جماليات المكان في كتاب حسن عبد الله "دمعة ووردة على خدّ رام الله"

بقلم: جهاد أحمد صالح

  • جهاد أحمد صالح

أقدم هذه القراءة، وما زال وباء كوفيد 19 "الكورونا" يحاصرنا، ويدهمنا، ويدعونا إلى الصمت المتأزم في حجرنا القسري، ونحن نمارس لعبة "خليك في البيت" أسرى أربعة جدران، فادخلنا في ثلاث مراحل الأولى، خوف وتوتّر على الحياة خشية أن تكون في نهايتها والثانية سياسة الدفع عن الحماية المفعمة بالأمل، أما الثالثة والكتاب من بينها، تدعونا بحذر، لا بد منه، إلى استرجاع ما كنّا فيه، وما وصلنا إليه من سيرة حياة الكاتب، وما واجهه من تداعيات وأحلام.

في هذا الوقت، وفي ظل الحجر وانتشار الوباء المجهول الذي لا يرحم، جاءت نصوص الكاتب حسن عبد الله، في كتاب "دمعة ووردة على خدّ رام الله" الصادر عن منتدى العصرية الإبداعي في الكلية العصرية الجامعية، وقد صمم غلافه الفنان "غازي إنعيم" رئيس الفنانين التشكيليين الأردنيين السابق، وأهدى الكاتب نصوص كتابه إلى ابنه "إياس": "كنت في أيام الحجر صديقاً ومعيناً وونيساً".

وفي الوهلة الأولى للنصوص، تكتشف أنها جاءت "موجات متلاحقة من التداعيات والمقاربات" وكأنّها سيناريو فيلم تراجيدي، يجمع بين مرحلتين، "حلم الأمس، وهذا النزيف الذي يوجعنا ويدمينا اليوم. بين الحجر والعودة إلى الذات، وبين التمتع برومانسية خيالاتنا".

مداهمة في النصوص هذه، ربما جاءته تلبية لدعوة صديقه الكاتب "إبراهيم جوهر" الذي كتب وصيته ليقتدي بها الناس، ما بعد وباء "الكورونا".

وعلى الرغم من أن الرسالة قد وصلت بكل ما فيها من: أمل ووجع وحلم وشوق، إلاّ أنها وصلت بشرف إلى تحديد رؤيتنا إلى الحياة، حيث تغيب حركات الأجساد، وتبقى الكلمة المكتوبة التي يصفها الكاتب: "نكتب وكأننا في سباق مع أقلامنا في سباق مع أنفسنا، لكي نبقى على رصيف الأوراق المكتوبة بعناية وصدق،  كجزء من وصايانا"، فخرجت النصوص من الكاتب، مزيجاً من الواقع والمتخيّل، بين أنا الساردة في سيرة حياته، وحياة الآخرين الذين قابلهم، وأماكن إقامتهم، صادق بعضهم، ومرّ آخرون مرور الكرام، ويصف حالته بقوله: "كلّما بدأت بتوصيف حدث أو مكان، وجدت نفسي واقفاً تحت هطل أفكار وصور وذكريات لا حدود لها".

وهكذا، نجد أنفسنا بين مواقف وحوارات صاغت أهم ما في حياته من تطلعات وأهداف، وما رسخ في ذهنه من علاقته بالآخرين، صاغها بلغة أدبية عالية، فيها من الصدق واللغة والمواقف، بأسلوب يدفعنا إلى الإعجاب والانشداد، فما أن يقيم حواراً حول حادثة أو موقف معيّن، حتى تبزع حادثة أخرى تفرض موقفاً آخر ورويّة أخرى، يعتصران تجربة إنسانية بكل أبعادها، وهكذا، حتى تكتمل النصوص دون أن ندري، وبسرعة لم تكن نتوقعها، بسرد فائق الدقة والإتقان، كما يكون السرد في القصة والرواية، وبلغة الشعر الموسيقية ليدخلنا من نصوص الشجن والحنين إلى الاستشرافية في روح النص وأدبياته العالية.

في روح النص، يكتب حسن عبد الله عن المكان، بكل تداعياته وأبّهته، ومن عرفه شخصياً، أو قرأ بعض نصوصه، يدرك كم هو مسكون بالمكان الذي نشأ فيه ومسحور بجمالية فلسطين أينما اتجهت عيناه، متداخلة واضحة في نصوصه. منذ أن يستعرض الأشجار والورود والطيور في بستانه في قرية "رافات" القريبة من رام الله، حتى يخيّل لك أنه قد تحوّل إلى "رجل شجري" كما وصفه الكاتب "عيسى قراقع" وزير شؤون الأسرى السابق، فيبدو وكأنه خليط من بشر وشجر وطيور، فيقول بألق واعتزاز: "أحيي الأشجار والورود والنباتات بتحية المساء، فترد حفيفاً واهتزازاً وعبقاً وجمالاً، فالبستان يقف على قدميه بكامل ألقه وبهائه بحضوري في الوقت المناسب، ودون تأخير"

ويقول أيضاً: "تسحرني موسيقى حفيف الأشجار، أحس أنني قدمت من عالم أسطوري". وكأنه يردد باستمرار، تلك الحقيقة التي تعلّمها من والدته المصرّة "أن الشجر يحس بالإنسان، ويحزن إذا غاب صاحبه، ويفرح بمجيئه".

وهو في الوقت نفسه، ما قرأه مبكراً في "جماليات المكان" للكاتب والروائي الفرنسي "غاستون باشلار (1884-1962) الذي قال: "هل كان العصفور يبني عشّه لو لم يكن يملك غريزة الثقة بالعالم؟ وقال أيضاً: "القوقعة تجسّد الإنسان داخل المكان في الزوايا والأركان".

هكذا، أمام "بيوت الطفولة" أقام حسن عبد الله منهجه في الكتابة، وهكذا توقف، وأوقفنا معه، في ولادة صديقه، (جهاد) الذي ولد أيام الهجرة على صخرة صلبة، تحت زيتونة وارفة الظلال، فسرد لنا سيرة حياته في الغربة كما سمعها؛ لكنه رواها لنا برؤية الناقد المتخيّل، منذ الولادة، وتفاصيل الغربة، حتى العودة لمكان الطفولة، الذي لم يعد موجوداً، أو تغيّرت ملامحه. فجاء نص الكاتب حسن عبد الله؛ ليعيد لنا القصة بشجن وحنين، كما حدثت، لكنه وبروح المكان الذي يسكنه، أضاف بألق: "رفع الأب ابنه بين يديه ودار به حول شجرة الزيتون وهو يقول: لا تحزن يا طفلي، ستغدو رجلاً بمعنى الكلمة، لقد ولدتك أمك هنا، أمام عيني شجرة زيتون مباركة، وهل أجمل من ذلك؟".

وفي النصوص، أيضاً، لا تتوقف أفكار المكان، وبيوت الطفولة من التدفق في خيالات الكاتب، يقررها أحياناً، وأحياناً أخرى تأتيه بلا استئذان أو ترتيب مسبق، فإذا هو أمام بستان المهندس سامر الشيوخي، "فارشاً حضوره على ملفات مهماته أيام الحجر، وبلغة أدبية عالية، ينتقل من رومانسية بيت الطفولة في الخليل، حيث اختلطت حلاوة العنب مع زهر اللوز وورق التين وبراعم المشمش وأشتال الخس والبندورة وغيرها، حتى يصل إلى أسطورة المكان الكلي، حيث بدأ سامر يعشق بستانه الجديد، وراح يرقب حركاته ونموّه "حركة أجساد الأشجار وهي ترفع رؤوسها إلى الأعلى، توشوش مجموعة عصافيرية، تنثر زقزقتها على الوردات الجوريات عند مدخل البستان، فتعم رائحة ورد وزقزقة، تصير الوردة عصفوراً، ويصير العصفور وردة جورية. ويتخيّل الكاتب كيف تحوّلت العلاقة بين سامر وبستانه إلى أشبه بالأسطورة، حيث راح يحدث الأشجار وتحدّثه، ويدلّلها وتتدلّل عليه، وتحتج وتتمرّد عليه ويتحايل عليها، وكشاهد يكتب بخيلاء وإعجاب: "يذهب سامر إلى بستانه ، فيجده في حالة تمرّد واحتجاج، ثلاثة أسابيع لم يزر البستان، وهذا أمر غير محتمل لمجتمع البستان، تدور الأفكار في رأسه، فيذهب إلى الزيتونة الرومية المتوّجة رئيسة البستان، يحاول أن يشرح لها موقفه، فتدير لها ظهرها بدلال مجرد أن تراه قادماً، يقول لها: الطرق مغلقة، فيروس كورونا يهدد البشر، المدينة خاوية، وأنا أحضر هنا رغم كل الإجراءات، وبين دلالها وقسمه، تبتسم، وتمسح بأصابعها الزيت الذي يسيل من عينيها مدراراً من شدّة التأثر، وتردد ما هجس به "والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين" وتخطو خطوتين، وتدخل في عناق مع المهندس... ومعلنة انتهاء الاحتجاج". ويضيف: "يهيج البستان فرحاً... ويجد سامر نفسه محاطاً بمئات أيدي الأغصان تسليماً واحتضاناً وترحيباً". وهكذا، تجد البستان قد أصبح في عروق صاحبة، لا فكاك، كأنهما قدرين لبعضهما.

هذا المشهد الرائع، ينقلنا الكاتب من رومانسية النص حول المكان، بجدارة إلى أسطورة فائقة الدقة والتحفيز للعلاقة بين سامر وبستانه، وكيف رأى أطفاله يتحركون ويلعبون ويحتضون بستاناً بوسع رام الله، وقد تحوّل كل شيء إلى بشر وشجر، كجزء من طبيعة فلسطين.

وإذا اعتقدنا، كما أشرنا، أن ولادة صديق الكاتب تصلح لأن تكون سيناريو فيلم سينمائي، فإننا نعتقد أيضاً بأن بستان سامر يصلح لأن يكون مادة خصبة في أدب الأطفال، التي تصوّر علاقة الإنسان بأرض وطنه.

أما الكاتب حسن عبد الله، فيعود إلى بداية حياته الأدبية، عندما كتب عن أثر المكان في مسيرته:

"في السنوات الأولى من طفولتي/ حملتني والدتي إلى الكروم/ وهمست في أذن شجرة زيتون، أبشري فقد جئتك اليوم بعزوتي/ وهزت جسمي الغض وقالت:/ وهبتك للزيتون والحنون والفراش/ ثم غاصت في التراب..".  

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت