاز وفي ظل الوضع الدولي الحذر بشكل عام، وهو السيناريو أقرب للحفاظ على مصالح كلا الطرفين الأقل طالما لم يخسروا المزيد من وراء المعارك وطالما بإمكانهم التراجع والبدء بالتفاوض.