حادثة مقام النبي موسى: هروب آخر أم مصيدة أو مشكلة إدارة وحكم وفكر؟

بقلم: تحسين يقين

سما عبد الهادي
  • تحسين يقين

توصيف الحال: هناك خلل واضح في الرسالة ما بين المرسل والمرسل إليه، فيبدو أن المرسل، الطرف الحكومي، حين أراد بنية طيبة للترويج الثقافي لهذا المعلم، لم يكن على علم بتفاصيل هذا الترويج، أما المرسل إليه، فرقة الفنانة سما عبد الهادي، فلم يكن لديها الفهم الكافي في التعامل مع هكذا فضاءات دينية، خاصة في حضور الموسيقى المعاصرة، التي تعني للجمهور العام بأنها حفلة في مقام. وعليه، وببساطة، كان من الممكن تقديم لفت نظر لمانح التصريح، ولوم الفنانة، دون الدخول في تفاصيل عملت على تثوير الجمهور وصولا للإيذاء والتشهير، وبالطبع لم يكن الاعتقال ضروريا، كما لم يكن مبررا كما يقول الحقوقيون.

ببساطة شديدة، كان من الممكن فعل ذلك وكفى.

رحم الله أحمد زكي بطل فيلم الهروب!

هناك، في البرية الشرقية للقدس، وسط الرمال والتراب الجاف، ما إن تسير قليلا، حتى يبزغ المقام من بعيد، بقبابه البيضاء ومئذنته، بكامل الجمال والتاريخ، فما أن نقترب حتى نرجع الى الوراء قرونا سبعة اوثمانية، فينشط خيالنا، كأنها دراما تاريخية اجتماعية، فترى المكان من الداخل والخارج خلايا نحل بشرية، بأصوات وألوان وروائح ومذاقات، يتعانق فيها الصوفي بالزائر، بمقبل على الترفيه يصلي مع المصلين، ومقبل على البيع والشراء يصير وصحبه وجودا قويا لأهل البلاد. كان الموسم يستوعب كل الحياة هنا، فلم بعد عقود صرنا أحاديين لا نرى غير أنفسنا!

هناك، ربما من ينظر من قريب أو بعيد أن بذر ليحصد، والحصاد هنا سياسي؛ لا بد أن يكون كذلك، وليس بالطبع حصادا وطنيا فيما يخص الصراع الحقيقي هنا، والذي أصلا معروفة خرائط السير في طريق الخلاص منه.

ربما صدفة، خلل ما، وربما غير ذلك، وربما كل ذلك، ولكن أخلاقيا وقانونيا، لم يكن أبدا مقبولا احتجاز الفنانة سما عبد الهادي، بل كان من النبل إبقاءها خارج نطاق الإشكاليات والصراعات التي يتحملها أصحابها.

كل الناس وطنيون ومؤمنون ومحترمون، مهما كانت وسائلهم، ولكن في ظل بروز مشكلة ما، فإن ما نحتاجه هنا هو الحكمة والعقلانية في الحل.

من الواضح، أن فنانة ما، سما وغيرها، غير معنية بمشاكل، وليست هدفها، ولا أظن أحدا يسعى للمشاكل. كما لا نظن أن فتية وشبيبة من محبي الموسيقى أيضا معنيين بمشاكل، وهؤلاء أبناؤنا وبناتنا جميعا، هم من جلدتنا، منا وإلينا، ولا يمكن تقبل فكرة أنهم قصدوا الإساءة؛ فمن هم حتى يفعلوا ذلك؟ لربما لم يعرف مانح الترخيص عما أقدم عليه، كذلك لعل الشباب لم يقدروا وضعية المكان، بما فيه من مسجد داخله، فلربما لو فكروا لتعاونوا مع موسيقيين وصوفيين، لعرض موسيقي متنوع في إطار من الانتباه للبعد الديني.

 إن التحولات التي حدثت خلال عقود وما زالت، جعلت النظرة متغيرة، لم تعد ترى في المكان موسما دينيا وثقافيا واقتصاديا وترفيهيا بل ونضاليا. كانت المواسم ومنها موسم النبي موسى مواسم فرح اجتماعي، كنا ونحن أطفال نسمي الموسم بخميس البيض، الذي كانت أمهاتنا تلونه ويقدمنه هدايا لنا، وهو يأتي ضمن تاريخ اجتماعي وسياسي؛ كان فهم المحتفلين بالمواسم زمان أفضل حالا منا، بل من الضروري الربط ما بين الماضي والحاضر، في فهم  الجوانب الدينية والفنية والاجتماعية والترفيهية، وهذا لا ينفصل عن الجانب النضالي منذ الاحتلال البريطاني لفلسطين، وكيف تم استخدام الموسم كرافعة نضالية لتعزيز الوجود. كما لا ينفصل عن تاريخية فكرة صلاح الدين، الذي كانت له اهداف البقاء، وترسيخه فلم يكتف بملء الفضاء بالقرى بين يافا والقدس، بل جعل المواسم نشاطا دينيا ودنيويا، ليكون البقاء هنا جميلا أمام الغزاة من ناحية، ومنح المجال لمسيحيي البلاد بالاحتفال بعيد الفصح المجيد، بل لعل كل ذلك له جذور حضارية، بمعنى أن بلادنا أم الحضارات تستحق منا الوفاء لها من خلال سلوك حضاريّ، فيه العمق والتسامح والمحبة.

كنا نود من الشباب والشيوخ تأمل فضاء المقام، بما فيه من مساحات، وغرف بسقوف وغرف بدون سقوف، منها ما كان مخصص لعائلات مقدسية لقضاء ليلة أو أكثر خلال الاحتفال، ودراسة تاريخ المكان، وما كان يعج به من حياة واحتفالات.

هل نعود لفيلم الهروب قليلا! خصوصا أن هناك ما يشغلنا ويجب الاشتباك معه بل تضييع وقتنا؟ كان من المهم والأهم أن نجد هذا المجهود قد اتجه للهدف الوطني الأسمى في التخلص من الاحتلال، وتسهيل حياة الناس، وتقوية البقاء والتماسك الاجتماعي، بل أن اشتراك وانسجام قوى يمين الوسط وقوى الإسلام السياسي يضعنا أمام خلل ما؟ كيف يتفق هؤلاء وهؤلاء؟ وهل كسب ود الجمهور هو الهدف بعيدا عن الحكمة؟ فالمتوقع من أي قيادة تصل الحكم مستقبلا أن تكون حكيمة وتقوي التماسك والوحدة.

فكرة فيلم الهروب 1991، هو استغلال حادثة ما لإلهاء الشعب بها، فحين يقبض على الهارب، (مثله الراحل احمد زكي)، يتدخل فؤاد الشرنوبي (الفنان محمد وفيق) ضابط شرطة تلقى تدريبا في أمريكا، بالاقتراح على المسؤولين بالسماح للصحف بنشر القاء القبض عليه، لينشغل الناس عن إحدى القضايا الي تشغل الناس والقضايا المستجدة التي تتكرر بين الحين والآخر، بل إنه حين يهرب "منتصر" ويتم القبض ثانية عليه، يتدخل فؤاد الشرنوبي ليسهل له الهرب...وهكذا.

وأظن أن الهدف تحقق، فلم يتحدث الناس مؤخرا إلا حادثة مقام النبي موسى!

وهكذا فقد صبت الحرب الكلامية في مصلحة إدامة عمر الاحتلال، الذي سيجد أننا غير مهيئين للإشراف على هذا المقام، في سياق هدفه لضم الأغوار والبرية أيضا، خاصة من جهات أصلا تحرّض علنا ضد السلطة الوطنية، اصطفت معها للأسف قوى وطنية، كان من الضروري الانتباه لخطر هذا الاصطفاف وترك ذلك للقضاء ليقول كلمته، لأنه سيد الموقف.

قبل الحادثة صادقت الحكومة، على دمج وإلحاق وإلغاء أكثر من 25 مؤسسة رسمية غير وزارية لتحسين الخدمات ورفع مستوى التنسيق ومنع الازدواجية وترشيد النفقات (سنخصص مقالا فيما بعد عن هذا الموضوع يفيه حقه)، وخلالها تحدث رئيس الحكومة حول الأولويات الحكومية خلال العام الجديد، وهي أمور هامة، لكن الآن من سيسمع؟ بل أن هناك ممن سيجدون ما حدث مجالا للتحريض على الحكومة، جريا وراء مصالحهم، حيث ظهرت النوايا أصلا مع تشكيل الحكومة، وزادت خلال الفترة الأولى من تعامل الحكومة مع مرض الكورونا.

فمن سيستمع لرئيس الحكومة وهو يتحدث عن "استمرار مواجهة تفشي كورونا والحفاظ على أرواح الناس، والحرص على إنجاز الوحدة الوطنية وإجراء الانتخابات، وإعادة تشغيل الاقتصاد وانقاذ القطاعات المتضررة مثل السياحة، والعناية بالفقراء وخلق فرص عمل، إطلاق برامج التعليم المهني وإنشاء الجامعة المهنية، والسعي لإيجاد مسار سياسي جدي وحقيقي من أجل إنهاء الاحتلال وتحقيق تطلعات شعبنا". ومن سيستمع للحديث عن "دعم صمود الفلسطينيين في القدس والأغوار والمناطق (ج)، بدأنا تنفيذ العنقود الزراعي الذي يشمل الاغوار، واعتمدنا مؤخرا عنقود العاصمة، الذي يعزز مدينة القدس من عدة جوانب: الإسكان، والسياحة والتعليم والصحة". وكذلك عما تقوم به الحكومة "بكل الإجراءات القانونية والإدارية المتعلقة بالجنائية الدولية، ونزود المحكمة بشكل منتظم بوثائق عن الاستيطان، والتأخير متعلق بإجراءات إدارية من جانب المحكمة، نأمل أن يتم الإسراع فيها".

أليست تلك هي الأولويات الوطنية لنا جميعا؟ فلم يتم صرف أذهاننا عنها ليصبح الكلام عنها كقلته؟

الموضوع كفعل وردود فعل، يكشف عن مستويات من الوعي والمنطلق المصلحي، لكن المحزن في الأمر هو السلوك الشعبوي ممن يفترض بهم قيادة التنوير والتحرر، ان تتبع ردود الفعل تدل على حالنا بدون تجميل، ما يعني أننا ما زلنا مكاننا.

أمران مهما ننتظرهما، إطلاق سراح الفنانة سما عبد الهادي، واستخلاص العبر، في الحلول الذكية، فقد كان من السهل معالجة الأمور، بدون هذا التضخيم المبالغ فيه، بما اشتمل على إيذاء سيدة، يفترض بنا حمايتها.

وأخيرا رحم الله مخرج فيلم الهروب عاطف الطيّب الناقد سياسيا، والمرتبط بشعبه وأمته، وفلسطين أيضا.

[email protected]

 

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت