- بقلم: المتوكل طه
***
كان يبدو فظّاً خَشِناً، لكنهم لم ينفَضّوا من حوله، لأنه الساطع الحقيقي، بكلِّ فطرته وسخونته وبراءته، والتي نفتقدها، الآن، على نهْجِ قَوْلِ: و"في الليلة الظلماء...".
أمل دنقل؛ الشاعر الذي نبَتَ من موج المدّ العروبيّ، وكرّس خطاب البسطاء الصافي، وحكمة النّحل الأنقى، دون أن يقع، بسذاجةٍ، في الرغوة الطامّة، أو لطمعٍ، في قولٍ أصابته الشزوفرينيا والرومانسية المتسطّحة القامعة.. فكان "سبارتاكوس" الثائر الأول، وكان فارسهم الذي يدعونه للموت ولا يُقرّون له بالمجالسة! وكان موعده مع "ابن نوح" الذي هجر سفينة الاغتراب والذّهَب ليظلَّ في طَمْي الوطن، وكان مديحُهُ الصادم للشيطان، لا لكفرٍ، ولكن لمَنْ يقول "لا" رغم تعب الأبدية، ولعنة العفن.
ولمّا وقعت الهزيمة في ذلك الحزيران، كنتيجةٍ، تبدو طبيعيةً، لمراكز القوى والاستئثار ونَفْي تعددية النهر، كانت "زرقاء اليمامة" التي رأت بالإثمد ما لم يَرَهُ المُستَريحون، وكانت "الكعكة الحجرية" التي حملها الطالب والعامل والفلاح، بعرقِهِم وعشْقِهِم وشغفهم الطافح، وأصبحت مانفيستو الشحذ ومجابهة الانكسار، وإضرام نار البقاء والمواجهة والثبات، والمرابطة على جبل الثوابت التي لن تصدأ، كالأحلام والموسيقى.
وعندما فعلها -والفاعل معلومٌ مجهولٌ مكرورٌ مُستَنسَخٌ- وشَرْعَنَ "بلفور" وأقرَّ للقتلة جواز ما اقترفوه من "دير ياسين" و"قبية" و"الدوايمة" و"كفر قاسم".. إلى "بحر البقر" "وصبرا"، وأثنى عليهم بأنْ اقتلعونا، وأقحموا جغرافيتهم الجديدة ليذبحوا تاريخنا القديم، بارك شهوتهم العنصرية في مواصلة الاجتياح وضرب المفاعل حتى إقامة السور والبدء في إنشاء الهيكل المزعوم.. وقف الشاعر الفذّ أمل دنقل، وقال ما ينبغي أن يَقُولَهُ الرُّسُل للناس والتاريخ.. فأصبحت "لا تصالح" لازمة المخيمات وأحزمة الصفيح والـ"بدون" واللاجئين الممزَّعين بين نعال الدرك وبساطير الجنود، فاتَّقَدَتْ روح الجماعة، ونفحات الأنبياء في الأرض والشوارع والنجوع، وصارت محفورةً في زنازين الهلع وباستيلات الرعب، ووشماً في جدران السجون التي لا تُعَدّ! وظلّت "لا تصالح" أغنية المعتقلين الطازجة، وخربشات الصغار، التي تحوَّلَتْ إلى سجّيل.. وكان واضحاً ومبذولاً ومريحاً أن ترى الكلمتين المقدستين بكل بهائهما، مرسومتين على بوابات المحال والبيوت، أيام كانت لنا انتفاضةٌ عبقرية، تستحق، من أجل أهدافها، أن نموت!
وعندما توحَّشَتْ الحياة، كعادتها، وانقضّت سرطاناً مُفجِعاً في جسد الجنوبي، ظلّت روحه بكامل ألقها ونقائها ونورها الرهيف تقاوم بالقصائد ذلك الآكل الخبيث!
أمل دنقل الشاعر الذي لم تُلَوِّثْهُ الدنيا، ولم تكسِرْهُ أباطرة الإصلاح الكاذب، أو حُكّام التقطيع والبيع. واجَهَ السواد والإحباط والكآبة وعوامل الاستلاب والرداءة والبشاعة بالشِعر الصافي الذي لم يُداهن، ولم يكن مُبْهَماً بأخٍ عدوٍ أو بنَمَشٍ غريب، لم تصافحه العواهل، ولم تحضره الياقات ولم يلتَقِ الغرباء، ولو من بعيد! بل لم يُشَوِّه أباه الطيني بلمعة الجائزة أو بحذف النشيد، ولم يرتَبِك كالطارئ المفضوح! ولم يضع في ألبومه غير صورة ذلك الثائر أو الغارق أو المطرود أو المنبوذ -الكاسر الحقيقي للتابو-، لأنهم فرسان البلاد، ورؤوسها التي لم تَنْحَنِ إلاّ على الأعواد أو فوق النطوع.
والشاعر هنا، عليه أن يعود. وبقدر ما نذْكُرُهُ بقدر ما تكون حاجتنا إليه. ما يُثْبِتُ أن الشاعر الحقيقي هو الذي يتحسَّس الناسُ أقوالَه لحظة الفراغ المدوّي والعدم، ليشعروا أنهم قادرون على الرسوخ، رغم اللزوجة والانغلاق والحسرات. والناس يرفعون رموزهم ما دامت تُكاتِفهم في ردّ أسداف الذبول والخنوع والقلاع الغامضة، وليحلموا بالبوابات والحقائب والربيع. إننا بحاجةٍ، الآن، إلى الشاعر الواضح الجامح المُشعّ الحاسم، ذلك لأن الانهيار البادي لا يحتمل الانزواء، أو هجرة الكحليّ وموزّع النار والمدارك، أو الذهاب إلى وادي الحرير، أو الكرنفال المصنوع.
وأمل دنقل، الشاعر "الكريزماتك"، لم يذهب للهامش أو المُعْتِم أو الجوّاني المُحطَّم أو بذخ التقشف والتأمل النبيذي، أو إلى رماد النفس الأمّارة بالسوء، بل ظل مشتعلاً كقنديل "أم هاشم" بعد أن اكتشفوا أن زيته يجلي العيون والبصائر. إننا نفتقد الشاعر "القائد الروحي" النازل إلى الغبار والمقاهي المنزوية، الذي نسيَ أن يحلِقَ ذقْنَه، لأنه المهموم المغموس بالجنائز والجوعى والتقاطب المبشّر بالكارثة والإبادة..
فأين أنت يا أمل؟!
أين أنت يا شاعر؟!
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت