حوار مع الشاعر والإعلامي الهولندي الفلسطيني عبدالسلام فايز

عبدالسلام فايز

  عبدالسلام فتحي فايز شاعر وكاتب وإعلامي هولندي فلسطيني من مواليد مخيم درعا 1985 يكتب في العديد من المواقع والصحف العربية المهمة .

1-   بادئ ذي بدء ..مَن هو الشاعر الذي تقفّيت سطوره وخرج صوته من حنجرتك في قصائدك الأولى؟

بدايةً أشكرك على هذه الحوارية و أزجي إليك و للسادة القرّاء فائق الود ..

لأنّ الشعر تمخّض بين سطوري بسبب غربتي التي كانت أكبر حدثٍ مؤثرٍ في حياتي ، حاولت استحضار شعراء المهجر الذين درسنا عنهم إبان المرحلة الثانوية ، و لا أعلم آنذاك لماذا تأثرت بقصائد الشاعر اللبناني شفيق معلوف الذي شعرتُ أنّ قصائده ليست مجرد مدادٍ أسود بقدر ماهي وعكة اشتياق ألمّت به من كل حدبٍ و صوب ، ربما لأنه مؤسس العصبة الأندلسية في البرازيل ، أو ربما لامتزاج العفة السورية و الذوق اللبناني في أروقة شِعره ..

قرأت له الكثير و حاولت التعرف على مصادر العاطفة لديه ، فوجدت أنّ هناك شيئاً واحداً مشتركاً بيننا رغم فوارق القدرات ، ألا و هو بركان الشوق الذي يداهمنا في كل وقت و حين .

كم كنتُ أسخر من شعراء المهجر ! و كم ظلمتُهم عندما اتهمتهم بالتغني الفارغ الذي تُدَقّ موسيقاه مع أكواب الخمر من وراء البحار ، للحصول على بواكير الشعر التي لا طائل منها ، و لكنني عندما رشفتُ من الكأس ذاته أيقنت أنّ للغربة سياطاً لا يعلم كيّها إلّا من طاله قسطٌ منها و لو يسيراً ، لذلك و ربما من قبيل المصادفة حاولت الاقتداء قدر بالإمكان بنهج هذا الشاعر الذي قال :

موطني ما رشفتُ وِردَكَ إلّا   

عادَ عنهُ فمي بحرقةِ صادِ

 

في قلوبِ المغرّبينَ جِراحٌ  

 حملوها على الجباهِ الجِعادِ

 

كان هذان البيتان مصدر انطلاقتي الأولى ، و من بعدها رحتُ أطّلع على مآثم الغربة في ثنايا شِعره حتى وصلتُ إلى قناعةٍ مطلقة مفادُها : أنّ هذا السحر العجيب الذي يقولون عنه الشعر ، هو عاجزٌ تماماً عن إيصال بناتِ أفكارنا إلى القُرّاء إذا ما فاضَ فراتُ الحنين و عجزت الشواطئ حينها عن لملمة المصيبة الناتجة عن ذلك الفيضان ..

2-من البديهي ربما أن يكتب الشعراء قصائد انفعالية في دواوينهم الأولى ثم يبدون ندمهم لاحقاً، قبل انتقالهم إلى الشعر الأعمق. لماذا حتميّة المرور في هذه المراحل؟ وهل مررت بها ؟

 

أعتقد أنّ مثل هذا النوع من الانفعالات منوط بسببين اثنين : أمّا الأول فلأنّ الشاعر في البدايات يتمتع بزخم العاطفة و المشاعر الجيّاشة التي تصطدم مع ما يسمّى باللغة المحلية (قلة الحيلة) التي تتمثل بشحّ  السيطرة على مجمل صعوبات الشعر و خاصة الشعر العمودي ، و بالتالي ينتج عن هذا الصراع قصيدة انفعالية تُقدَّم للوسط الاجتماعي الذي يحتوي أصنافاً متنوعة من الأذواق و الخبرات ، فيطّلع الأقدمون منهم على النص ، فسرعان ما تقع أصابع الاتهام على تراكيب الانفعال ، التي ربما كانت مناسبة القصيدة هي سببها الرئيس ، فهول الحادثة على سبيل المثال قد يدفع بالشاعر إلى العبث بشرفيّات الشعر ، و بالتالي يجد نفسه قد وقع في مثل هذا المأزق ..

و أمّا السبب الثاني فينحسر في رغبة الشاعر في قطع أشواط كثيرة ضمن مدة زمنية قصيرة ، فيعتقد أنه من خلال هذه الحماسية قد يصل إلى مراده المنشود ، و لكنه فيما بعد يجد نفسه قد وقع في الخطأ من حيث لايدري ، و مقدار الندم يتعلق حينها بموضوعية الشاعر و مدى قدرته على الاعتراف بالخطأ   و الذي يؤدي به في نهاية المطاف إلى الندم أو التبرؤ من النصوص السابقة أو محاولة تلافي هذه الأخطاء ..

و بالنسبة إلى الشق الثاني من سؤالك ، نعم مررت بمثل هذه المرحلة ، و نظمت قصيدة هجاء لاذعة بحق لاعب كرة القدم المشهور ليونل ميسي بعدما تداولت بعض المواقع خبراً يفيد بأنه قال : لا يشرفني تشجيع العرب و المسلمين لي ، و لكنني عندما أيقنت أن الخبر غير مؤكد بالإثباتات ، سرعان ما حذفت القصيدة قبل النشر ، لأنها كانت قصيدة انفعالية تزاحمت فيها المعاني و كأنها في ميدان السباق للفوز بجائزة ( أسوأ الألسنة ) ..

 

3- لماذا يهاب العدو المحتل والحاكِم المستبد الشعر؟ وهل تمكّن الشعر في العقود الفائتة من تأدية دوره؟

 

العدو و الحاكم المستبد وجهان لعملة واحدة ، فهما يخشيان من أيّ خطوة قد تشير بالأصابع إلى مرابض الخطأ و الاستبداد في تصرفاتهم ، و لعل الشعر واحدٌ من هذه المخاوف التي تلفت الانتباه و تحظى بارتياح الشعوب ، فجمهور الشعر واسع النطاق ، و الكلمة لها أفقها الذي لا أجلَ له ، لذلك يعكف هؤلاء الظلمة على محاربة الشعر الذي يودي بحياتهم في الحكم ، و هذا هو خير دليلٍ على بطلان تلك المزاعم التي تسخر من الشعر و الشعراء و تتهم الشعر بأنه مجرد كلام عبثي لا يسمن ولا يغني من جوع .. فليبحث أصحاب هذا الاتهام في السجون عن كمٍّ هائل من الشعراء الذين أودعوا في السجون نتيجة قصيدة واحدة لا غير ، و لينبشوا عن أسماء بعض الشعراء الذين دفعوا حياتهم و وطنهم الذي نُفوا عنه ثمناً لبيتٍ شِعريّ هزّ أركان المستعمرين و من لفّ لفيفهم ..

نعم كان الشعر و ما يزال ، مصدر قلقٍ لهؤلاء بسبب قدرته على إزعاجهم أكثر مما تزعجهم البنادق ، و هنا أكرر ما كنت أقوله سابقاً : كثيراً ما يكون للكلمة وقعٌ على الأعادي يفوق أزيز الرصاص و زمجرة المدافع ، و إلّا لماذا اغتالت إسرائيل الروائي الفلسطيني غسان كنفاني بسبب إصداره لعدد كبير من سلاح الأدب الذي أقضّ مضاجع الأعداء ؟!

 

"أسطورة الألم" هو عنوان لمجموعتك الشعرية الأولى، والمجموعة الثانية هي قيد الطباعة؟ هلا أوجزت لنا ما أهم تطورات الحالة الشعرية لديك فيها ؟

الحالة الشعرية في أسطورة الألم كانت جَدّ نازفة ، إذ أنّ عنوانها يشي بذلك و بوضوحٍ تام ، كنتُ وقتها حديث الغربة و ما تزال بصمات خطا الهجير ماكثة في مخيلتي ، لذلك سخّرت جل ما لدي للحديث عن هجرة القرن المتمثلة بخروج أبناء سورية من وطنهم إثر الحرب المستعرة هناك ، و توجههم نحو القارة العجوز ، لم تكن بالرحلة اليسيرة على الإطلاق طالما فيها تلك الرحلة على زورق المطاط و اجتياز الغابات و مفاوضات المهربين ، كل ذلك كان سيّد الموقف لديّ عندما نظمت تلك المجموعة..

أضف إلى ذلك خسارتي لمهنتي التي أحببتُها بحق ، و هي مهنة التدريس ، فوجدتُ نفسي مجدداً على مقاعد الدراسة أتلقّن مبادئ اللغة الهولندية ، و لأنّ الأسى كان رفيق الدرب آنذاك فقد كانت الحالة الشعرية مرآةً تعكس ما لديّ من المشاعر و الأحاسيس ، ثم تابعت المشوار في مجموعتي الثانية التي شارفت على الانتهاء ، و هي بعنوان ( ما بين الحُبّ و الحرب ) ، و قد تطورت الحالة الشعرية من خلال تقديم صور جديدة ، و الخروج عن المستعمل و الرث ، و جعل القصيدة صالحة لكل زمانٍ و مكان ، و التحرر من المشاعر العاطفية المصطنعة و الاكتفاء بالشعور الذاتي فقط الذي ينجي الشاعر من مكائد التصنّع و المواربة ، فالشاعر عندما يُجبِر القصيدة على الولادة من خلال التحريض ، فإنه يحصل على قصيدة في شهرها السابع ، أمّا إذا أرخى حبال العاطفة و انتظر الوقت المناسب ، فسوف تكون قصيدته غاية في السلامة و الصدق .. و هذا ما حاولتُ السعي إليه في مجموعتي الثانية ، فكنت أترك القصيدة و أهجرها حتى تطلب مني الظهور هي بنفسها ، من خلال إرسال إيماءات شِعرية تحمل في فحواها ضرورة النظم و العروض ..

 

مقص الرقابة وضيق اليد والجوائز الغير نزيهة، ماهي أعتى مشكلة تواجه الشاعر العربي اليوم؟

لأنّ الشاعر هو أحد الأعضاء المؤثرين البارزين في المجتمع ، فمن البديهة بمكان أن يواجه ضغثاً من المشكلات التي تصعّب مهمته ، و بالتالي فإنّ المشكلات التي ذكرتَها في سؤالك هي من أهم المشكلات التي تواجه الشاعر العربي اليوم ، لاسيما مشكلة الجوائز في المسابقات ، إذ يتهم الشعراء بعض لجان التحكيم بالانحياز لشاعرٍ ما ، لأسبابٍ شخصية تكمن خلف الكواليس ، في حين تكون قصيدته ليست بالمستوى المطلوب ، بل إنّ فيها جملة من الأخطاء ، و بالتالي فتجد أنّ اسمه يتصدر المحافل و المنافسات ، و هذا الأمر ينزع عن الشعر دافعه الذاتي ، و يجعله سلعة رخيصة تباع و تشترى ، و الشعراء العرب يشكون اليوم من انتشار هذا الأمر ، لاسيما عندما تكون الجائزة عبارة عن أموال باهظة ..

أضف إلى ذلك مشكلةً أخرى تعكّر مزاج الشاعر العربي الشاب ، و هي عدم تقبّل الشعراء الأقدمين له بذريعة أنه يواكب العصر و يسعى فقط للشهرة على وسائل التواصل ، و بأنه ذو خبرةٍ ضحلة لا تؤهّله لاعتلاء منابر الشعر ، و بأن الفيسبوك هو من ساعده على انتشار اسمه ، بعكسهم /أي الشعراء القدامى/ الذين تصدّروا المحافل من خلال النُّسَخ الورقية التي كانت تُدوَّن بمدادهم الأزرق و عرق جبينهم ..

هذا النوع من الصراع موجود في بعض المنصات ، و هو يندرج تحت سقف الصراع التليد بين القديم و الجديد ..

و أمام هذه التحديات التي تواجه الشعراء العرب اليوم ، يبرز جيل من الشعراء الشباب الذين أعادوا للشعر رونقه ، و لا أبالغ حين أقول أنني أقرأ أحياناً قصيدةً لشاعرٍ حديث العهد ، فتيّ العظام ، فأحسب نفسي أنني سَكِرتُ على صوره و ألفاظه السحرية ، أو أنني شريكٌ في العزاء إذا طرق باب الرثاء على سبيل المثال .. فَمِثْلُ هذا الصنف من الشعراء تمكنوا بعبقريتهم الشعرية من تخطّي كل هذه المشاكل للوصول بالشعر إلى شاطئ الأمان الذي يقيه مخاطر الاندثار و العبثية ..  

 

قصائدك ترقّش الصحف والمواقع الالكترونية الفلسطينية على وجه الخصوص، هل هجرتك لهولندا زادت من تعلقك وارتباطك الروحي بأرض فلسطين؟ أم أن العكس يحدث كما يروج بوسائل الاعلام أن فلسطينيو أوروبا نسوا وتناسوا أرض الأباء والأجداد؟

 

سؤالٌ وجيهٌ أشكرك على إدراجه ..

دعني أجيب برأيي الشخصي ، فإنني لا أتكلم باسم أحدٍ هنا ..

عندما وصلت إلى أوروبا و أقمت فيها ، كان يزيد اعتزازي بوطني فلسطين كل يوم ، خاصةً عندما تصادف أو تحتكّ مع أنصار اللوبي الإسرائيلي الذي يزعمون أنّ فلسطين هي أرض اليهود الذين هم أقدم من المسلمين عليها ، و كثيرةٌ هي المحاولات التي كان خصوم القضية يقومون بها لتعكير أي وقفة تضامنية مع أبناء الشعب الفلسطيني ، أو أي حراك سياسي يهدف إلى تعرية إسرائيل على حقيقتها العدوانية ، و بالتالي فإنك لا يمكن أن تواجه هؤلاء بوطنية ضعيفة ، و ولاءٍ رثٍ لفلسطين ، فوجودنا هنا يجبرنا على صدق الانتماء لوطننا و مقدساتنا و عاصمتنا القدس ، و قد يقول قائل ، و هذا ما ورد في الشق الثاني لسؤالك ، بأنّ فلسطينيّي أوروبا نسوا فلسطين و لا همّ لديهم اليوم إلا الحصول على الجنسية الأوروبية و لو كلّفهم ذلك تراب القدس ..

بالتأكيد هذا الكلام غير صحيح على الإطلاق ، رغم أنني أعترف و بالفم الملآن بوجود فئة من هؤلاء بين صفوفنا ، تسبّ فلسطين و المقدسات بذريعة كراهيتها للفصائل و الانقسام الفلسطيني المزعج ، و كأن فلسطين و القدس منوطتان بالفصائل المتناحرة ..

إنّ أبناء فلسطين و إنْ حصلوا على الجنسيات الأوروبية لهم أقرب اليوم إلى وطنهم ، و إنهم عندما يتلقون نبأ الحصول على حنسياتهم سرعان ما يستذكرون فلسطين ، و يخطّون على وسائل التواصل اعتزازهم و فخرهم بوطنهم الأول الذي لا منازع له ..

نعم .. بيننا ضعيفو الحس الوطني ، و أمثال هؤلاء ليسوا حديثي العهد ، بل هم موجودون منذ نشوء الخليقة و منتشرون في كل الشعوب ، و الشعب الفلسطيني ليس بالشاذ عن هذه القاعدة ..

لكن في المقابل هناك الكثيرون الذين مايزالون يعيشون على أمل العودة و حب فلسطين ، و التغني بكل ما يمسها ، و لعل شعراء فلسطين في المهجر كان لهم دور كبير في تصدر القضية الفلسطينية للمنابر الدولية ، إذ ساهموا في مناصرة الشعب في الداخل و أصبحوا مصدر قلقٍ لأنصار اللوبي الصهيوني الذين لا يتركون فرصةً سانحةً قط إلّا و يهاجمونهم و يحاولون المساس بهم و بوطنهم ..

 

رسالتك الأخيرة في هذا الحوار؟

 

رسالتي الأولى هي للمسؤولين في سلك الثقافة ، بدءاً من مؤسسي مجموعات الشعر على وسائل التواصل ، و انتهاءً بالوزراء ، بأن يساهموا و بشكلٍ فعّال في النهوض بالشعر و الحفاظ على أصالته العربية ، و ضرورة تشكيل منابر شعرية تستقطب الشعراء العرب من خلال المؤتمرات و الندوات التي توجّه دعوات الحضور إلى الشعراء بهدف الالتقاء و تبادل الخبرات ، و الوقوف على نقاط الضعف لتقويمها و استبدالها بجوانب مشرقة في الشعر ..

هذا الكلام أقوله لأنّ هناك كثيرا من الشعراء العرب لديهم باعٌ طويل في الخبرة و لكنهم مهمّشون لأسباب ذكرناها سابقاً في هذا الحوار ، و إذا ما حضر هؤلاء فسوف يكون الشعر هو المستفيد الأول بسبب ثروتهم اللغوية و زخمهم الفكري ، و صدق العاطفة لديهم .

لابد من التواصل بين الشعراء العرب بعضهم بعضاً بإشرافٍ مباشر من الجهات الثقافية العليا في الدول العربية ، و ذلك من أجل حشد أكبر قدر ممكن من الطاقات الشعرية لتخليص الشعر من مآثم اليوم التي تعكّر صفوه ..

أمّا رسالتي الثانية فهي إلى أبناء الجالية الفلسطينية في هولندا حيث أقيم ، و في الشتات أيضاً ، بأنّ محاولات صرف الأنظار عن فلسطين تزداد يوماً بعد يوم و ذلك خدمةً لإسرائيل ، و لا تنصتوا إلى تلك الأقوال التي تحاول تجريد سلاح الكلمة من أهميته ، قولوا كلمتكم بحق ، و قدّموا وطنكم فلسطين إلى المجتمع الدولي بما يليق بحجمه و حجم شعبه و تضحياته ، و لو لم تكن إسرائيل تخشانا و نحن في الشتات لما كان حق العودة من أكبر المخاوف لديها ، و لما أصبحت تهدس و تهذي به في المحافل الدولية ، إذ أصبح هذا الحق المقدس بمثابة كابوس جاثمٍ على صدرها ، فلنكثّف من تعريف المجتمع الدولي بفلسطين و تاريخ إسرائيل العدواني القائم على سلب الحقوق و نهب الثروات و ابتلاع المقدسات ..

و في نهاية هذا الحوار لا يسعني إلا أن أشكرك و الفريق العامل على إتاحة هذه الفرصة لإيصال صوتي ..

دمتم و دامَ منبركم.

 

المصدر: - حوار : أوس أبوعطا