هل ثمة صراع أم تنافس روسي ايراني في وعلى سورية؟

بقلم: محمد احمد الروسان

المحامي محمد احمد الروسان
  • *كتب: المحامي محمد احمد الروسان*

*عضو المكتب السياسي للحركة الشعبية الأردنية*

 

 روسيّا الخارجة من سورية، هي روسيّا الغارقة عند عتباتها، فهل تريد روسيّا فعلاً إخراج إيران من سوريا مثلاَ؟ وهل نجحت روسيا في تخفيف نشاط اسرائيل الجوي في سورية ازاء تحجيم الوجود الايراني؟ وهل سينجح مثلاّ بوتين في تقييد الفعل العسكري الاسرائيلي في سورية بصورة ومحددات معينة؟

 

الواضح من مواقف تل أبيب وواشنطن، أن التركيز سيكون على طلب وحيد وهو إخراج إيران من سوريا، ولكن هناك العديد من التساؤلات: ما هو المقابل الذي ستقدماه تل أبيب وواشنطن لقاء تعاون موسكو في هذا الشأن؟ كيف ستحقق موسكو هذا الطلب الآن في وقت ما تزال المعارك طاحنة في الشمال السوري، وما زال الأمريكيون متواجدون على الأراضي السورية كمحتلين، ويدعمون تشكيل كيان كردي شرق الفرات، وكذلك تمدد تركيا شمالا وتمركزها في إدلب، ودعمها العلني لفصائل عسكرية بعضها مصنف إرهابياً وفق التقييم الدولي؟.

 

 صحيح واقع ومنطق وبدون عواطف، بقدر ما تريد الحكومتان الأمريكية والإسرائيلية من روسيا أن تساعد في تقليص الوجود الإيراني في سوريا أو إنهائه، فمن غير المؤكَد بدرجة كبيرة أن تقوم موسكو بذلك، أو حتى أنها قادرة عليه، فلو استطاعت روسيا فعل ذلك بطريقة ما، إلا إنها لن تفعله لمجرد أن الولايات المتحدة وإسرائيل تعتقدان أنّ(هذا هو الشيء الصحيح الذي ينبغي فعله)، بل لأنها تريد شيئاً ذا قيمة كبيرة في المقابل، حيث أبرز ما تريده موسكو باعتقادي هو التالي: الإعتراف بضم روسيا لشبه جزيرة القرم، في العام 2014 م، وإلغاء العقوبات الإقتصادية التي فرضت عليها بعد ذلك، والإعتراف بوجود قوة روسيا على الساحة الدولية، وقيام العلاقات على مبدأ الشراكة لا الهيمنة.

بالنسبة إلى سوريا، رفع العقوبات الأمريكية عنها وشطب قانون قيصر، ودعم استقرارها ووحدتها ونهوض اقتصادها، ورفع الحظر عن الإنفتاح العربي على دمشق، والفيتو على انطلاق ورشة إعادة الإعمار ودون ربطها بمسألة الحل السياسي.

 

في المقابل، إن موافقة الولايات المتحدة على تقديم مثل هذه التنازلات لروسيّا سيكون له تداعيات كثيرة، أبرزها: التأثير سلباً في علاقات واشنطن مع حلفائها الأوروبيين، خصوصاً بعد موجة من التململ أصابت العديد من دول الإتحاد الأوروبي لا سيما بعد تولي الرئيس ترامب مقاليد الحكم، وتفاقم المخاوف الأمريكية حيال استعداد الرئيس ترامب لتقديم تنازلات أكثر للرئيس بوتين، وهذا شيء لا تريده حملة الرئيس ترامب، قبيل انتخابات الرئاسة الأمريكية المرتقبة الشهر القادم من هذا العام 2020 م في استحقاق نوفممبر.

 

بلا شك هناك العديد من الأمور التي يجب التطرق إليها خصوصاً من الناحية الروسية، وأبرزها يتمثل في التالي: تعتبر موسكو أن طهران شريك حقيقي لها في العديد من الملفات، بحر قزوين ومنظمة شنغهاي للتعاون ومحاربة الإرهاب، وتبعا لذلك، إذا كانت تقبل ضرب القوات الإيرانية في سوريا فإنها حتماً لن تقبل، مع الصين، ضرب(إيران الآسيوية)بأي شكل من الأشكال.

 

 إنّ الوجود العسكري الإيراني، ومعه قوة حزب الله، قد يكون أداة (إبتزاز)جيدة في يد روسيا ضمن مشاريع الغاز المستقبلية في المنطقة إلى أوروبا، خصوصاً إذا ما تم ربط ذلك مع العلاقات التي بدأت تزدهر، بعض الشيء، ما بين موسكو وأنقرة، هذا وتعمل روسيا، بحسب ما تقول، ضمن إطار القوانين والقواعد الدولية، من هنا وفي هذه المسألة بالذات، لا يمكن لها تخطي الإرادة السورية في هذا الشأن، خصوصاً وأن هناك مخاوف لدى الأخيرة بعد قرار الرئيس ترامب إعترافه بما يسمى سيادة إسرائيل على هضبة الجولان المحتل.

 

يوم اتخذت روسيا قرارها بالتدخل العسكري في سوريا في عام 2015 م، كان من الطبيعي أن  تشعر الدولة الوطنية السورية ، وجلّ النسق السياسي السوري ورئيسه الدكتور بشّار الاسد، على قدر كبير من الراحة والاطمئنان. هذا وقد انتهت السنة الخامسة على هذا التدخل العسكري والذي جاء بناءً على طلب الدولة السورية، وبالتوافق مع كارتلات الحكم في مفاصل الدولة الفدرالية الروسية.

 

لقد كان الدخول الروسي المباشر في الصراع السوري مؤشراً، على أن مرحلة تحوّلات قد بدأت تفرض نفسها في الميدان العسكري، بعد سقوط الجبهات العسكرية الواحدة تلو الاخرى، على وقع اندفاعة المجموعات المسلحة المعارضة والتكفيرية المدعومة اقليمياً ودولياً في معظم أنحاء الوطن السوري.

 

لكنّ ذلك لم يكن سوى الرأس الظاهر في جبل جليد التدخل الروسي، إذ كان ثمة سبب آخر لطمأنة الدولة السورية والرئيس الأسد، وهو أن ثمة قوة عظمى حليفة قد أتت لتوازن النفوذ الإيراني، الذي بات أمراً واقعاً منذ تدفق ضباط الحرس الثوري الإيراني إلى الميدان السوري، الأمر الذي رأت فيه بعض أجهزة الدولة السورية خطراً مؤجلاً، برغم العلاقة التحالفية الاستراتيجية بين دمشق وطهران منذ زمن طويل.

 

ثمة قاعدة ثابتة في الحروب على مرّ التاريخ، وهي أن الضرورات العسكرية غالباً ما تبيح المحظورات السياسية، وينطبق هذا الأمر بشكل خاص على العلاقة بين سوريا وايران، فالأولى دولة يفترض أنها تشكلت وفق نموذج ظاهره على الأٌقل علماني، وبأيديولوجية تمتد جذورها إلى سيتينيات القرن المنصرم، فيما الثانية دولة من طراز آخر قائمة على ايديولوجية تزاوج بين الثيولوجية والتوسع الامبراطوري، بما يجعل مساحات التناقض بينهما طبيعية، برغم مساحات الالتقاء الشاسعة القائمة بفعل العوامل الاقليمية والدولية المتعددة.

 

على الجهة الأخرى، تبدو العلاقات بين روسيا وسوريا أقلّ تعقيداً، ليس فقط بسبب الجذور التاريخية التي تمتد إلى الحقبة السوفياتية، والتي ربما تأثرت قليلاً بفعل التحولات التي عصفت بروسيا في حقبة بوريس يلتسين قبل أن تستعيد مكانتها في حقبة فلاديمير بوتين، بل لأن ثمة قاعدة ثابتة في تلك العلاقات تتمثل في التقاطعات الاستراتيجية بينهما والتي تقوم على أساس مؤسساتي منظم على المستويات السياسية والعسكرية والأمنية والإقتصادية.

 

وبالمقارنة بين العلاقات السورية – الروسية، والسورية – الإيرانية، يمكن على سبيل المثال، الإشارة إلى شكل التواجد العسكري على الأراضي السورية، حيث تحضر روسيا كجيش نظامي محكوم باتفاقيات رسمية مع الحكومة السورية، في حين تحضر ايران بشكل مركب بين قوة نظامية يجسدها الحرس الثوري، وبين مجموعات عسكرية موالية لطهران، وعلى رأسها(حزب الله)والذي دخل بطلب سوري صرف وضروري، وهو ما يترك آثاراً كبيرة على المستويات الميدانية والسياسية كافة.

 

امتداداً للقاعدة المشار إليها سابقاً، يمكن افتراض أن التناقضات بين(حلفاء) الحرب، لا بد أن تطفو شيئاً فشيئاً على السطح، حين تتقدم الترتيبات السياسية على ضرورات الميدان، وهذا ما جعل الحديث عن طبيعة العلاقات الروسية – الإيرانية – السورية، يتجدد بعمق في مرحلة تراجع العامل العسكري خلال آخر ثلاث سنوات تقريباً، لا سيما أن تشعبات هذه العلاقات تقع ضمن مروحة واسعة بين السياسة والاقتصاد والاستراتيجيات والتكتيك.

 

هذا أيضاً ما جعل زيارة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الاخيرة إلى دمشق، محط الأنظار المحلية والاقليمية والدولية، لا سيما أنها أتت استباقاً لاستحقاقات حسّاسة، من بينها الحلقة المفرغة التي يدور فيها عمل اللجنة الدستورية، وبدء العد العكسي للانتخابات الرئاسية السورية في العام المقبل، والأهم من كل ما سبق دخول المشهد الدولي مرحلة الانتخابات الأميركية، حيث تسعى روسيا لترتيب ملفاتها، استعداداً للاحتمالات المتصلة بتجديد ولاية دونالد ترامب أو انتخاب جو بايدن رئيساً.

 

برزت تسريبات صحافية تفيد بأن الوزير الروسي يحمل رسالة من الرئيس فلاديمير بوتين إلى نظيره السوري، فحواها ومضمونها، ضرورة اعتماد مزيد من المرونة في مسار الحوار السياسي، لا سيما مع قرب موعد الانتخابات الرئاسية السورية، التي من المفترض أن يترشح لها الرئيس بشّار الأسد مُجدداً.

 

وتأسيساً على السابق ذكره وشرحه، كانت زيارة لافروف، وهي الأولى له إلى سوريا منذ ثماني سنوات وأكثر، بمثابة زيارة عمل، أكثر منها زيارة احتفالية كما حدث سابقاً، وقد حدد رئيس الدبلوماسية الروسية عنوانها الرئيسي: سوريا نجت من الحرب ضد الإرهاب المعولم، والآن أصبح من الضروري حل المهام الجديدة، لاستعادة الاقتصاد وجذب المساعدة الدولية مع اعادة الاعمار لهذا الغرض.

 

لم يحدد لافروف كيفية القيام بذلك في ظل اشتراط المانحين الأساسيين، ولا سيما الأوروبيين الذين تنظر إليهم روسيا باعتبارهم الأكثر مرونة في التعامل مع الملف السوري، موافقة دمشق على إصلاحات سياسية ملموسة في مقابل رفع العقوبات وتمويل عملية اعادة الاعمار.

 

ولكن قبل بدء لافروف بزيارته تلك حيث مفاعيلها وتفاعلاتها ما زالت في مخاضات الولادة الطبيعية لا القيصرية، برزت تسريبات صحافية تفيد بأن الوزير الروسي يحمل رسالة من الرئيس فلاديمير بوتين إلى نظيره السوري فحواها ضرورة اعتماد مزيد من المرونة في مسار الحوار السياسي، لا سيما مع قرب موعد الانتخابات الرئاسية السورية، التي من المفترض أن يترشح لها بشار الأسد مُجدداً.

 

غير أن ما خرج عن اجتماعات لافروف في دمشق في حينه، لم يحمل أي مؤشر على تبدّل الوجهة السورية فيما يتعلق بالتسوية السياسية، فوزير الخارجية السوري وليد المعلم أكد بوضوح، خلال المؤتمر الصحافي المشترك مع نظيره الروسي وتم بثه في حينه على الشاشات، أن الانتخابات الرئاسية واللجنة الدستورية غير مرتبطين بأي حال من الأحوال، مشدداً على أن عمل اللجنة الدستورية ليس محدداً بالوقت، وهو ما كرره لافروف بدوره حين قال إنّه(لا توجد مواعيد نهائية للجنة الدستورية).

 

وفي ظل هذه الظروف والمعطيات والوقائع والتي تشكل سلّة مؤشرات بكافة الاتجاهات، سيكون من الصعب استعادة الحوار بين دمشق جلّ الغرب ورفع العقوبات عن سورية، ما يعني أن تمويل إعادة الإعمار، الذي لا تستطيع روسيا تحمل عبئه بمفردها، وهو ما يفسر ما طرحه الوفد الروسي من أفكار حول خطة اقتصادية، مستوحاة من تفاهمات تم التوصل اليها في العام 2018 م، وتستهدف تحقيق غايتين، الأولى توجيه رسالة إلى الغرب بأنّ موسكو تمتلك القدرة على احتواء العقوبات على سوريا من خلال آليات بديلة، عمادها الشركات الروسية وبالتشارك مع الصين وحتّى ايران، والثانية توجيه رسالة موازية للقيادة السورية مفادها أن الاقتصاد السوري ينبغي أن يكون روسيّاً بالقدر الكبير، في حال لم يتم تقديم تنازلات جوهرية على طريق التسوية، لا سيما أن موسكو تمتلك ركيزة أساسية في هذا السياق تتمثل في الديون المترتبة على سوريا لمصلحة روسيا.

 

بالنتيجة والمحصّلة، المؤشرات الأولية تشي بأن الاقتراح الروسي بالإنسحاب الإيراني لم يلقَ تجاوباً من قبل القيادة السورية، لأسباب تتعلق بسعي الأسد إلى موازنة النفوذ الروسي بالنفوذ الإيراني، والعكس صحيح.

 

في موازاة هاتين الرسالتين، ثمة رسالة أكثر أهمية موجهة إلى الإيرانيين، بأبعاد سياسية وعسكرية واقتصادية مفادها:

 

في الشق السياسي، تحاول روسيّا من خلال دفع بشار الأسد إلى تقديم تنازلات لتحقيق التسوية السياسية، أن تتمايز عن الموقف الإيراني، وترك الباب مفتوحاً أمام تسوية أوسع نطاقاً مع الأميركيين.

 

ومن المعروف أن التباين في الموقفين الروسي والإيراني، من جلّ الأزمة السورية، والتي هي نتاج حصيلة مؤامرة كونية، يتمحور حول مجموعة من القضايا المتصلة بالتسوية السياسية بشكل عام، لا سيما في بعض آليات مسارات أستانا، إن لجهة اصرار الروس على انخراط الأميركيين في هذه العملية الفاعلة، ولو بصفة مراقب بحدها الأدني، على عكس الرغبة الإيرانية الصرفة، أو في التفاهمات التي جرت بين الرئيسين فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان حول ادلب، والتي استبعدت عنها ايران الى حد ما، برغم كونها الضلع الثالث في(الترويكا)الضامنة لمسارات أستانا.

 

ومع أنّ ما سبق ذكره وشرحه، لم يؤثر سلباً على العلاقات الروسية – الإيرانية، إلا أن ثمة جوانب ربما تثير حساسية في طهران إزاء التحركات الروسية، فإذا كانت ايران قد ارتضت بأن تعود إلى الصف الثاني في الميدان السوري، بعد التدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا، فإنّها استشعرت بالتأكيد خطراً على مصالحها السورية، منذ  تفاهمات قمة هلسنكي ما غيرها، بين الرئيسين فلاديمير بوتين ودونالد ترامب، والذي من الواضح أن ثمة مسعى روسيّاً لإحيائها، كخيار محتمل، مع التأكيد أنّ الاحتمال في السياسة ليس يقيناً، في حال فوز ترامب بولاية رئاسية جديدة.

 

ولعلّ ما سُرّب حول الطلب الذي تقدم به لافروف من الرئيس الأسد، والقاضي بإنسحاب الإيرانيين وحلفائهم من سوريا، يشي بأنّ روسيا بدأت عملية جس نبض لكافة اللاعبين في المشهد السوري، وبطبيعة الحال للجانبين الأميركي والاسرائيلي، حول الانفتاح على تسوية شاملة، تلحظ انسحاب الأميركيين من الشرق السوري، كثمن للخروج الإيراني مثلاً، برغم عدم حماسة الدولة السورية لإتخاذ قرارات كبيرة واستراتيجية، قبل حسم ملف إدلب والشرق السوري المحتل، بدليل ما حصل في سراقب في ربيع العام الماضي 2019 م.

 

انطلاقاً مما سبق، يمكن اعتبار زيارة لافروف بمثابة محاولة أولية، وبطبيعة الحال غير مكتملة، لتحديد آفاق التحرك الروسي في سوريا في المرحلة المقبلة، ورصد ردود الأفعال المحتملة بين الأميركيين والإيرانيين.

 

المؤشرات الأولية تشي بأن الاقتراح الروسي بالإنسحاب الإيراني لم يلقَ تجاوباً من قبل القيادة السورية، لأسباب تتعلق بسعي الأسد إلى موازنة النفوذ الروسي بالنفوذ الإيراني، والعكس صحيح، حتى لا يستجر هيمنة كاملة لطرف بعينه على القرار السوري، وهو موقف يبدو أن الجانب الروسي يتفهمه جيّداً، بدليل ما قاله لافروف من أن تواجد القوات الإيرانية في سوريا أمرٌ تقرره الحكومة السورية وحدها.

 

أمّا في واشنطن، فقد برزت أولى المؤشرات حول الانفتاح الأميركي على الطروحات الروسية، بمواقف شبه رسمية أفادت بامكانية التفاهم على انسحاب متبادل للقوات الإيرانية والأميركية من سوريا، في مقابل تكريس التواجد الروسي.

 

 

وأما في طهران، فيبدو أن ثمة تريّثاً في فهم طبيعة التحرك الروسي، من خلال اتصالات مباشرة، قد تصل في نهاية المطاف إلى تفاهمات تتجاوز سوريا، لا سيما أن ثمة تقاطعات سياسية واقتصادية كثيرة بين الروس والإيرانيين، إن على مستوى العلاقات الثنائية، أو على مستوى السياسات الأوسع نطاقاً في الشرق الأوسط وآسيا عموماً.

 

كلّ ما سبق يبقى رهناً بما ستكون عليه السياسة الأميركية بعد انتخابات الرئاسة في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، وهذا ما يمكن الاستدلال عليه من اختيار لافروف شهر كانون الأول/ديسمبر، موعداً مبدئياً لزيارة جديدة إلى دمشق تستكمل نقاش الأفكار التي طُرحت في الزيارة الأخيرة، فعلى ضوء التوجهات الأميركية المرتقبة – سواء بفوز ترامب او بايدن – ستحسم روسيا استراتيجية وجودها في سوريا، بما يشمل مساحات نفوذها مع ايران، وما عدا ذلك من ترتيبات مع الأميركيين والإسرائيليين والأتراك… وحتى ذلك الحين، يمكن توقع الكثير من الرسائل المباشرة والإيماءات الممهدة لاتخاذ القرار النهائي.

 

ومن هنا مرةً ثانيةً وثالثةً ورابعةً، نقول: إنّ من يسيطر على سوريا(قلب الشرق) يسيطر على الممر الإستراتيجي لجلّ الشرق الأوسط، وبالتالي يتحكم ويسيطر على كلّ أوراسيا العظمى وأسيا الوسطى، حيث الصراع في سوريا وعلى سوريا على الجغرافيا قبل السياسة، هو صراع على الشرق وما بعد الشرق كلّه وقلبه سوريا بنسقها السياسي وموردها البشري، والفدرالية الروسية وبكين بجانب طهران وجلّ دول البريكس تدرك ذلك جيداً.

 

لاشك أنّ القوام الجيو– سياسي السوري، يمارس ويتفاعل بقوّة على مجمل مكونات الخارطة الجيو – سياسية الشرق الأوسطية، وكما تشير معطيات التاريخ والجغرافيا، إلى أنّ تأثير العامل السوري، كعامل إقليمي حيوي في هذه المنطقة، تتطابق آليات عمله وتأثيره، مع مفهوم العامل الجغرافي الحتمي، والذي تحدث عنه جميع خبراء علم الجيويولتيك، وعلم الجغرافيا الإستراتيجية، وعلم الجغرافيا الإقليمية، وحتّى علم الجغرافيا المناخية، حيث تؤكد معطيات العلم الأخير، بأنّ الطبيعة المناخية لدول الجوار الإقليمي السوري، لن تستطيع مطلقاً الإفلات من تأثيرات العامل المناخي الدمشقي، فهل استعدت عمّان ولبنان والعراق وتركيا لذلك جيداً؟. الأمريكي وبتوجيه من البريطاني، حيث الأخير يدير الأول، حاولا انتزاع قيمة سورية الجيوبوليتكية، عبر محاولات انشاء منطقة عازلة في الشمال السوري عزل سورية عن تركيا وأوروبا(نشر التركي لمنظومات دفاع جوي في دار عزّة على الحدود مع سورية بحجة الكرد في عفرين؟ أم أنّه المحاولة العشرين، لأنشاء منطقة عازلة هناك؟)، ويستوليان على الشمال الشرقي لسورية والجنوب الشرقي وجلّ الشرق السوري الى الجنوب، فتحيلان سورية الى جزيرة معزولة عن أوروبا وأسيا جيوبوليتيكيّاً(وفشلا فشلاً ذريعاً، ونتائج لغة الميدان السوري طاغية، والجيش السوري في جلّ الجغرافيا السورية، والمعركة الأهم وفي الظل بدأت في استعادة ادلب وشطب جبهة النصرة هناك)، مع سعي آخر موازي لأقامة كيادن كردي تروتسكي صهيوني خوزمتشي(ادارة ذاتية لأضعاف المركز في دمشق)، بكونفدرالية مع ما استولتا عليه أو تسعيان للأستيلاء عليه في الشرق والشمال الشرقي والجنوب والجنوب الشرقي مع الأردن والكيان الصهيوني(اسرائيل)ثكنة المرتزقة، بعبارة أخرى تعزل سورية عن فلسطين المحتلة وقضيتها وصراعها الأستراتيجي، فتنتهي قيمة الجغرافيا الأستثنائية التي تتمتع بها سورية، فالمعركة والصراع هو على هذه الحغرافيا قبل أن تكون ويكون على السياسة في سورية ونسقها، لقد فشلوا جميعاً، والجيش السوري يقاتل الآن على سفوح جبل الشيخ واستعادة بيت جن في وقته وحينه وظروفه، خازوق بعقد في ايست الأسرائيلي الصهيوني المحتل.

 

 وسورية هي المنفذ الوحيد المتصل بين كل البر الأسيوي والبحر المتوسط، وحاول جلّ السفلة في الحدث السوري من الطرف الثالث من أصلاء ووكلاء عبر حرب البروكسي، الأستيلاء على شرقها من التنف وحتى السويداء(ما زالوا يحاولون وسيفشلوا)، ليصار الى قضم هذه الميزة الجيوبوليتيكية وتحويلها الى شبه جزيرة بمنفذ وحيد على البحر المتوسط، كما حاولوا الأستيلاء على وبعض من القنيطرة لكي تكون سورية عزلت بشكل كلي عن القضية الفلسطينية، لأخراجها من الصراع مع "اسرائيل" ليصار الى تصفية القضية الفلسطينية وعلى حساب الجغرافيا والديمغرافيا الأردنية ليس عبر مفهوم الوطن البديل بل النظام السياسي البديل بديمغرافيات جديدة حالية ولاحقة(قرار ترامب بخصوص القدس وقرار حزب الليكود الحزب الحاكم بضم الضفة الغربية المحتلة وغور الاردن – الارجاء الان لا يعني الغاء، والعمل جاري على الضم بشكل صامت، مع قرار الكنيست الصهيوني في اقرار قانون أساس القدس، والاتفاق الاماراتي الصهيوني، والبحريني الصهيوني، ودخول لبنان الرسمي عبر وفد الجيش اللبناني، في مفاوضات تحديد الحدود مع فلسطين المحتلة(اسرائيل)بصورة غير مباشرة، وتحت علم الامم المتحدة، والرد السوري الرافض لذلك في العمق عبر بيان وزارة الخارجية السورية(الذي رد فيه على نبه بري)، ومحاولة اسرائيل تحويلها الى مفاوضات سياسية وبحضور مرتقب لديفيد شنكر، صديق حزب واشنطن تل ابيب في الداخل الاردني، كل ما ذكر سابقاً هو تظهير لما شرحت وأوضحت).

 

نعم لسورية قيمة فالقيّة جغرافية استراتيجية فريدة من نوعها، بجانب أنّها نقطة تقاطع بين أسيا وأوروبا وأفريقيا، انتزعت فلسطين عبر بلفور فعزلت الشام عن أفريقيا، واليوم يراد عزلها عن أوروبا شمالاً وأسيا شرقاً وشمال غرب أسيا أيضاً بشكل خاص، حيث مفاتيح الأخيرة دمشق ومن يملك المفتاح السوري يملك جلّ أسيا.

 

ثمة محاولات لترسيم معالم المرحلة المقبلة في جلّ المنطقة فهل ترضى موسكو بذلك؟ وهل ترغب في اجهاضه؟ اذا سورية دخلت مرحلة جديدة بعد فشل كلّ الرهانات السابقة وعناوينها السياسية مفتوحة في كل الأتجاهات والمسارات، والحلفاء صامدون الى جانب دمشق، ولكن الأسرائيلي ومعه مستحثّات الرجعية العربية الحديثة والمستحدثة بسبب المال الخليجي قادرون على تسويق هذا المشروع دوليّا وهنا الخطورة في الشرق السوري والجنوب السوري.

 

فاذا نجح اليانكي الأمريكي وجوقته والكومبارس المرافق له، بالسيطرة على سورية كان ذلك ضربة قاسمة لمحور المقاومة من ناحية، وروسيّا من ناحية أخرى، وهذا من جانبه يفسّر أحد أسباب التدخل الروسي والأيراني وحزب الله في الأزمة السورية.

 

لذلك من زاوية الغرب ومن خلفها الولايات المتحدة الأمريكية، ينظرون الى الجمهورية التركيّة بأنّها يجب أن تبقى تحت رعاية غطاء دولي يمنع وفاتها من ناحية، بسبب تساوقها مع رؤى البلدربيرغ الأمريكي في الداخل السوري والمنطقة وها هو الأرهاب يرتد عليها وسيرتد عليها بعد استعادة الجيش السوري لأدلب، ويمنع شفائها من لوثة الأرهاب وعقابيلها وتداعياتها من ناحية أخرى، والعمليات السرية المخابراتية القذرة والتي لا يعلن عن نتائجها في الداخل التركي المحتقن، قرينة صحّة قطعية على ما هو مرسوم لتركيا.

 

في حين أنّ الجمهورية المصرية العربية، تحاول جاهدةً حياكة غطاء دولي واسع(بالرغم من ترددها من سورية لصيانة الأمن القومي العربي، حيث نريد موقفا مصرياً أكثر وضوحاً وفعلاً، وان كانت القاهرة ساندت بشكل واضح الفعل العسكري الروسي في الدواخل السورية)وما زالت القاهرة أسيرة ورهينة لمعادلات دولية وداخلية، حيث العاصمة الأمريكية واشنطن دي سي تمسك بمفاصل دورة حياتها السياسية والأقتصادية والأجتماعية والعسكرية، عبر مظلة دولية سمحت بانتاج آلية تعطيل لقواها الذاتية عبر اتفاقيات كامب ديفيد1979 م، لكي يكتمل حول معصمها القيد. سد النهضة أس مشكلات صيانة الامن القومي المصري والعربي، وليبيا تشكل فخاً للمصري سيندم ان وقع فيه.

 

وصحيح أنّ الرياض قوّة اقليمية ومنذ تأسيس المملكة العربية السعودية وبفعل غطاء دولي أرسيت قواعده في أربعينيات القرن الماضي لا بقواها الذاتية، كشف ذلك بكل وضوح الفخ اليمني لكي يستنزف السعودية ماليّاً وما أبعد من ذلك.

 

وسورية ورغم الجراح والنزف المتعدد، بنسقها السياسي وجيشها العربي العقائدي ومقاومتها الشعبوية، وصمود شعبها ومجتمعها وتماسك القطاع العام وعدم انهياره، رغم الحرب الكونية والصراع على سورية وفي سورية وثبات وصمود الرئيس الأسد، هي من تمنع الأصوليات الأرهابية الثلاث: الصهيونية العالمية، الوهابية وهي اس وجذر الأولى، العثمانية الجديدة، من تفجير المنطقة بالكامل.

 

 والأنكى من كل ذلك هو أنّ: ثكنة المرتزقة(اسرائيل)لم تحصل على أي ضمانات روسيّة واضحة بعدم السماح بنقل أسلحة متطورة من سورية وايران الى حزب الله، لا بل أنّ الرئيس بوتين لم يجمّد اتفاقية صواريخ اس 300 لأيران ووصلت طهران، كما أنّ بوتين لم يوعد الصهيوني نتنياهو بشيء بخصوص سحب حزب الله من القنيطرة ونزع الأسلحة من هذه المنطقة، وكل ما قاله ويقوله بوتين  لنتنياهو أنّ سورية ليست بصدد فتح جبهة جديدة في الجولان السوري المحتل حتّى اللحظة وضمن الظروف الحالية.

 

وعليه لا اتفاق روسي اسرائيلي سوى لجينة(تصغير لجنة)عسكرية مشتركة، لأعلام اسرائيل فقط بلحظة بدء قصف ما تبقى من أدوات الأرهاب الأسرائيلي في الجنوب السوري من جديد، لكي تحتاط تل أبيب من عودة ما أدخلته ورعته وعالجته من ارهابيين في الداخل السوري اليها.

 

العراق عاد أولوية أمن قومي أمريكي لغايات العبث بالجغرافيا والديمغرافيا الأيرانية، والأمريكي يرى في هذا الفعل العسكري الروسي في سورية، والذي هو أبعد من سورية وما يجري فيها، حيث تأمين النفوذ الروسي في المتوسط والعمل الروسي العسكري في فضاءات المجال الحيوي الأمريكي المباشر باقامة قواعد عسكرية على الحدود مع تركيا، وذلك لآقامة توازن مع النفوذ الأمريكي في أوكرانيا، كذلك موسكو تريد تعزيز التحالف مع ايران في سورية، كون الأخيرة منفذ بحري لطريق الحرير الحيوي لكل من الصين وروسيّا وايران للوصول الى المتوسط، وهذا الطريق يحتاج الى أفغانستان ليصل الى ايران، ويحتاج للعراق ليصل الى سورية، فقامت واشنطن باحتلال أفغانستان ولن تنسحب منها، واحتلال العراق ولن تنسحب منه وتعود من جديد اليه عبر الثعبان داعش بمسميات جديدة، لقطع طريق الحرير بين الصين وروسيّا وايران في أفغانستان، وبين ايران وسورية في العراق، والمشروع الأمريكي فشل حتّى اللحظة في كلا البلدين، فمعركة الأرهاب الامريكي في سورية وفي العراق واحدة، وهي معركة الجغرافيا، ترسم معالم المنطقة ومنحنياتها، وهي أيضاً معركة الكانتونات الكرديّة.

[email protected]

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت