- ميساء سلامة
نتحلَّق حولها كفراخ الطير بكل لهفة لحديثها ، كانت تحب قصص الابطال، ورائحة البلاد التي كنا نشتمها في حكاياتها وهي تدندن بصوت يرتجف حنينا " يا ظريف الطول غايب عن الأوطان وغيابك عنا ملا القلب أحزا ن ارجع لامك وارجع للحنان ما تلقى الحنية غير في بلادنا "
كلما حدثتنا بأغنية شعبية تراثية مر بين تجاعيد وجهها الأسرار حيث كانت تسرد تفاصيل الزمن للثوار ،و نقلت لنا ما عاشته بين أخوة كثر منهم الأبطال والشعراء ، وعايشت معهم الهجرة والخيام ، ووصفت بعين روحها جمال الأرض لنا وقوة الشجر وسخونة الطعام في الصرة الملونة بألوان الفلاحين التي تحملها أمها لأبيها ذو العينين الزرقاوين ، كنا نتذوق معها طعم البرتقالة التي يقشرها لها حين انحدار قرص الشمس على المغيب فتصبغ مشاعرها بلون برتقالي جميل وتصف لحن اخيها عمر وهو يخرج شبابته من تحت حزامه ليشَبِّبَ بها ، ورائحة الريحان التي تشمها على بعد ميل من الحب .
تبتسم وهي تتحدث عن عنفوان الرجال في البلاد ومهابة بواريدهم وتحمر وجنتيها وهي تحكي لنا عن جدي وما يحمله من القوة والظرف والملاحة وجمال الغزل منه ومذاق الحنان ..
جدتي واحدة من اللواتي زرعن في وجداني تاريخا عريقا لجمال عتيق في الروح كلما اعادت لي شريط الحكايات والذكريات ، خصوصا التي تتسم بروح الشجاعة والإقدام، تغني أغانيها الشعبية وكأنها فتاة صغيرة تجري بين سنابل القمح و تطارد الأحداث، ونحن نعض طرف ثيابنا ونركض خلفها ، كانت تخونها الذاكرة أحيانا وتنسى بعض الكلمات لكنها كانت تحفظ الذكريات جيدا وألحان لم يبلها الزمن ولا التقادم ، ماتت جدتي وبقيت لنا الذكريات وحكايا الابطال ورائحة الريحان و الأغاني الشعبية التي نرددها في المناسبات .
فالأغاني التراثيّة الفلسطينيّة حاضرة دائماً وخاصة الأغاني التي يرجع مصدرها لقصص قديمة وحكايات تاريخية تنتقل من جيل إلى آخر عن طريق الرواية الشفهية، وقد يضيف كل جيل بصمته الخاصة عليها في الأغنية سواء باللحن او بالكلمة ، أو يحذف بعضًا منها لتتوافق مع واقعه ومجريات الأحداث التي يعاصرها، لتكون الاغنية نتاج تجربة مجتمعية شعبية .
وباستعراض نماذج مختلفة من الأغاني الشعبية الفلسطينية يمكن التثبت من حقيقة ارتباطها الوثيق بالتراث الشعبي، واكتسابها كثيرا من معانيه وقيمه وصوره الفنية التي ينطوي عليها، فهي ليست وسيلة للترفيه فقط ؛ حيث تتجاوز ذلك بما تشحن به من المعاني والقيم عن قصد، بهدف إيصال رسالة خاصة للسامعين؛ لا سيما وان الأغنية الشعبية سجل حافل بالمكونات الثقافية للمجتمع ،و منظومته الخاصة بما تشمله من العادات والتقاليد والثقافة وما يطرأ عليها من تغيرات لغوية تنشأ على الألسنة بدوافع اجتماعية لتشكل مصدرا أساسيا في علم اللغة الأنثروبولوجي الفلسطيني .
هذه عيّنة من الأغاني الشعبية التراثية التي ارتبطت بشكل مباشر بقصص فلسطينية واقعية مثل أغنية "يا ظريف الطول" حيث شغلت حيزا من أفئدة الفلسطينيين لما تكتنزه من معانٍ.
يروي الأجداد قصّة لفلاح ، تمنته بنات قرية لجأ إليها وعمل بها نجارا، وكان محل ثقة لأهلها ، هذا الشاب الوسيم الشجاع الذي كان طوله سبباً بأن يُطلق عليه " ظريف الطول" تناقلوا حكايته منذ الانتداب البريطاني في فلسطين .
ومما ورد عنهم في ذاك الحين ؛ هجوم إحدى العصابات الصهيونيّة على القرية واستشهاد ثلاثة شبّان وتأثره الكبير بذلك ، في اليوم الثاني، غادر ظريف الطول القرية وعاد بعد أربعة أيام ليلاً وقد اشترى خمسة بنادق من ماله الخاص ..
بمرور شهر عادت العصابات لتقتحم القرية، حينها قام «ظريف الطول» بتوزيع البنادق على الشبّان ، واندلعت معركة كبيرة في كروم التفّاح واستشهد عدد كبير من أبناء القرية، وفي الوقت ذاته سقط عدد كبير من أفراد العصابات .
قاتل ظريف الطول بشراسة ، وأنقذ بعض شبان القرية، لكنه لم يظهر بعد المعركة وعندما قام أهل القرية بجمع جثامين الشهداء، لم يجدوا «ظريف الطول» بينهم، ولم يكن بين الأحياء أيضاً واختفى فكان سره الغياب المجهول ومرّت الأيام وصار «ظريف الطول» أغنية القرية " يا ظريف الطول متغرب على القوم لا تبعد عنا وتحط علينا اللوم ان شاء لله بترجع عالكروم نحصد القمحات ونجمع شملنا "
ومن ظريف الطول الي "غبيشي" في حواره مع حسناء حيث اتفقا على السهر والمناوبة لحماية أنفسهم من أي خطر متوقع من قبيلتها وعندما سمعت حسناء أصوات ضجيج الحناطير والعساكر، نادت غبيشي واستعجلته للهرب ، لكنه رفض أن يتركها ، وهي ترد عليه بمقاطع غزل تمدح بها شجاعته وبسالته، وتطلب منه أن يبتعد عن ملاقاة الجيش خوفاً عليه وحباً له، لكنه يرفض ذلك ، وتقول كما ورد في الاغنية الشعبية : حيِّدْ عنِ الجيشي يا غبيشي قبل الحناطير ِ ما يطلُّوا ، ويرد غبيشي: وَاحَيِّدْ عن ِ الجيشي لويشي ولْ يِقحَم غبيشي يا ذلُّو ... اغنية غبيشي هي إحدى الأغاني الفلسطينية الشعبية التي ظهرت في بداية الأربعينيات ونهاية الانتداب البريطاني، وتسرد كلماتها قصة غبيشي الشاب الشجاع الذي أحب فتاة تدعى حسناء وتقدم لخطبتها لكن عائلتها رفضت لأنه ينتمي إلى قبيلة متواضعة الصيت والمكانة، وهذا بعكس عائلتها التي تعرف بالجاه والنسب، ورغم هذه التعقيدات لم يحبط وعاد لطلب يدها مرة أخرى، لكن دون فائدة.
لم ييأس غبيشي ولم يتنازل عن حسناء ، فلقد قرر غبيشي الزواج منها دون موافقة أهلها فكان حبَّهما صادقا نظيفا من النَّزعات والنزواتِ الماديَّة ولا يبصرُ الفوارقَ الطبقيَّة والجاهَ، فهرب معها للعيش على قمة جبل بعيد عن القرية، وبسبب هذا الفعلة المرفوضة اجتماعيًا، غضب والدها وأقاربها فاستنجدوا بالقائد الإنجليزي جون غلوب الذي كان قائد على إمارة شرق الأردن في عهد الانتداب البريطاني وأقسم على إحضار رأس غبيشي، فاصحطب معه كتيبة من الجنود والحناطير والأسلحة وانتشروا في كل مكان للبحث عنهم .
صار اسما غبيشي وحسناء وأغنيتهما رمزًا للحب في الفلكلور الفلسطيني، بما تتضمنه من مقاطع قصيرة بين المحبوبين، وهي من أكثر الأغاني التي تغني في الأعراس الفلسطينية التراثية كإشارة للحب الذي جمع بين غبيشي وحسناء كما اصبح رمزا للشجاعة والوفاء لمحبوبته .
هذا الوفاء لا يقل عما امتلكه أحمد عزيز علي الحسن" المعروف براعي الجفرا فقد اعتدنا سماع أغنية "جفرا" التي اشتهرت بين أبناء الشعب الفلسطيني وصارت تختلف كلماتها مع الحفاظ على اللحن وعلى كلمة "جفرا" وقد عرف الفلسطينيون أغنية "جفرا" عام 1935 " جفرا يا هالربع ريتك تقبرينــي وتدعسي على قبري يطلع ميرامية أو "بير مية " من خلال الشاعر أحمد عزيز علي الحسن" وهي كباقي القصص التي حدثت مع أبناء القرى الفلسطينيّة ،وتحديدا في قرية كويكات، قضاء عكا فقد كان شاباً وسيماً ويملك صوتاً جميلاً، أحب ابنة عمه رفيقة نايف الحسن ووافقوا على الزواج بها لكنها هربت من بيته، لضربه لها في ليلة الزفاف لعادة شعبوية ، ظل بعدها أحمد عزيز يعيش حالة عشق لجفرا، وكان (زجّالاً) ويملك العديد من الأغنام، وبما أن التقاليد تمنعه من ذكر اسمها الحقيقي، فقد سمّاها (الجفرا)، ترميزاً لها، بابنة الشاة الممتلئة، أو أنثى الغزال وظل يغني "جفرا يا هالربع نزلت على العينِ جرتها فضة وذهب وحملتها للزينِ " وارتبطت هذه الاغنية بالمناسبات المتنوعة سواء الوطنيّة أو الاجتماعيّة حتى ارتبط اسم "جفرا" شعبويا كرمز للحب والفراق والشتات.
هذه النماذج تبدأ بالحب، وتمتد في المقاومة المستندة إلى التراث كوسيلة من وسائل الحفاظ على الذاكرة، والإرث، والتاريخ، وما في ذلك من حق العودة كما ان تطويع شخصياتها عبر الحكايات والأغان وغيرها، هي محاولة جيدة لخدمة ذاكرة الأجيال لتبقى الأغنية تُردّد ولتصبح شخصياتها رمزا يتجرد من الشخص الى الفكرة ليتضح في الاغاني كل مقاوم فلسطيني، وتبرز معه حالة ظاهرة بتوصيف القضية بسترة موسيقية يتجاوب معها ويتأثر بها الكثيرون لتصبح الموسيقا الفلسطينية لغة خاصة مشتركة يتم تداولها عبر الأجيال . هذا المخزون العريق وما يحمله من مؤشرات دلالية وفنية يشير إلى ان الأغاني الشعبية وما استمدته من الحكايا والقصص التراثية أو وردت فيها ابتداء، على طريق استدعاء التراث والتناص معه ، إلى جانب الأفكار والقيم المستمدة من النصوص الدينية سجلاً يسطر تاريخا قويا بكافة التفاصيل ويشكل هوية ودليل وجود وأسبقية .
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت