قال تعالى: "وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُون"
لا يأس مع الحياة, ولا حياة مع اليأس
- بقلم الباحثة د. رهف حنيدق
- تزوج يا ولدي أرجوك, دعني أرى في عينيك نبض أمل أو شعاع من نور, لا تقل عني جُننت, فأنا أم كأي أم لا تريد أن ترى ابنها يموت أمام ناظريها.
وألقت بنفسها على قدمي تود تقبيلهما, فكنت أسرع في حملها ومنعها من ذلك, فضممتها, وبدأنا نشهق بالبكاء.
- إنها تعلم كل ظروفك وأوضاعك ولقد وافقت, أريد منك أن تقول فقط نعم وكل شيء سيتم على أفضل ما يرام, بل هي تُرسل إليك وترجوك أن توافق.
لم تكن تلك المرة الأولى التي تعرض عليَّ أمي الزواج, بل سبق ذلك محاولات عدة وكثيرة, ولكنني في ذلك اليوم أمام بكائها وتوسلاتها وضعفها وافقت, وعندما عدتُ إلى زنزانتي تملكني إحساس بالذنب والعجز والخوف والأمل و... واختلطت كل مشاعري فما عُدت أعرف ماذا أُريد, وماذا فعلت, وأي حمق ارتكبت؛ فألقيت بنفسي في نوم عميق عليَّ أنسى المكان والزمان والعمر الذي مضى وحاضري وذلك المستقبل الذي ليس فيه بارقة أمل.
مرَّ عل زيارة أمي عدة أسابيع عندما تلقيت رسالتين من الصليب الأحمر واحدة من أمي وأخرى من اسراء زوجتي.
رسائل اسراء زرعت فيَّ أملٌ وأنا المحكوم بالمؤبد ثلاثين مرة وثلاثون عاماً, فلقد نقلتني من عالم الموت إلى عالم الحياة. وزرعت فيَّ بذرة من أمل كلما كنت أحاول أن أسقيها هبت رياح عاتية اقتلعتها. أما أنا فقد كنت أشعر أنني نقلتها إلى سجني وظلامي ويأسي, وحكمت عليها بالمؤبد مثلي تماماً, وما كنت أخشاه فقد حدث؛ فريثما أصبح السواد وظلام السجن يلفنا جميعاً, فلعنت نفسي آلاف المرات, وبدأت أصرخ كالمجنون أريد أن أعيد لهذه الفتاة حريتها, بسمتها, أملها, ولكنها كانت ترفض وبشراسة إلى أن طلبت مني في إحدى تلك الرسائل تهريب نُطفي المنوية, فهي تريد طفلاً مني يُعينها على استمرار الحياة, فهذا كل ما ترجوه أن تكون أماً لابنٍ من صُلبي.
نزل طلبها كصاعقة, فلم أكن أعلم أن ذلك ممكناً, ولكن تحت تصميمها وشرحها للأمر, وخروجاً من بوتقة اليأس التي يعيشها كلانا, فعلتُ ما طلبتْ مني بدقة, وبالوسائل البدائية وعبر تكتم سري على الأمر لتزف لي بعد عدة محاولات فاشلة على مدار عامين أو يزيد أنها تحمل في أحشائها طفلي, وأنها على استعداد تام لاستقباله, وبدأت رسائلها تدب فيها وفيَّ الحياة, كانت تنقل لي أحاسيسها, مشاعرها, سعادتها, حركات جنينها, فرح أبي وأمي, ابتهاج إخوتي, وقوف كل العالم بجانبها يساندها, يَشدُ من أزرها, ثم جاءت تلك الرسالة التي انتظرتها طويلاً؛ لأصرخ بأعلى صوتي في وجه سجاني أنني أصبحت أباً, وأن هذا السجن وهذا المحتل غير قادر على أن يسلبني حريتي, أو أن يقهر إرادتي, أو أن يَفِلَ عزيمتي, أنا الباقي هنا وحدي, وهو إلى زوال, أنا الفدائي الصامد لا هو, أنا الذي أحمل عقيدة راسخة كالجبال أن فرج الله قادم لا مُحال, وأننا ما زلنا نعشق الحياة, مهما تكالبت علينا سنون المحن والبلاء, وأن نهاية الصبر سعادة بلا انتهاء, وها نحن ننتظر صفقة الأبطال لتخرجنا من ظلمات السجن والسجان, إلى فضاء الحرية والأوطان؛ لألتقي بابني فأضمه إلى صدري استنشق معه إكسير الحياة.
رهف محمد حنيدق
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت