- بقلم : أ. منى طهبوب
***
نعم، هي معلّقة بكلّ المعايير والمواصفات: الجودة، والمقدّمة، واللغة، والطول، والحكمة، ولأنّ الشاعر متفرّد مبدع فهو يبدأ بذكر المرأة، لكن لا متغزّلاً كما درج الشعراء، بل داعياً بالخير، غابطاً المرأة التي شرُفت باستضافة النبيّ عليه الصلاة والسلام، مشيراً منذ البداية إلى مجموعة من معالم السيرة النبويّة التي بثّها في قصيدته.
ويبدو اسم (محمّد) واضحاً من البيت الأوّل، وإن كانت الإشارة واضحة إلى مناسبة القصيدة، وهي ذكرى مولده الشريف عليه السلام، فإنّ للحملة الدنيئة التي تقودها فرنسا والغرب حضوراً واضحاً، وجاء القرار الحاسم، والردّ القاطع في البيت الثاني (سيبقى أجلّ الناس في كلّ مرصد).
وعودة إلى المعلّقة ومطلعها، فالشاعر يوفّر على القارئ عناء البحث، ويبيّن له أنّه يستحضر معلّقة طرفة بحراً ووزناً وقافية، إضافة إلى إشارة واضحة إلى (خولة)، ولكنّه يعدل عن التغزّل بخولة (فما لي وخولة)، ويستنكر البكاء على الأطلال؛ لأنّه مشغول بالحديث عن (السيّد الوضّاح)، وهل هناك مدخل، أو حسن تخلّص أجمل من ذلك؟!
ولن يكون الحديث شرحاً أو تفسيراً للقصيدة بقدر ما هو إضاءات على بعض مظاهر الجمال والإبداع فيها، لأنّ دراستها كاملة تحتاج بحثاّ طويلاً، وهي جديرة به، ولكن ليس هذا مكانه.
وسيدور الحديث حول خمسة مجالات رئيسة، هي: المعجم اللغويّ، والصور المبتكَرة، والتناصّ، والحكمة، إضافة إلى التعليق على أبيات مميّزة شدّتني، وأجبرتني على التطرق إليها بالتعليق والإعجاب.
أوّلاً: المعجم
ذكرت بداية أنّ إشارة الشاعر الصريحة إلى معلّقة طرفة توفّر على القارئ الدهشة من هذا المعجم الثريّ، والمفردات الجزلة، والألفاظ الغريبة نسبيّاً التي سيتعثّر في قراءتها وفهم دلالاتها من لم يتمرّس على قراءة النصّ الجاهليّ، وذلك يدلّ على ثقافة شاعرنا الواسعة، وهي ليست موضع شكّ، فيبدو لنا كأنّه عايش طرَفة، وحاور امرأ القيس، واحتكم إلى النابغة.
وفيما يأتي بعض المفردات والتراكيب التي لا يكاد القارئ يشكّ في أنّها جاهليّة:
وهاموا بأظعانٍ فما لي وبَيْنِها
إذا يمّمتْ ركبانُها صوبَ ضَرْغَدِ !؟
وساطعُ بَرْقٍ في خَطِيرٍ مُسَوَّدِ
لِيغفوَ ذو جَفْنٍ حَرُورٍ مُخَدَّدِ
لتُمرِعَ أعذاقُ النَخيلِ الزُمُرّدِ
ليلقى سفاهاتِ العَتِيِّ المُنَدِّدِ
وعبدٌ مُبَاعٌ ..كالنِّجادِ المُقَلَّدِ
وظِلَّاً ظليلاً في حَرورٍ وَصَيْهَدِ
فكانَ عظيماً في كِساءِ مُجَنَّدِ
فأضحتْ أَموناً ذاتَ سقفٍ مُعَمَّدِ
وقد وَأَدوا في عَوْسَجِ الرَملِ دُّرَّةً
فعادت حليباً في قَشيبٍ مُمَهَّدِ
أدارت له ظَهْرَ المِجَنِّ المُسَرَّدِ
وتغبطُ كُحلَ العينِ أحجارُ إثْمِدِ
ويحملني نحوَ السَقيفِ المُسَنَّدِ
وألمِسَ سُّكَّ الزَعفرانِ المُنَضَّدِ
وإضافة إلى المفردات جاهليّة الطابع، برز حقل آخر يوحي بنزعة صوفيّة، تفيض ألفاظه حبّاً وعشقاً للحبيب محمّدr، فيما يأتي نماذج منها:
هو القُطْبُ ، والغَوْثُ الجوادُ ، ورَحْمةٌ
ربيعُ قلوبِ العارفينَ بِهَدْيهِ
وقنديلُ بيتِ العارفِ المُتَجَرِّدِ
ثانياً: الصور المبتكرة
قد يتوقّع القارئ أن تكون الصور في القصيدة تقليديّة؛ فيشبّه الرسولr بالقمر، والبدر، والشمس، والنور، والسيف، ولكنّ الشاعر يبهرنا بمجموعة من الصور المبتكرة التي لم يسبقه إليها أحد، يوظّف القارئ حواسّه كلّها ليتذوّقها، ويدرك كنه جمالها، وهل أدلّ على ذلك من:
هو الوقدةُ العذراءُ في صدرِ شاعرٍ وشهقةُ ليلِ الناسكِ المُتَعبِّدِ
هو السُكَّرُ المنثورُ في بَهجةِ الضّحى وأُنشودةُ الطفلِ البريء المُقَنَّدِ
هو الفَرحُ الآتي وراءَ سحابةٍ تُظلِّلُ شيخاً ظَهرُه لم يُسَنَّدِ
هو الرحمةُ المُزجاةُ من فَمِ جَدّةٍ تُهدْهِدُها عَشراً بكلِّ تَودّدِ
لأَنْتَ تمامُ الآيتين وبَدْرُها ودفءُ غِطائي في العراءِ ومَسْنَدي
وصَمْتُكَ أعلى من غِناءِ مُجَوِّدٍ ورعدةِ غاباتٍ وصرخَةِ مَولِدِ
وحزنُكَ ما قالَ الحريرُ لجَمْرَةٍ ودمعةُ رُمّانٍ على خِدّ أَمْرَدِ
وصوتُكَ نايٌ في البُرُوقِ مُسافرٌ ولم يحتجِبْ صوتُ السماءِ.. ليبتَدي
ثالثاً: الحكمة
لا تكاد معلّقة تخلو من الحكمة، وكذلك (معلّقتنا)، ومن أجدر بها من شاعر مثقّف خبير مجرّب! وقد ظهرت أحياناً واضحة مباشرة، وجاءت تذييلاً في أحيان أخرى، وهذه بعض نماذجها:
ومَنْ يطلبِ الأفلاكَ يوماً يُسَهَّدِ
ومَنْ يَلتَمِسْ هَديَ المُحِبّينَ يَرْشُدِ
ومَن يصطحب هديَ النبيِّ وآلهِ فليس وإنْ أمسى وحيداً بأوحَدِ
رابعاً: التناصّ
ليس التناصّ إلّا دليلاً على ثقافة الشاعر، فهو يلجأ إلى القرآن، والحديث، والتاريخ، والأساطير، وغيرها، ويضمّن إشارات منها في عمله الأدبيّ مقارناً، أو داعماً، أو مخالفاً، أي أنّه يوظّفها بما يدعم غرضه وهدفه.
وليس غريباً أن يكون التناصّ في هذه القصيدة دينيّاً في معظمه، وذلك أمر تفرضه طبيعة الموضوع، وتطالعنا نماذج عديدة، وذلك ليس غريباً على من قرأ القرآن فوعاه، وقرأ السيرة فتمثّلها، وهذه نماذج ممّا أشرت إليه:
إذا قال كنْ للشيءِ كانَ بموعدِ
نبوءةُ موسى حين كَلَّمَ ربَّه
وترنيمةُ الأوّابِ والطيرُ تَغْتَدي
ودعوةُ إبراهيمَ مَنْ صدَّقَ الرُّؤى
وسبحانَ مَن في النارِ لم يترَمَّدِ
بشارةُ عيسى والبشائرُ تُرتَجى
وتنجو به القَصواءُ وهو مهاجرٌ
وتَرْقُبُه ورقاءُ غَارٍ مُقَرْمَدِ
خامساً: أبيات مميّزة
ربما لم أجد عنواناً محدّدا لهذه الأبيات التي استوقفتني، فلم أدرك هل جمالها في المعنى، أم في اللفظ، أم في النظم، أم...، لذلك رأيت أن أسمَها بأنّها مميّزة، وليكن رأيي ذاتيّاً أعبّر فيه عن أثر أحدثته هذه الأبيات بشكل خاصّ، إضافة إلى تأثير القصيدة كاملة.
وَهَبْني حُروفاً كي أُتمّمَ جُمْلةً تليقُ بِمَنْ يُعطي النَشيدَ لِمُنشِدِ ..
هل هناك أجمل من أن يستعين الشاعر بالله ليعطيه حروفاً لينشئ كلاماً يليق بالمقام؟
بشيرٌ ومَصْدوقٌ، أمينٌ مُطَهَّرٌ وعبدٌ لغيرِ الّلهِ لم يَتعَبَّدِ
تكثيف واضح من خلال تعاقب الصفات، وإيجاز موفّق، عبّر بكلمات قليلة عن معان تحتاج شرحاً مطوّلاً.
وهل سمعوا إلا الصليلَ جهالةً فصار هَديلاً في فضاءٍ مُغَرِّدِ
تبدّل واضح لما كان عليه القوم قبل الإسلام وما أضحوا عليه بعده، ولكن انظر إلى المهارة، فالصوت يُستبدل بالصوت، والمخيف يصبح مريحاً، والمفخّم يصبح رقيقاً (صليل، هديل).
رسالتُه ؛ أَحْبِبْ ، ولا فَرقَ ، وأعطِ ما لديكَ من الدَّرِّ المُرَنَّقِ .. لِلصَّدي
إيجاز رائع مرّة ثانية: كلمة واحدة (أحببْ) تستثيرك لإكمالها، (ولا فرق) وعليك أن تدرك بين من ومن.
وسيمٌ قسيمٌ أبلجُ الوجهِ أحوَرٌ وقورٌ بهيٌّ أكحلٌ دون مِرْوَدِ
سبعة أوصاف في بيت واحد، تتابع رائع معنى ومبنى.
وثمّةَ مَنْ نادى .. وضاعَ سُؤالهُ أتدرونَ ما المَسْرى ومعراجُ أَحمدِ ؟
وهل أجمل من الخاتمة بهذا السؤال: أتدرون ما المسرى ومعراج أحمد؟
كلمة أخيرة:
أقول: لو قُرئت هذه القصيدة على ابن سلّام ما شكّ في عصر قائلها، وأظنه كان سيصنّفه ضمن شعراء الطبقة الأولى، فسلم قلمك أيّها المتوكّل، وأمدّك الله بالقوّة لتبقى مدافعاً عن الدين والحقّ ما حييت.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت