واقع مأساوي أليم، ومعاناة لا تنتهي تلاحق مرضى السرطان في قطاع غزة، أجساد أنهكها المرض وغيرَّ ملامحها، وآلمها العلاج، تصارع الموت البطيء، ومخالب كورونا يتسلل ويغزو مخاوفهم وقلقهم ليكتمل المشهد بسلسلة من العذابات تفتقر الى منظومة علاجية متكاملة، ومعيقات وقيود فرضتها سلطات الاحتلال الاسرائيلي على الحركة والتنقل والتي تهدد حياة المرضى وتحرمهم من حقهم في الوصول الى العلاج.
فيما يحتفل العالم بـ«اليوم العالمي للسرطان» بشعارات مليئة بالأمل والحياة، لكن الحال يختلف في قطاع غزة، الذي يسرد مرضاه آلمهم وآنينهم ويفاقم معاناتهم نتيجة الحصار الإسرائيلي الخانق والانقسام الفلسطيني الداخلي، ووقف التحويلات الطبية للمشافي خارج القطاع.
معطيات مقلقة
وأفادت آخر الإحصائيات أن عدد حالات مرضى السرطان في قطاع غزة بلغت (٨٥١٥) حالة مرضية من بينهم (٦٠٨) طفلاً بواقع ٧ بالمائة من اجمالي الحالات، فيما بلغ عدد النساء المصابات (٤٧٠٥) حالة بما نسبته ٥٥ بالمائة مقارنة بنسبة اصابة الذكور البالغة ٤٥ بالمائة من اجمالي الحالات المسجلة.
وتشير الإحصائيات بزيادة مطردة في عدد حالات مرض السرطان في القطاع بنسبه تتراوح ما بين (١٠-١٥) في المائة سنوياً، ويتم اكتشاف ما بين (١٢٠-١٣٠) حالة جديدة شهرياً، كما بلغت نسبة مرضى السرطان الذين يعالجون في المستشفيات الحكومية بغزة ما نسبته (٤٠-٦٠) بالمائة، فيما تعد النسبة الأعلى من التحويلات للعلاج بالخارج لمحافظة غزة والتي تصل إلى ٤٦ بالمائة.
فيما تتجاوز نسبة العجز في توفير العقاقير العلاجية ٦٠ بالمائة، فيما شهد نقصاً خطيراً في المستهلكات الطبية بلغ ٣١ بالمائة، وفي لوازم المختبرات وبنوك الدم ما نسبته ٦٥ بالمائة وفقاً لإحصائية وزارة الصحة.
وأكدت وزارة الصحة أن مرض السرطان لا يزال المسبب الثاني للوفاة في فلسطين بعد امراض القلب، فيما سرطان الثدي هو أكثر أنواع السرطانات شيوعاً في القطاع، حيث يسجل (٣١٦) حالة جديدة سنوياً بمعدل ١٦ حالة لكل ١٠٠ ألف نسمة و٣٢ سيدة لكل ١٠٠ ألف أنثى، ويمثل سرطان الثدي ٨٠ بالمائة من جميع انواع السرطانات و٣٣ بالمائة من السرطانات التي تصيب الاناث، فيما يُمثل سرطان الثدي ١٥ بالمائة من وفيات السرطان.
معاناة مستمرة
بصوت خافت يملأه الحزن والألم تروي هديل العزازي (25عاماً) قصتها قائلة «كنت اشعر بألم لا يحتمل في الثدي وبعد اجراء الفحوصات أبلغني الطبيب المختص بوجود كتلة حجمها 10 سنتيمترات في الثدي الايسر، تلقيت الخبر وكان بمثابة صاعقة لم أظن يوماً أنني سأصاب بهذا المرض، حزنت كثيراً واستقبلته بدموع عينيّ، لكنني كنت احاول تهدئة نفسي بعدم الاستسلام، فقررت أن أواجه المرض بقوة أمام عائلتي، لكن سرعان ما انقلبت كل موازين حياتي، وبدأ المرض يتغلغل وينال مراده، شعرت بعدها بهزل شديد بجسدي، والأصعب من ذلك تساقط شعر رأسي في تجربة قاسية جداً لتقبل الواقع والتأقلم معه».
تنفست هديل بعمق، وهي تحاول ضبط أعصابها متحدثة «لا أريد أن تتغير ملامحي بلونين، لون المأساة ولون المواساة، فكثير من الناس ينظرون إليّ نظرة استعطاف، وهذه النظرة مميتة». مضيفةً: «رحلة العلاج طويلة وعجز والديّ يرهقني، لأننا لا نقوى على تكاليف العلاج كونها مكلفة بشكل كبير تضاهي ظروفنا المعيشية».
بين الألم والأمل
««لا ألم وأهلاً بالأمل» شعار رفعته عطاف أبو شاويش (50عاماً)، بعد اكتشافها عن ورم سرطاني في القولون، وبمرور الوقت بات المرض يهدد حياتها ويفقدها الأمل في الشفاء، وخضعت لعدة عمليات استئصال للورم وجلسات العلاج الكيماوي للسيطرة على المرض»، راويةً تجربتها في محاربة مرض السرطان «يراك الجميع على حافة الموت.. سنوات مرت من الترقب والخوف، لكن بعد سبع سنوات امتثلت للشفاء، احسست حينها أنني بعثت للحياة من جديد، ومنذ ذلك الوقت اقوم كل ستة أشهر بمتابعة روتينية للاطمئنان». مضيفة: «أخيراً وبعد تجربتي مع المرض أنصح كل مصاب، بعدم اليأس مهما بلغ الألم منتهاه، واليأس حده، إلا أنه يبقى بصيص أمل في الشفاء، أتمسك به لأواجه المرض».
أما الطفل سامر (7 أعوام) الذي يعاني من سرطان الدم «اللوكيميا»، تلقى العلاج في مستشفى المطلع في القدس المحتلة لمدة شهرين، لكن العلاج توقف بسبب انتشار فايروس كورونا ووقف التحويلات الطبية من غزة الى المستشفيات الإسرائيلية، حيث تحدثت والدته والدموع تذرف من عينيها «لا يوجد علاج متوفر لطفلي في مشافي قطاع غزة، ويجب أن يُعالج في مشافي داخل أراضي الـ 48، مصيره أصبح مجهولاً ويواجه الموت كل لحظة».
وطالبت أم سامر بالتعجيل في إنقاذ مرضى السرطان، وإبعادهم عن دائرة الصراعات والمناكفات السياسية ومراعاة حقوقهم.
وأكد مدير مستشفى الرنتيسي التخصصي للأطفال بغزة الدكتور محمد أبو ندى، أن «قطاع غزة يعاني من تدني مستوى الخدمات الصحية، وبالاخص خدمات مرضى السرطان، وتزايد معاناتهم نتيجة جائحة كورونا والتي تكمن بعدم التنقل والسفر الى مشافي الضفة وإغلاق المعابر، وفرض قيود مشددة تثقل كاهل المرضى». مشيراً إلى أن وزارة الصحة تعاقدت مع مستشفى الحياة التخصصي لتوفير كافة احتياجات مرضى السرطان في غزة، في مقدمتها الخدمات التشخيصية وتوفير العلاجات اللازمة، إلا أن التعاقد لم يتم تفعيله. كاشفاً عن مدى الحاجة لمستشفى متخصص بمرضى السرطان في القطاع ينهى عذابات سفرهم.
ونوه أبو ندى إلى أن مرض السرطان من الأمراض الممكن علاجها والشفاء منها، لكن عند اكتشافه المبكر في مراحله الأولى يوفر على المريض رحلة المعاناة. موضحاً أن كلمة «سرطان» تلحق بصاحبه الخوف والذعر وتجعله يعاني من اضطرابات نفسية وحالة اكتئاب وترقب حدوث مكروه في أي لحظة، وهنا تلعب الأسرة دوراً كبيراً في تخفيف معاناة المريض.
تحديات مرضى السرطان
ومن جهته، قال رئيس قسم الاورام في مستشفى غزة الأوروبي الدكتور احمد الشرفا، إن «وتيرة الأزمات التي عصفت بريحها بالمنظومة الصحية نتيجة الحصار الاسرائيلي والانقسام الفلسطيني تسارعت، ومنذ ذلك الحين ونحو نواجه تحديات تعيق نسبة شفاء مرضى السرطان ومنها النقص الكبير في عدد الكوادر والطواقم الطبية المتخصصة بالأورام لعلاج مرض السرطان ونقص العلاجات (العلاج الاشعاعي والمسح الذري)، وعدم توفرها أحياناً يضطر الأطباء لتحويل المرضى لخارج غزة». لافتاً إلى أن النقص الحاد في أصناف الأدوية والمستلزمات الطبية، أي في حال نقص صنف واحد من عدة أصناف يلغي معظم البروتوكولات العلاجية للمرضى، إلى جانب عدم توفير مستشفيات كافية وغياب وجود مراكز متخصصة لمعالجة المرض».
وبين الشرفا وجود عوامل مباشرة وغير مباشرة مرتبطة بزيادة حالات السرطان في القطاع، ومنها تأثيرات الحروب المتكررة وما نتج عنها من ملوثات كيمياوية مختلفة أو من المواد الكيماوية التي يتم استخدامها في الزراعة والصناعة، والعوامل الجينية والوراثية واتباع أنماط غذائية غير صحية، حيث ان التدخين نمط غير صحي، وهناك دراسات عديدة ربطت وبشكل مباشر بين التدخين والإصابة بسرطان الرئة.
وطالب الشرفا بإزالة العقبات التي تهدد حياة مرضى السرطان وتزويد قطاع الصحة في قطاع غزة بحاجاته الأساسية من الأدوية والمستلزمات الطبية بعيداً عن أية تجاذبات وصراعات سياسية.
وبدورها، أكدت رئيسة مجلس ادارة جمعية ساهم لرعاية مرضى السرطان مها شاهين، حرص الجمعية على القيام بدورها الإنساني والاجتماعي، والتعبير عن الحس العميق بالمسؤولية الوطنية تجاه القضايا المجتمعية، وفي مقدمتها مساعدة ومساندة مرضى السرطان بكافة السبل والمتطلبات وبكامل إمكانياتها معنوياً وصحياً في ظل تأثيرات جائحة كورونا.
واشارت شاهين إلى أن الجمعية نفذت عدة أنشطة وفعاليات إغاثية وبرامج توعوية تثقيفية من خلال ندوات وورش عمل دورية، لتوعية المرضى وذويهم بأهمية الفحص المبكر والكشف الذاتي وكسر حاجز الخجل، إلى جانب القيام بزيارات تفقدية لمرضى السرطان للوقوف بجانبهم والتعرف على معاناتهم عن قرب وتقديم الاستشارات الطبية وتوفير الأدوية والتنسيق لبعض المرضى لتسهيل سفرهم لخارج غزة.
وطالبت شاهين وزارة الصحة بتوفير أدوية مرضى السرطان وغرفة طبية في مقر الجمعية ليتم فحص المتحديات والناجيات اللواتي يرغبن في الفحص.
لمن نشكو مآسينا..؟
يُعد قطاع غزة المتضرر الاكبر من غياب الرؤية الاستراتيجية الصحية الموحدة، واستمرار سياسة التمييز وتأزم المناكفات السياسية، ما سبب له أزمات مختلفة أصبحت تدق ناقوس خطر وجب قرعه، فمن ينقذ هؤلاء المرضى ويخرجنا من هذا النفق المظلم .