155 والحبل عالجرّار

الأسير محمد الحلبي

 عائداً الى المجدل، ليس لأطلال بيت عائلته التي هجرت في 1948، وانما مقيّداً لمركز تحقيق عسقلان المقام على أراضيها، حيث قضى 52 يوماً تحت تحقيق قاسٍ وتعذيب نال من جسده ما ناله.

حاملاً معه كعك القدس بسمسمه الخرافيّ، محققاً مطلب أطفاله المعتاد كلما تطأ قدميه المدينة المقدسة؛ أوقف الاحتلال محمد الحلبي على حاجز بيت حانون في ظهر يوم قائظ من أيام رمضان المبارك، وهو عائد من اجتماع عمل، محتجزاً بذلك مدير مكتب الرؤيا العالمية في قطاع غزة، في 15-6-2016، وحائلاً دون وصول أمانة الكعك الى أصحابها، ودون أن يتذوق طعام الإفطار مع عائلته.

لم يكن عيد الفطر الوحيد الذي فات محمد في تلك السنة، بل عشرة أعياد فطر وأضحى منذ ذلك الحين، وقرابة خمس سنين من عمره، نبتت فيها لحى أبنائه خليل وعاصم، وشبّ فيها عمرو واشتد عوده ليصبح المتحدث الرسمي لمعاناة والده، في حين لم تملّ جميلته ريتال من حمل صورة والدها في كل اعتصام، أما فارسه المدلل، فقد كبر، وأصبح يعرّف عن نفسه جيّداً في الروضة، مُفتخراً بأنه ابن الأسير الذي يرفض المهادنة: محمد الحلبي.

طفلة محمد الحلبي


أدار محمد الحلبي ولسنوات عديدة مكتب الرؤيا العالمية في القطاع المحاصَر، مقدماً المساعدات لأطفال غزة، وبالأخص لمن بَتَرَت منهم الحرب ساقاً أو يداً. كانت تزعجه فكرة كيف شهد أطفال غزة ثلاث حروب في أقل من 6 سنوات، وأًصبحوا يعانون من الصدمات النفسية والعصبية في القطاع الساحلي المنكوب. تنبّه الاحتلال لخطورة محمد، خاصة بعد أن حصد جائزة بطل الإنسانية من الأمم المتحدة في عام 2014، وأخافهم بثه بذور الأمل في أبناء القطاع، فاتهمه بتحويل 50 مليون دولار الى المقاومة. طعنت مؤسسة الرؤيا العالمية بالادعاء، وأثبتت بالأدلّة والبراهين كذب جهاز الشاباك الإسرائيلي، ولائحة الاتهام الموجهة لزميلهم محمد، فمجموع ما أدخلته المؤسسة أصلا لصالح مشاريعها الإغاثية لم يصل الى 20 مليون خلال سنوات عملها كاملة!

ظن الاحتلال أنه وجد ضالته باصطياد سهل، وأنه سينال مراده بقطع الأموال الإغاثية عن غزة. كان هدفه واضحاً: تركيع الأفراد والمؤسسات الدولية المستقلة التي تعمل لإعادة بناء ما دمرته الماكينة الفاشية في القطاع؛ لكنه لم يعرف أنه وقع في شِباك محمد ونفسه الطويل في خوض المعركة، وأنه لن يستطيع أن يكون نداً مقابل صلابته، وسعة حِلْمه.

نجح الحلبي في وضع (إسرائيل) في موقف محرج، ودحر جميع الادعاءات التي وُجِّهَت له، كما رفض وبشدة كل الصفقات التي قدمتها النيابة له إزاء التوقيع والاعتراف بعدد من التهم مقابل الإفراج عنه مباشرة، ما اضطر المحكمة الإسرائيلية وفي كل مرة الى تأجيل جلسات محكمته لعدم وضوح لائحة الاتهام أو وجود أدلة لإدانته، الأمر الذي جعل محمد صاحب أطول محاكمة في العالم، وصلت الى 155 جلسة، ستُعْقَد رقم 156 في 3 آذار القادم، ومن المتوقع أن يستمر النظام القضائي العنصري بتأجيل الجلسة لأخرى تحمل رقم 157... وهكذا دوليك.

بالنسبة لمحمد، وكما دار بينه وبين المحامي حسن العبّادي، "إن الهدف من اعتقاله ومحاكمته وأد العمل الإنساني ووقف المساعدات الدوليّة التي تشكّل الرئة الوحيدة في غزة." ويكمل: "أنا مش رامبو! فقط قضيّة إنسانيّة، لا غير".

"اشتقناله لمستر شيشة" يقول أحد أصدقائه الذي عمل معه في مؤسسة الرؤيا العالمية. "هكذا تلقبه شلّتنا بعدما أطلق عليه مجموعة من الأجانب هذه الكنية المضحكة. فقد كان محمد يأخذ العديد من الممولين في جولات عبر القطاع ويعرفهم على مجموعات المنتفعين والأطفال، والمدارس المهدمة والبيوت المدمرة، ومن ثم يدعوهم لتناول الحمص والفلافل والمسخن والشيشة التي يحب الترويح عن نفسه بتدخينها." أذكر محمد أباً حنوناً، يردُ على من يناديه بأبا خليل بالاعتراض، مصحّحاً إياه بأنه أبٌ لخليل وعاصم وعمرو وريتال وفارس. فهو يحبهم جميعا بدون تفضيل، ويؤمن تماماً بما قاله جبران خليل جبران: "أولادكم ليسوا لكم، أولادكم أبناء الحياة"."

زميلة أخرى تقول: "لقد كان محمد مدافعاً شرساً عن غزة، ينقل وجعها وما مرّ به أطفالها من حروب وأحزان، تماما كما ينقل للعالم أجمع إصرار أهلها على الحياة والفرح. فهو صاحب نكتة، يحب الشعر وينظم بعضاً منه في المناسبات، كما أن خطّه جميل في الكتابة."

لن ينسى أبا محمد وأمه -التي تتوعك صحياً بعد كل جلسة محكمة- الأسى الذي مرّا به بعيداً عن محمد، ولن تنسى زوجته المناضلة علا، ولا أولاده الخمسة سنوات القهر التي عاشوها مستحضرين طيفه فيما بينهم، تماماً كما لن ينسى أطفال القطاع ولا حتى مزارعيها وصياديها حرمانهم من تدخلات لإصلاح ما خرّبه وابل الصواريخ الإسرائيلية في قصفها لمحاصيلهم وقواربهم ورِزْقِهم. سيخرج محمد حتماً، وسيذهب مع كل هؤلاء الى محكمة الجنايات الدولية، لملاحقة مجرمي الصهاينة على جرائمهم، لكن سيبقى السؤال: من سيرمم ذكريات الطفولة؟ ومن سيرجع أعياد الفطر والأضحى التي لم يحضرها محمد مع أطفاله؟ ومن سيعوّضهم عن كعك القدس الذي لم يتذوقوه في رمضان 2016 وهم قيد انتظار الإفطار معه؟

المصدر: - بقلم هند شريدة - وكالة وطن