- علي بدوان ... عضو اتحاد الكتاب العرب
(البقجة) واحدة من المفردات التي رافقت مسار المآسي الفلسطينية منذ عام النكبة 1948، وقد لازمت الفلسطيني في رحلة التراجيديا التي مازالت فصولها وتداعياتها ترتسم حتى اللحظة بالرغم من مضي نحو 73 عاماً من عمر النكبة الكبرى وضياع الوطن الفلسطيني.
البقجة، مصطلح، إنفرد وتَفَرَدَ به الفلسطينيون، وخاصة اللاجئين منهم عن عموم سكان وشعوب المنطقة بأسرها من المحيط إلى الخليج. فقد أعادت وقائع التغريبة الجديدة لفلسطينيي سورية ومخيم اليرموك على وجه التحديد، الصورة الحية لنكبة العام 1948 ومفاعيلها التي مازالت حتى الآن راسخة في الذاكرة الحية للشعب الفلسطيني.
لقد تحوّلت (البقجة) إلى تراث وفولكلور فلسطيني محض، لايُمكن القفز عنها في كتابة دراما التاريخ الفلسطيني الحديث والمعاصر. فباتت واحدة من المُسلمات المتعارف عليها في رحلة التيه الفلسطيني بين الوطن والشتات، وبين الشتات ودياسبورا المنافي البعيدة التي أصبحت في العقدين الأخيرين موئلاً لقطاعات واسعة من اللاجئين الفلسطينيين الذين ضاقت بهم أرض العرب والعروبة على إتساعها. هذا هو حال معظم فلسطينيي سوريا ولبنان والعراق الذين غَصّت بهم دول غرب أوربا والمجموعة الإسكندنافية وكندا واستراليا، وحنى ماليزيا وقبرص والهند...
كانت (البقجة) ومازالت أشبه بما يسمى بـ (كيس البَحّار) المعروف في الجيوش وأنظمة الأمتعة العسكرية، فـ (البقجة) عبارة عن شرشف أو معطف أو قطعة قماش كبيرة، تضم بين ثناياها بعض الأمتعة الضرورية، عنواناً للحل والترحال وقد عادت تلك (البقجة) لتستولد نفسها هذه المرة من جديد مع نازحي الشعب الفلسطيني الذين إضطروا للخروج من مخيم اليرموك وغيره .... في تغريبة جديدة بإتجاه (دياسبورا) داخلية محلية في عموم مناطق دمشق وحتى لبنان إلى مخيم عين الحلوة وغيره من المخيمات والتجمعات الفلسطينية فوق الأرض اللبنانية الى الشتات البعيد.
يسير الفلسطيني أحماله الخفيفة، ويمضي في شارعه الطويل، ويسير ليتعثر بمشاعر الخوف على أولاده .. أخوته .. أمه العجوز وأبيه المقعد .. ويسير دون ان يدري الى أي مدى سيتردد صدى لعناته وتنهداته .. ثم يسير ويمضي...
تلك التغريبة، أعادت معها حالة النزوح الكبير لسكان مخيم اليرموك ومواطنيه وهم يحملون (البقج) بين أيديهم وعلى رؤوس نسائهم وأطفالهم، في رسم وترسيخ لصورة النكبة ووقائعها في وجدان ومشاعر وأحاسيس الأجيال الجديدة من الفلسطينيين من الذين ولدوا في المنافي والشتات بعيداً عن الوطن الفلسطيني ولم يشهدوا بأم أعينهم حقيقة ماجرى عام 1948، وقد إرتوت وأتخمت ذاكرتهم بوقائع النكبة المنقولة بالتواتر الشفهي على لسان أبائهم وأجدادهم الذين خرجوا من فلسطين من حيفا وعكا ويافا واللد والرملة وصفد، وهم يحملون أكوام (البقج) بين أيديهم وعلى رؤوس وهم يجرجرون أطفالهم في رحلة النسيان الطويلة التي أراد منها أعداء الشعب الفلسطيني إنهاء قضيته وطمسها للأبد، وعلى قاعدة "الكبار يموتون والصغار ينسون" كما قالها في حينها وزير الخارجية الأمريكية جون فوستر دالاس عام 1955...
كادت (البقجة) أن تكون نسياً منسياً في رحلة الدراما الحزينة الفلسطينية، لكن رحلة المآسي الفلسطينية الدائمة والمتجددة، كانت تستحضرها دوماً، وتجعل منها رفيقاً وخلاً وفياً للشعب الفلسطيني، وتحديداً قرابة كل عقد أو نصف عقد من الزمن، ليتطور شَكُلها في حقيبة جديدة، لكن (البقجة) تبقى هي، هي، محمولة داخل حقيبة جلدية هذه المرة. فقد حَمَلَ مهجرو مخيم نهر البارد من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان قبل عدة أعوام أكواماً من (البقج) وهم خارجين من مخيم نهر البارد المجروح قبل عدة أعوام إلى متاهات جديدة داخل لبنان وحتى خارجه في منافي الشتات البعيدة. وقبلهم بسنوات قليلة كان فلسطينيو العراق، وعددهم لايتجاوز الـ (40) ألف لاجئ فلسطيني في بلد عربي مترامي الأطراف، ضحايا حملات مسعورة وظالمة ... واستخدامية، دَفَعَت بغالبيتهم لحمل (البقج) مرة ثانية بعد نكبة العام 1948، وقد تحولوا إلى لاجئين جدد في نكبة جديدة على إمتداد المعمورة من أقصاهها إلى أقصاها.
عادت (البقجة) الملازمة للفلسطيني في رحلة مآسيه لتصبح صديق عودته هذه المرة، مع أبناء مخيم اليرموك الخارجين منه في عودتهم القريبة للمخيم، ليحملوها بعد ذلك في رحلة الفرح في عودتهم لفلسطين طال الزمن أم قصر. فسلاماً لمخيم اليرموك وأهله الشجعان، لحاراته وشوارعه.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت