- بقلم : أنور حمام
منذ إعلان حالة الطوارئ في فلسطين، وربما قبل ذلك بشهر، بدأتُ رحلةً جديدةً في حياتي، رحلة التباعد الاجتماعي وتجنب السلام باليد أو العناق والتعقيم والتطهير لكل ما ألمسه على مدار الساعة، في المنزل والمكتب والشارع والاسواق والمواصلات، وأي معاملة اجريها مهما كانت بسيطة.
كل من إقترب مني شعر بمدى جديتي المفرطة في التعاطي مع هذا المرض الجديد والغريب، قاعدة بسيطة التزمت بها على مدار شهور، تتلخص بأن: "كل من حولي مصاب بالتالي يجب أن لا ُتنقل العدوى لي"، والشق الآخر من القاعدة "أنني مصاب ولا يجوز أن أنقل العدوى للآخرين "، هذا الهوس الجديد أعادني الى سنوات بداية التسعينيات من القرن الماضي خلال مواصلة دراستي الجامعية في تونس، في تلك المرحلة كنت أقيم في المبيت الجامعي (مبيت نهج اليمن)، نسبة الى شارع بهذا الاسم يقع في حي "لافاييت" بالعاصمة التونسية، حينها كان يسكن معنا في ذات الطابق شاب تونسي جميل وانيق من مدينة الكاف (الواقعة في الشمال الغربي القريبة من الحدود الجزائرية)، هذا الشاب كان يغسل يديه ووجه بليفه مخصصة لذلك تقريبًا عشرات المرات يوميًا ، ومن المستحيل أن نذهب للمغاسل والحمامات المشتركة في أي وقت من اليوم الا ونلمحه واقفًا هناك يؤدي طقوس النظافة.
في ذلك الوقت اعتبرنا زميلانا هذا مصاب بمرض الارتياب أو على اقل تقدير مهوساً، ويحتاج إلى علاج كي يتخلص من هذه العادة الغريبة، قضينا في المبيت الجامعي أوقاتً كثيرةً ونحن نسخر او نستغرب لسلوكه، وظل السؤال عالقاً برأسي حتى اخذت مادة " علم النفس" وحينها شرحت لي معلمتي السبب الحقيقي لهذا السلوك الذي يشير الى اضطراب الوسواس القهري والذي هو مرتبط شديد الارتباط بالقلق والمخاوف والافكار غير منطقية والتي تدفع نحو تصرفات قهرية وتكرار بعض الاعمال كغسل اليدين خوفاً من العدوى.
اليوم اصبح هذا المرض وهذا الوسواس وهذا الجنون جماعياً ولم يعد فردياً، لا بل تجاوز ليصبح ظاهرة عالمية، بعد ان ُأغرقت حياتنا بموجة مرعبة من إعلامية زائفة ومواقع تواصل حتى ليظن البعض أننا أمام نهاية التاريخ والحياة، وخضنا سباقا محموما في نشر النصائح والارشادات والمحددات.
فمن جهتي خضت معارك لتعزيز الالتزام في المنزل والعمل، وسلوكي خارج المنزل اصبح يتسم بمجموعة صارمة من القواعد، في العمل احد الزملاء ينعتني بمسؤول الطب الوقائي، وسائقو تكسي مكتب عين مصباح ومكتب تكسي درويش يتهامزون يوميًا حين أصعد معهم، لانني أعقم أيدي السائقين والنقود وأضع الكمامة واُلزم السائق بوضعها، ونتجاذب أطراف الحديث حول اخر مستجدات الوباء والسياسة،مع الوقت تحولنا جميعاً مثل صديقنا التونسي مهوس النظافه، وصرنا بحاجه لعلاج من هذا الوسواس وهذا القهر وهذا القلق والاضطراب.
خلاصة القول إن ما يكسر هذه الحلقة المرعبة هي الاصابة الفعلية بالفيروس، وخوض التجربة بكل عقل ومسؤولية وموضوعية وبلا مبالغات.
بعد ذلك سنكتشف بأننا ملزمون بعمل غربلة كبرى لكل ما علق بعقولنا وسلوكنا وتصوراتنا وتمثلاتنا حول هذا المرض.
الوكيل المساعد بوزارة التنمية الاجتماعية للرعاية الاجتماعية .
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت