- مأمون احمد مصطفى
أحلام
"إلى أمِّي، فاطمة أحمد فرحات، التي رصَّعت فقرَنا بألماس عطائِها.
وأنزلت الفرحَ من ألَمِها في منازلِ أحداقِنا ينابيعَ بلوريَّة، ما زالت تروي أرواحَنا نَماءً وحياةً وبقاءً.
علَّها تكونُ صدقةً جارية، يقبَلُها كريمٌ رحمنٌ رحيمٌ جوَادٌ، ما بقِيَ حرفٌ يُقرأُ، وصوتٌ يُسمَعُ".
تبدو الأشياء أحيانًا بعيدةً عن مسمَّياتِها، وأحيانًا عن اتِّصالِها بالجزء الذي نبتَتْ منه، حتى يمتدَّ ضياءٌ من نورٍ، يعقدُ روعةَ مشهدٍ لَم نكنْ على موعدٍ معه، لا في الحُلْمِ ولا في الحقيقية؛ ممَّا يُؤذِنُ باتِّصالِ الجزء بمنبتِه، ولكن يكون كلُّ أوانٍ قد فات وانتهى، وحين يفوت الأوان؟
أمي هي بؤرةُ ونواةُ المركز الذي أتَّصلُ به اتِّصالَ الزمن بالمكان، دون أن ندري وأدري ما الفرق بين هذا وذاك، إلا بما قدَّمت لنا أدواتُ اللُّغةِ المتصلة بالوعيِ والإدراكِ من مسلَّماتٍ نعترفُ بها، رغمَ عجزِنا عن معرفةِ حقيقةِ المكوِّنِ الذي يصِلُ هذا بذاك.
الزَّمنُ حاجةٌ خفيَّةٌ، نتعاملُ معها رغم عدم إمساكِنا لجوهرِها أو ظاهرِها، لكنَّنا بالشُّعورِ المدفوعِ بالحاجة للرُّكون إلى حقائقَ يحتاجُها الشُّعورُ ليريحَ العقلَ، وينقذَه من مكامنِ الغوصِ بمجهولٍ يتصلُ بغموضٍ ممعِنٍ في الانزواء نحو سراديبَ لا يمكِنُ فتحُها، أو فَكُّ عُذريَّتِها، نضطر إلى اللُّجوء لحواسَّ هي أيضًا لو أردنا تحديدَها وتأطيرَها لأعلنَّا عجزًا لا يمكِنُ للكونِ كلِّهِ النَّفاذُ إليه مِن أجلِ حصرِه وضمِّهِ في بُوتَقةٍ ماديَّةٍ أو معنويَّةٍ، رغم أننا نعتبرُ ذواتنا قد وصلت إلى ما هو واضحٌ وجلِيٌّ من الناحيةِ التي لا تخضعُ أبدًا لمختبَرٍ أو علمٍ يمكِنُ أنْ يلمِسَ ويحسُبَ.
فنحن نعرف الزَّمنَ بالسَّاعاتِ والأيامِ والشُّهورِ والسِّنينَ والعقود والدهور، ونحن إذ نفعلُ هذا، إنما نحاولُ تأطيرَ المجهول بالمعلوم، ونزيد على ذلك بوضعِ حواجزَ مرئيَّةٍ؛ لنقلِ المستحيلِ إلى واقعٍ يخضعُ لحدودٍ وأُطُرٍ ماديةٍ بحتةٍ، فنقول: إنَّ الساعةَ حين ننظر إليها هي الساعةُ الواحدة من يومٍ افترضنا أنَّه الجمعةُ، الواقع في شهر رمضانَ من السَّنةِ كذا، ومن القَرْن كذا، وحين نمارسُ ذلك نكونُ قد أخضعنا المعنويَّ واللامحسوس إلى أدوات ماديَّةٍ محسوسة، فالساعة التي ننظرُ إليها محضُ مادَّةٍ، يمكِنُ رؤيتُها بوضوحٍ، وكذلك يمكِنُ نقلُها من زمانٍ إلى زمانٍ، ومن مكانٍ إلى مكانٍ، وكذلك التَّقويمُ اليوميُّ والشهري والسنوي الذي نعلِّقُه على الحائط هذا أو ذاك، وننقُلُه من هذه إلى تلك، ثم صفحات التَّاريخِ المدوَّنةِ بالكتبِ، والتي تتحدَّثُ عن أزمنةٍ غابرة، غطَّاها غبارُ الأيَّامِ والعقود، غبارُ الزَّمن، وحين نفعل ذلك، فإنَّنا نكون قد وصلنا إلى مرحلةِ اليقينِ المطلَقِ بأنَّنا نعيشُ حالةً عاديَّةً، لا يمكن القفزُ فوق معطياتِها المادية والمعنوية التي اتصلت ببعضِها، فكوَّنت شخصيتَنا، واندمجَتْ فيها إلى حدِّ استحالةِ الفصلِ بيننا وبين ما اندمجَ فينا وتأصَّلَ.
لكنَّ الحقيقة التي لا يمكِنُ إنكارُها بأنَّنا لا نستطيعُ لَمْسَ الزَّمن، أو احتواءَه ضمن مكونٍ مادِّيٍ يمكِنُ الرُّكونُ إليه، والتعاملُ معه، ولو أردنا أن نضعَ العلمَ كلَّه بين حدِّ القبولِ، وبين حدِّ المعرفة الحتميَّةِ، وسأَلْنا عن ماهيَّةِ الزمن وتكوينِه، شكلِه ومظهرِه، اتِّساعِ مساحتِه وحدودِ الاتِّساعِ، جغرافيَّتِه وتضاريسِه، وطلبنا أجوبةً تتساوَقُ مع مفهومِ المكان، لوقف العلمُ كلُّه عند نقطةٍ جامدةٍ لا يمكِنُ التواصلُ بعدها مع حقيقةٍ من الحقائق.
لكنَّنا أيضًا، ومن وجهةِ نظرِ الحاجة والتَّواصلِ بين المرئيِّ وغير المرئيِّ، المحسوسِ واللامحسوس، نملِكُ يقينًا يتحكَّمُ بكل اتصالٍ بين المكان الموجودِ المسطَّحِ، وبين الزَّمان الكامنِ في بؤرة المكان ذاتِه، وهي معرفةٌ تستحقُّ منَّا الاحترامَ والوقوفَ أمام هيبتِها وجلالِها وقفةَ تقديرٍ لا يُضاهيه تقديرٌ، وعرفانٍ لا يضاهيه عرفانٌ، وحاجةٌ لا يمكن أن تسجِّلَ البشريةُ قيمةً أكبرَ منها في تذليلِ الصِّعابِ؛ من أجلِ منحِ العقل مسوِّغاتٍ ومعطَياتٍ يمكِنُه من خلالِها شقُّ طريقِه منذ بدايةِ الخَلْقِ وحتى قيام الساعةِ.
فنحن من هذا الطَّريقِ المتأزِّم والمتشابك، وصلنا عبر طرُقٍ استدلاليةٍ كثيرةٍ إلى وجود الخالقِ - جلَّ شأنُه - ومن الطريقِ ذاتِه تواصَلَ الوحيُ على الرُّسلِ - صلوات الله وسلامُه عليهم جميعًا.
وإن حاوَلْنا أن نبحثَ في تفاصيل المجهولِ عن الطَّريقِ التي قادتنا إلى كلِّ ذلك الإيمان، فإننا لن نجد مفردةً واحدةً تضاهي مفردةَ: "الفطرة"، التي أكَّدَ اللهُ - جلَّ شأنُه - قيمتَها في القرآنِ الكريم، وهي ذاتُ المفردةِ التي ذكرها الرَّسولُ الكريم محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - - في الكثير من أحاديثِه، وأنا لستُ هنا لشرح دلالةِ "الفطرة" النَّفسيِّ، وتأثيرِها في الوصول إلى الإيمان، وإن كنتُ أشرتُ إلى ذلك، فإنَّني أردت أن أضعَ المفردةَ بأعلى مراتبِها، قبل الانتقالِ إلى الموضوع الذي أردتُه منها.
وليس في تاريخ الإنسان قيمةٌ تعلو قيمةَ معرفتِه بالله - جلَّ في علاه.
لكنِّني من هذه القيمةِ أردت أن أنطلقَ إلى قيمةٍ أخرى، أكَّدها اللهُ - جلَّ شأنُه - ورسولُه الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهي قيمةُ الأمِّ التي "فُطِرَت" على حبِّ نسلِها، ومَن هم من كبدِها وقلبِها ورُوحِها.
ووفاءً لأمِّي - فاطمة أحمد فرحات - رحمها الله رحمةً لا نهايةَ لها، جئتُ أحملُ "فطرتي" التي انبثقت مع انبثاقِ نسلي إلى الوجود، وتفجَّرت مع خروج بناتِ ابنتي للحياةِ.
هنا كان لزامًا عليَّ - من أجلِ الواجب، ومن أجل الوفاء، ومن أجل طلقاتِ الولادة، ومن أجل كلِّ رجفةٍ رجفها قلبُ أمِّي وجسدُها عليَّ طوال أيام عمرِها - أن أعود بذاكرتي ووجودي وكِياني وذاتي وأحلامي إلى نقطةِ الأمِّ، التي ذهبت إلى دار الحقِّ دون أن أعرفَ قبل رحيلها عمقَ "الفطرة"، وما بها من تضحياتٍ ومعجزاتٍ تفتُّ الصَّخرَ، وتثقُب الجبالَ.
أمِّي كانت بسيطةً، إلى حدٍّ أكبرَ وأكثرَ من البساطة، وكانت جاهلةً، كما جيلُها الذي سحَقه الفقرُ، واغتاله العَوَزُ والفاقةُ؛ بفعلِ التَّهجيرِ القسريِّ الذي حدث بعد احتلالِ فلسطين، لكنَّها كانت صابرةً، شامخةً، كشموخ السنديان والسرو والكينا، وصابرةً كصبر الزيتون والتين واللوز والليمون والبرتقال، وكانت تحمل في بساطتِها وجهلِها مجموعةً مركَّبةً من الأعاصيرِ والزَّوابعِ والبراكينِ والزَّلازلِ، تُخفيها كلَّها بسُويداءِ الرُّوح ونقطةِ القلبِ، تدلِّلُها وتُدغدِغُها؛ لتبقيَها راكدةً هادئةً، إلى لحظةٍ خاصَّةٍ، تتساند مع "الفطرة" وتتواءَمُ مع معطياتِها، وليس هناك لحظةٌ تستحقُّ منها إعلانَ ثورةِ المخبوء، إلا تلك اللحظة التي ترانا في حالة انكسارٍ أو هجومٍ من الغير.
في تلك اللحظة، كانت الرِّياحُ تندفع مرة واحدةً، وفي حزمةٍ مركَّزةٍ نحو مَن مسَّنا بسوءٍ، أو رسَمَ انكسارًا من انكساراتِنا، وحين تندفع، تُحسُّ بأنَّ الكونَ كلَّهُ بكلِّ ما فيه قد اختُزِلَ في المواجهةِ التي تخوضُها لِلذَّودِ عن حياضِنا أو بيضتِنا.
ومع الجهل الذي لا يعرِفُ فكَّ الخطِّ، أو حلَّ طلاسِمِه، امتلكت خبرة الأيامِ التي تجمَّعت كلُّها في "الفطرة"، خبرة لا يمتلِكُها إلا قلبٌ رحيمٌ رؤوف، فهي مزيجٌ من معرفةٍ، أثْرَتْها الحوادثُ، وشكَّلتْها الفواجعُ، فهي تعرفُ - وببصيرةٍ لا يمتلكُها عالِمٌ، ولا يصِلُ إليها أستاذٌ في الفلسفة والمنطق - متى تتحدَّثُ إلينا عن همومنا، مشاكلِنا، أحلامِنا، توقها المتفرع المتلولب لترانا بالصورةِ التي رسَمَتْها "فطرتها" وحَاكَها أملُها، وتعرفُ متى تصمُتُ حتى لا نعرِفَ إنْ كانت قد تناولَتْ طعامَها أم لا، أو استطاعت أن تشربَ شيئًا ممَّا أعدَّتْ من تمرٍ هندي، أو عرق سوس، أو شراب الليمون، وحين كنَّا نشربُ، كنا نرى الفرحةَ تندفع من عينيها لتزاحم الوجودَ الموجود حولنا، لَم يخطُر ببالِنا في كثيرٍ من الأيامِ والأحيانِ أن نسألَها إن كانت مسَّت طعامًا أو ذاقت شرابًا، لكنَّنا كنَّا نعلم ذلك حين نراها في المطبخ تتناول ما تبقَّى خلفنا من طعامٍ وشراب.
قلنا لها مرارًا: كُلِي واشربي، لا تنتظري عَوْدتنا، ولا تُؤثِرينا على نفسِك؛ فنحن أيضًا يمكنُ أن نتناولَ ما تبقَّى من طعامٍ وشراب؛ لكنَّها كانت تشيح بنظرِها عنَّا، وهي تبتسمُ ابتسامةً فيها من الصَّفاءِ والنَّقاءِ والرَّوعةِ ما يكفي لمنحنِا أملاً، لَم نعرفْ يومًا الحصولَ عليه إلا من ابتسامتِها.
كانت تقول: يما، أنا أمٌّ، وصعبٌ عليك أن تدركَ معنى ذلك، والأصعبُ أنْ تُحِسَّ ذلك، أنا أشبعُ حين تشبعون، وأفرح حين تفرحون، وأسعد حين تسعدون، ليس هناك ما تبقَّى لي إلا أنتم، فأنا لا أملِكُ من لحظاتِ حياتي أو هنيهاتها ما يكفي لأفكِّرَ في نفسي، انتهى زمني كـ"فاطمةَ" يومَ ولدتُ أوَّلَكم، وكنتُ كلَّما حملتُ بآخَرَ، يتلاشى ما تبقى من "فاطمةَ" حتى تبخَّرَتْ "فاطمةُ" تبخُّرًا كاملاً، فأنا اليوم أم خالدٍ، والعبد، ومصطفى، وصبحية، وإيمان، والمأمون، وجزء رحل مني إلى رحمة الله - جل شأنه - يوم رحل قاسم، وباسم، ومحمد، وصفاء، وخالدية، وميسون، أنا اليوم مزيجٌ من وجودٍ وفَناءٍ، ورُوحي معلَّقة بينكم وبين من اختارهم اللهُ - جل شأنه.
وحين كانت تصل إلى هنا، تنبثق الأنهرُ، وتسيل المُحيطات، بكاءً ممزوجًا بالاختناق، كنَّا نخافُ أن تشرقَ بدموعِها، لكنَّنا لَمْ نكن نملِكُ القدرةَ على التصرُّفِ، فقط جمل قصيرة ملوعة، تقطر شفقةً وأسًى، الشعور بالعجز عن النَّفاذِ إلى قلبها المضطربِ، ورُوحِها القلِقة المعذَّبةِ، يُدمينا إلى حدِّ الوقوعِ بالحيرة، وعدم القدرةِ على مُجاراتِها في مشاعرَ أو أحاسيسَ.
نحن نعترفُ الآن يا أمًّا حملت الكونَ كلَّه فوق رأسِها، وحملت الأزمانَ والآماد والأثير في رُوحِها، وحملت الأماكنَ والذِّكرياتِ والأوطانَ والأحزانَ في رُوحِها، وحملت كلَّ هذا، وكل غير هذا، في "فطرتها" التي وقفتْ طوال أيَّامِ العمر ترعى كلَّ شعرةٍ، وخفقةٍ، ووجيب، وشهقة منَّا، حتى إنه لَيستقرُّ برُوعي أنَّها عرفت مسامات أجسادِنا مسامةً خلف مسامةٍ، وكأنِّي بها اليوم حاضرة تعاتبني على ما أحملُ من حزنٍ ولوعةٍ وكمدٍ وقهر جرَّاءَ فِقْدانِها.
كأنِّي بها تقول: يما يا حبيبي، أنا لو مُنحْتُ مائةَ ألفِ حياة، لمنحتكم إياَّها حياةً خلف حياةٍ، لا تعذِّبوني أو تُقلقلوا رُوحي بسبب حزنِكم عليَّ، أنا ذهبتُ وتركتُ كلَّ ما خلفي ليقولَ لكم: إني سامحتُكم، من أيِّ إساءة، من أيِّ زلة، من أيِّ خطأ، تركتكم وكنت في حالة النَّزعِ أتوسَّلُ إلى الله - عز وجل - أن يمنحَكم ما هو خيرٌ منِّي، ومن وجودي بينكم، تركتُكم وأنا أحمل أنفاسَكم ورائحتَكم، وعذاب طلقات ولادتكم، وبسماتِكم وحزنكم معي إلى القبر؛ لأكونَ أمَّكم في الحياة وفي الممات.
أي بني، أتذكر يوم جالستُك وأسررتُ لك بوصاياي، يومَها كنتُ أشعُرُ بزحف الوهن في جسدي، وكنت بإحساسٍ مفطور بين اللوعة والسعادة أشعر بدنوِّ الأجل واقترابِه، كنت ملوَّعة على فِراقِكم، وفي ذات اللحظة كنت أخجل من الخالق - جل في علاه - بسبب لوعتي عليكم، لكنني الأمُّ، والله - جل شأنه - يعلم ما يتزاحمُ في صدري من تناقضات واختلافات، ولوثوقي المطلق بعدالتِه، سلَّمت أمري إليه، وفوضْتُ أمرَكم إليه، فهو بكم أرأف، وعليكم أحنُّ.
لكنني آثرتُ قبل رحيلي، أن أوصيك فأوصيتك، لَم ألِحَّ بوصاياي، ولم أقل كل شيءٍ تصريحًا، وآثرتُ أن أتركَ مساحةً بين السطور والمفردات، تُتقَنُ بعد زمنِ قراءَتِها، حين ينفطر قلبُك على ولدٍ أو ولَدِ ولَدٍ، فهل كنتُ محقَّةً فيما قلت؟
أي أم، عندي من الأولاد خمسة، ومن الأحفاد حفيدتان ما زالتا في طَوْرِ الطفولة والنُّمو والارتقاء، اليوم، وبعد ثلاثةَ عشَر عامًا من فِراقٍ بيني وبينك، بينك وبين أولادي، أصدُقُكِ القول، بأني قرأتُ قليلاً ممَّا بين السُّطور والمفردات، أقلَّ كثيرًا ممَّا كنت أطمعُ وأطمحُ، وما زلتُ رغم تخطِّي العَقد الخامس، أشعر برغبةٍ جامحة متأجِّجة ملتهبةٍ للانغماس بحضنك انغماسَ الطِّفلِ بحجرٍ يظنُّ أنَّه أمنعُ وأقوى وأشدُّ من كلِّ قوَى الكون وقلاعِ العصور، ما زلتُ بحاجة ليدك المتغضنة الملفوحة بحرارةِ اليأس والفاقةِ والعَوَز والفقر لترفعَ عن جبهتي ضغطًا، راكمته الأيامُ، وخزَّنته السِّنونَ التي غادرت عند بدايتِها، ما زلت بحاجة إلى بسمةٍ تتكاتف مع بريقِ عينينِ لا يمكنُ إخطاءُ رقصتِه الفرِحة المحشوَّةِ بالسعادة يوم صدر لي أوَّلُ كتابٍ، وتوسَّطت صورتي الصفحةَ الأُولى من الجريدةِ، ما زلتُ بحاجة إلى رائحة أنفاسك وثوبِك وعرَقِك التي ما زالت تستقرُّ حاستي، وترفضُ المغادرةَ لأيِّ سببٍ أو أيِّ ظرف، بحاجة إلى استغراقِك في اللاشيء يوم كنت تشعرين بغصَّةٍ في حياة أحدنا، ما زلتُ بحاجة لدمعتِك الطاهرة النقية نقاءَ المولود للتوِّ واللحظة، دمعة الفرح ودمعة الحزن.
أي أم، قلتِ لي يومًا: "بأن الإخوة الجيران"، وأنَّ ما يجمعُكم الآن هو وجودي في قلبِ الحياة، قلتِ أيضًا: " رائحة الأم تلم"؛ أي: إنَّ وجودَ الأم فوق ظهر الأرض هو مَن يجمعُ الإخوةَ، ويلمهم في المكان والزمان الموجودة فيه، ورَحَلتِ.
أعلم أنَّك قلت الكثيرَ الكثير غيرَ ذلك، ما زلتُ أذكرُه، وما زال يُراوِدُني، تارة مراودةَ الوفاء لكلِّ ذكرى تركتِها في المحسوسِ واللامحسوس، وتارةً مراودةَ المواجهة الصاعقة، المدمية للقلب والمشاعر، للقلب والرُّوح، لكنك تركتِ كلَّ الدلالات للزمن المنبثق من بعدِك، عن قصدٍ أو غير قصدٍ، فهذا ما لا أستطيع فهمَه أو إدراكَه، أو التيقُّنَ منه الآن، إلا بيقين النتائج التي تمنح كلَّ الشواهد والإثباتات الدامغة.
صدِّقيني يا أمي - وأعلم بأنَّك تصدِّقين كلَّ حرفٍ يقالُ مني، ليس لأنَّني موصوف بالصِّدقِ أو العدل، لكن لأنِّي حين أتحدَّثُ عنك، عن حكمتِك وفطرتِك، فإنِّني أهوي إلى قرارةِ الكُساحِ والشَّللِ الذي يلمني ويغلِّفني كي ينأى بي عن أيِّ حرفٍ من حروفِ الكذبِ والتَّدليسِ، أو التزويرِ والتَّزييف، اليوم يا أمِّي، تبدَّتِ الدنيا كما كانت فطرتُك ووصاياك تودُّ لها أنْ تتبدَّى؛ كي أستطيعَ أن أحمل ذواتي وأشلائي وأجزائي إلى نقطة التواصُل والالْتقاء مع حقيقة الوجود الذي ضمَّته كلماتُك حول الحياة بعد رحيلِك، مع الإخوة الجيران، وكأنِّي بك كنت مع "دويستويفسكي" حين كتب الإخوة كارامازوف، ولكن بتبديل شخصيَّةِ الأب بشخصية الأم، بل كنتِ أبلغَ وأقوى وأفصحَ ممَّا كانت الروايةُ تحمل من تجارِبَ وأحاسيسَ وانفعالات.
أي أم، يقال إنَّ بكاءَ الرِّجال ضعفٌ وهزيمةٌ وعارٌ، ربما أنا أعتقد ذلك اعتقادًا جازمًا، يرتقي إلى مرتبة اليقينِ وعين اليقين، لكنني أيضًا أعتقد أنَّ البكاءَ على فطرتك التي رحلت، شرف ترضاه السموات، وتعطِّره الأَيْكُ، وتضمِّخه الحدائقُ بروائح الأزهار والورود، وتحفه الملائكة، مع انسياب الجداول، وانهمار الشلالات، وتفجُّر الحياة من موت كان ينتظر انهمار الدمع على فطرة أم رحلتْ، فرحل معها كل ما في الكون من ضياء ونقاء وصفاء وألقٍ ونور.
قلت: إني بحاجة إليك، إلى رائحتِك المنوَّعة، المختلطة بالعذاب والطبخ، والعرَق والأرق، والتوتُّر والصداح، والغناء والعويل، بحاجةٍ إلى قطراتِ عرَقِك التي تندفع من مساماتِ كلِّ ذرَّةٍ فيها تشهد بما تملِكين من دفق لا تملِكُه إلا الأم، وليس كل أمٍّ، الأم الصابرة الرَّاضية المرضية، الأم التي كانت تعرفُ بجهلِها العميقِ أنَّ صَلاتَها وقراءتَها للقرآن بالطريقة التي عرفها بها الجهل، هي صلاةٌ مقبولةٌ، ليس معرفةً بما تحمل الحروف من معنى، بل يقينًا بالله - جل شأنه - الذي خلق الحروف، وشكَّلَ المعانِيَ، ومنحَها الأحاسيس والمشاعر، بحاجة إلى هذا الجهل، الذي حباه الرسولُ الكريم - عليه الصلاة والسلام - بأمرٍ من العزيز القدير الحكيم حقَّ صحبتك ثلاث مرات، ووضع الجنة التي ينشدها كلُّ مؤمن تحت أقدام كل أم صابرةٍ، عاشت الوجودَ منكرةً لذاتها؛ من أجل ذوات أخرى.
أي أم، أنا بحاجةٍ اليوم للبكاء، البكاء الشديد، الحارق، المشظى، المشتعل، الملتهب، لكن لا يمكِنني ذلك؛ لأن الحضنَ الذي يلم رأسي ويمسح دموعي لَم يعُدْ موجودًا، ولأن الفطرةَ التي أدركت عمقَها وقوَّتَها وتأثيرَها غابت، ولأن القلبَ الذي كان يشعر بقوة دموعي ومتانتها وصلابتها، قد امتزج بغيب رُوحٍ تدور بغيبٍ فيه من الصَّفاء والنَّقاءِ ما لا نعرف أو ندرك.
أي أم، معذرة وألف معذرة، فأنا أطمعُ من الطمع ذاته؛ لأنِّي لَم أكتفِ بالقلق والاضطراب والتوتر والخفَقان الذي عِشتِه من يوم الولادة إلى اليوم، بل أمد آلامي وأوجاعي إلى قلبك الموزَّع بين غيبه وغيب الرُّوح؛ لأحملهما ما لا يستطيعُ غيرُهما حَملَه، ولأنه ليس لي ثقةٌ إلا بفطرتِك، فاقبلي طمعي الذي يمتد من الحياة التي أنا فيها إلى الموت الذي أنت فيه.
مأمون احمد مصطفى
فلسطين- مخيم طول كرم
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت