لا ديكتاتورية إيجابية

بقلم: فراس ياغي

فراس ياغي
  •  بقلم: فراس ياغي

 هناك قانون فيزيائي يقول أن التراكم الكمي يؤدي لتغير كيفي، فالحالة المادية تتغير من حالة إلى أخرى لأن المادة لا تُفنى ولكنها تتحول لشكل آخر، فالماء الساءل عندما يصل النقطة الحرجة "درجة الغليان" يتحول للحالة الغازية، هذ ينطبق على حركة المجتمعات وأنظمتها السياسية رغم أن النقطة الحرجة فيها للتغيير غير محددة وتحدث بشكل مفاجيء وبطريقة عفوية غالبا، فالتراكم الكمي في العلاقات الإقتصادية وتطور أدوات الإنتاج وما ينتج عنه من علاقات إنتاجية تؤدي لسياسات متعددة هي في حد ذاتها التراكمات الكمية التي ستحدث التغيير.
في الحالة العربية يبدو أن تأثير التراكمات تحكمه أسس متعددة تبدأ من الجهل والتخلف وما يرافقه من تدين ظاهري مرتبط بالعادات والتقاليد أكثر مما هو مرتبط حتى بأسس المفهوم الديني الحقيقي، إلى التحكم الأمني الكامل والسيطرة الإقتصادية لزبائنية الغرب وبالذات الأمريكي التي تحكم هذه المجتمعات وتتحكم فيها وبغض النظر عن طبيعة شكلها ملكية أم جمهورية، في المقابل النماذج التي يتم تسويقها من قبل الإحزاب الدينية المنتشرة والتي لها سطوة ثقافية كبيرة داخل هذه المجتمعات تستند للماضي السحيق "الخلافة بكافة أشكالها كنظام سياسي" وغيرها، وهي لا تُحاكي الواقع الفعلي للمجتمعات ومتطلباتها ويبدو أنها تستند للعقلية الإمبراطورية أكثر من كونها نظام يؤسس لخدمة الفرد كمواطن له حقوق وواجبات، لأن مجمل الخطاب الذي تنادي فيه هذه الأحزاب هو عاطفي ديني فيه نظرة فوقية وتمجيد للفرد على حساب المجموع، الفرد العادل، والفرد الفاتح، والفرد المنقذ...الخ، حيث لا تزال ثقافة "واه معتصماه" هي المُتحكمة في عقلية المجتمعات العربية المسلمة، ولا تزال عبارة "أين أنت يا صلاح الدين!!!!" تُسيطر على عقول البسطاء، بالطبع هناك دور للفرد، وهو دور رائد ومهم، وهم رموز مهمة، لكن هذه العقلية تؤسس للديكتاتورية، وتعمل على تغييب عقلية المجتمع كمجموع وكدور أساسي، فالحقوق الواجبة تُنتزع إنتزاع ولا تأتي بوجود حاكم عادل فقط.
 حركة التاريخ في المجتمعات العربية تعتمد على الفرد القائد، وإجترار ذلك للحاضر والمستقبل وهذا لا يُمكن أن يتوافق وطبيعة القرن الواحد والعشرين، فالظروف تغيرت، وسيطرت الرأسمالية الإمبريالية الشرهة وعبر الشركات العابرة للقارات وفي ظل تكنولوجيا "بل غيتس" و "آبل" و "غوغل" وغيرها تتطلب عقلية تُعطي للمجموع الأولوية وعبر قطاعات المجتمع المتعددة وبما يُعزز الفكر الحر في الإختيار والمستند لقاعدة حرية الخَلق، هذه الحرية التي تؤسس لفكر التقاطع في المصالح كمواطن له حقوق ونظام حاكم بإختيارة عليه واجبات تجاه هذا المواطن، فالوطن لجميع مواطنيه، يساوي بينهم وفق دستور يُنظم العلاقة بين مختلف السلطات وأساسه إختيار شعبي وقانون مدني يحكم بين هؤلاء المواطنين بما لا يتعارض مع الدستور، وكل ذلك يتم بآلية ديمقراطية تستند لمبدأ الإنتخاب والتعددية، إنتخاب شامل وحرية قيودها القيم والأخلاقيات والسلوك التي تتوافق مع عقلية هذه المجتمعات ووفقا للقانون وبحيث يتم إبعاد جماعة " الإفتاء" الذين أصبحوا وكأنهم أصحاب القرار وبإسم "الحلال والحرام" الذي هو أساس ديني سيحاسب عليه الفرد يوم الفَصل، لأن الحساب عند الله تعالى هو حساب فردي وشخصي ومباشر يوم القيامة، وميزان هذا الحساب لا يعرفه غير الله عزّ وجلْ.
 المجتمعات العربية ككل من "المحيط الهادر وحتى الخليج الثائر" لا يمكن أن تنمو وتتطور وتؤسس لحضارة مستقبلية دون الإبتعاد عن مفاهيم القبيلة والعشائرية والقطرية والفرد البطل القائد لصالح مفهوم الفرد المواطن والمجموع المتعاضد، فالرأسمال لأي مجتمع هو الإنسان وتنميته وتطوره التعليمي، لأن المجتمعات تُبنى بالعلم وليس بمفاهيم شيوخ وفقهاء جُلّ حديثهم إما لإطاعة ولي الأمر وإما للهجوم على المرأة والغرب الكافر والفاجر، وإما للإفتاء، مستغليين للأسف الجهل الذي تسببوا فيه لهذه المجتمعات عبر أحزابهم وأدعيائهم وموافقة الأنطمة السياسية الحاكمة على دورهم، فهذا الدور يخدم بقاء تلك الأنطمة ويُطيل في عمرها، وهنا لا أريد التعميم، فهناك قلة قليلة تحاول أن تُصلح، وترى أن القيم والأخلاق والعلم والعمل الجماعي والتحرر من الإستعمار المباشر وغير المباشر هو أساس تطور أي مجتمع وليس صوت المرأة وزيّهها.
 فقط بالعلم لا بغيره...فقط بالقيم الإنسانية لا بغيره...فقط بالتغيير لصالح نظام سياسي متعدد ومستند للديمقراطية الإنتخابية لا بغيره...فقط بنظام أساسه المواطن لا بشيوخه...فقط بإحترام المرأة وحقوقها، نصف المجتمع ومن تُربي النصف الآخر ف "الجنة تحت أقدام أمهاتنا" لا بتجهيلها...فقط عندما يكون المعيار والبوصلة هي الإنسان تنمو المجتمعات وتتطور ويصبح الوطن لجميع مواطنيه، دون ذلك ستبقى المجتمعات العربية ككل كما هي تلهث وتركض نحو الماضي دون أن تعلم أن ذاك الماضي ذهب بإيجابياته وسلبياته ولن يعود مهما حاول البعض إستدعاءه عبر ذِكرِ إيجابيات رموزه دون سلبياتهم، خاصة أن الديكتاتورية الإيجابية والسلبية واحدة ولا تؤسس لمجتمعات نابضة ومتطورة، وواقعنا الحالي خير دليل على ما نحن فيه وما عكسته تلك الرموز التي هي عند بارءها وهو الذي سيحاسبها.

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت