- محمد يوسف حسنة
عامٌ آخر يستعد للرحيل وطيّ صفحاته، إلا أنه لم يكن عاماً كأي عام آخر، كان ذاخراً بالأحداث والمواقف الصعبة الأليمة، مُراً كالعلقم، حالك السواد قاتم، الموت بين جنباته قائم، في كل يوم نرقب فاجعة وحدث قادم، أغرقنا في حداد وحزن عظيم، وكأننا في فيلم خيال علمي من انتاج هوليود مازلنا نترقب نهايته السعيدة.
عام 2020 اجتاح العالم وباء كوفيد 19 وقد أصبت به وقُدر لي أن أكون من الناجين في حين فَقَد أصدقاءٌ لي ومئات آلاف البشر حياتهم وهم يٌصارعون الفيروس، فايروس لا يُرى بالعين حاصر دول وأغلقها، وضرب اقتصادها في مقتل، يٌخبرنا كم نحن ضعفاء وأن الصحة والعافية نعمة من نعم لا تُحصى وأننا أقرب للرحيل عن هذه الدنيا من البقاء فيها، وكشف حقيقتنا اللامبالية واستهتارنا العدمي وعدم تحمل معظم البشرية مسؤولياتهم تُجاه الآخرين، فطالما أنه من الناجين لا بأس بتعريض حياة الآخرين للخطر المبين.
بين يدي الأيام الأخيرة وفي وداع عام 2020 هذا ما علمني:
البدايات المُحرقة ليست بالضرورة سبيل النهايات المشرقة، فذاك وإن تحقق لقلة في حياتهم لا يتحقق للأكثرية إلا أن الأمر يستحق فالتضحية والإيثار يتحقق بهما سلامة المبدأ ورفعة شأن الفكرة، صحيح أنه قد يترتب عليهما أذى جسدي ونفسي وتقيد حرية حركة ولكن يبقى ثمناً أقل بكثير من التنازل والتهاون والسير في ركب العامة، فالرزق معلوم والقدر محتوم والعمر محدود فأي اشراق أكثر من الوقوف حين ينحني الجميع والموت نداً حين يموت الغير جبناً.
المواقف كاشفة الحقيقة مُعيدة تشكيل العلاقات كنقطة الانصهار قبل تشكيل المعادن، والأفعال التي تسبق الكلمات هي جسر بناء الثقة في حب متبادل وصداقة متينة والتجاوز والصفح سبب استمرار العلاقات والإحجام عند الغضب عن رد الفعل ومحاولة فهم موقف الآخر يقي الخسارة والندم، ويظل البقاء لمن صدق لا من سبق.
الصورة التي تراها من زاوية ليست بالضرورة الحقيقة المطلقة والصواب الذي ما عداه باطل، فللصورة زوايا نظر متعددة ما تراه فيها أحد احتمالاتها ويحمل الصواب والخطأ، وكم وقعنا في شرك صوابيه الصورة التي رسمناها وتبنيناها وخضنا المعارك وأطلقنا الأحكام لأجلها، وتخندقنا حول رأينا معتقدين أننا من نملك الحق والدراية، فاسأل قبل أن تحكم، وافهم قبل أن تتعارك، أُنظر بشمولية لا من منظور الصورة الذهنية التي شكلتها وتقوقعت فيها فالعالم أرحب والصورة أكبر وأوسع.
العقل أكبر صانع للوهم والدراما، يجعلك تضع عشرات الاحتمالات السيئة ويُخيل لك نهايات عابسة لمجرد كلمة عابرة أو اتصالات واردة، ويُرهقك في وضع السيناريوهات والمآلات وآليات النجاة، ويُشغلك في هموم ودوامة ترقب، والحقيقة أن معظم هذه السيناريوهات لا تحدث وستجد نفسك استهلكت وقتاً وجهداً بدنيا وذهنيا في التحضير لمعارك لن تأتي أبداً.
الطبيعة البشرية تميل إلى المزاجية والانتفاع والأنا وسرعة التخلي، فالبشر ليسوا مثاليين ولن يكونوا ملائكة، وإرضاء الجميع غاية لا تُدرك فالله الذي أبدع هذا الكون لا يجمع عليه الناس وبعضهم يُنكرون وجوده، فلا عليك، كُن أنت وحقق سلامك الداخلي وأمضِ.
لم تعد الشهرة ذات قيمة حقيقية ما لم تُقترن بالقدرة على التأثير والتغيير، فالشهرة باتت تعتمد على قلة الحياء والمحتوى فارغ المضمون وعرض الخصوصيات والرقص والتعري، ومعظم الذين اشتهروا يُعانون من اضطراب نفسي يجمع ما بين حب الظهور ونرجسية الخطاب، ولا بأس من الشهرة حتى لو لم يكن محبوباً مؤثراً أو صاحب مضمون مستحق، وبالنظر لطبيعة الجمهور فتغيير وجهته أمر متعلق بالوقت فقط ومشهور أمس فارغ المضمون منسي اليوم، فعلى من يسعى للتقدير والتميز والأفضلية أن يقدم محتوى هادف ويملك قدرة التأثير على جمهوره، حتى لا يتحول لمجرد رقم وسلعة تزول بتقدم الأيام.
المبادئ لا تتجزأ وأصل الحكم على الشيء الفعل لا صاحب الفعل، ولكن معظمنا تابع لهواه راغب لما يُمليه عليه قلبه يبرر الفعل إن كان من جماعته وصحبه، ويهاجم نفس الفعل إن كان من معسكر مقابل أو جماعة لا ينتمي لها، فيضيع الحق وتٌكسر هيبة الاقدام على الفعل، فيصبح مبرراً بالنجاة تارة والمصلحة العامة تارة أخرى، بل أن أصحاب المبادئ إن تلوثوا باستثناء أنفسهم تحت ذريعة البقاء والاستمرار والمصلحة كان السقوط مدوياً فخطأ العامة بخطأ وخطأ الإمام بمائة.
نعيش في زمن انتقلنا فيه من مرحلة أننا نخشى أن تصبح الخيانة وجهة نظر لتصبح هي وجهة النظر الأساسية والرسمية والتي يُعاديها خارجون عن العصر والزمان فاتهم قطار التطور والحداثة يهددون الأمن والسلام، وبداعي السلام وللحفاظ على الحكم لا بأس من التنازل والتفريط ومصافحة أياد ملطخة بدماء الأبرياء، جراءة في الخيانة يقابلها ضعف في معسكر الحق وأعظم ردة فعل تظاهرة منددة وبيان استنكاري مضبوط الكلمات وفق المصالح ومعادلة البقاء.
تخطيط سليم ودراسة متأنية للعوامل والظروف الجارية ووضع الخطط البديلة لأسوء السيناريوهات المتوقعة، قد توصلك للنجاح، إلا أن البقاء في القمة والاستمرار في المهمة يفرض تقديم قيمة مضافة، والتميز النوعي لا الكمي، والإبداع لا التقليد.
طريق الوصول إلى الهدف غير ممهدة والصعوبات والعثرات وصناعة الأزمات المفتعلة لإعاقة الوصول كثيرة، ومن جهات متعددة، استمر في تحقيق الهدف ولا تهدر وقتاً في معارك جانبية وذلل ما استطعت من عقبات، واستمتع في السير، فمتعة الطريق تفوق متعة الوصول.
النمطية والرتابة والحياة العادية تعني أنك ميت وأنت حي بلا غاية، تكرر أحداث يوم بعدد ما قدر الله لك أن تعيش، وأما الحياة فلذتها العيش في عين الخطر والمغامرة والسفر.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت