- بقلم: ميساء أبو زيدان.
يبدو وللوهلة الأولى أن كِلا المفهومين (التجدد والتجديد) يضطلاعان بذات المعنى بِفعل جذرهما اللغوي الواحد، إلا أن لكلِ منهما استخداماته التي تحددها سياقات اللغة وأهداف المُستعين بها، ذات الوقفة تَمْثُل هذه المرة بتحدٍ جاد ومُلِّح أمام حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" بخلاف كافة التحديات المفصلية التي مرّتْ بها سابقاً لاعتباراتٍ ذاتية وشمولية، ولا مفر من أن تحدد خيارها كي تمضي قُدُماً لحماية الوطنية التي صنعتْ، فإما التجدد أو التجديد حيث النتائج ستختلف باختلاف اختياراتها لا محالة.
حجم الاهتمام بأحداث المشهد الفلسطيني من قبل المكونات والأطراف كافة (تلك المُنخرطة والمعنية بالصراع في منطقتنا) انتقل بِكُليّتُه لمجريات الأمور التي تشهدها أروقة "فتح"، فهي الحركة التي سطّرت التاريخ الفلسطيني المُعاصِر وعلى أكتافها قامت ثورة المستحيل، النسبة الأهم في ذاك الاهتمام تَشكّلت من مكونات الحركة؛ أبنائها وكوادرها وأنصارها، لجانب المُستَظِلين (المتنكرين) ضمن فُلكِها، فهي التي ستُعين في انتقاء خيارِها لِتخوض اليوم معركتها الفصل لِتُجيب على السؤال الأبرز في وقتنا الراهن (أن تكون أو لا تكون). الحال الحرج الذي سيضع قيادة الحركة أمام مسؤولياتها ذاتياً ويدفعها كي تستجيب لنبض قواعدها المُستصرخ درءًا لكرامة شعبهم وحِفظاً لرائدة نضالاته، القواعد التي تختزن من الموارد ما يأتي تجسيداً فعلياً لما اكتنزه الجسد الفلسطيني رغم جراحاته المثخنة.
منطلقات عديدة استحالتْ تحديات تبرز اليوم أمام صنّاع القرار الفتحوي؛ فـ"فتح" ليست بحزبٍ سياسيّ ولا تتموضع ضمن منظومةٍ سياسية نمطية بظلِّ دولةٍ قائمة فعلياً. فهي حركة الجماهير الفلسطينية التي أُنهِكت ضياعاً وسط الشعارات الطنّانة التي ازدحمت بها ساحات الوغى العربية منتصف القرن الماضي، وهي التي اخترقت صمت منطقتنا لتصرخ بوجه محاولات المساس بحقنا في الوجود على الأرض المسلوبة تخاذلاً، وهي العنوان الذي مكّن المِظلة فجمعتْ شتات مقدرتنا، وهي الإسم الحصين الذي خاض غمار المسار السياسي تفادياً لطمس عدالة قضيتنا، وهي الإرادة التي نِسجتْ مقدراتنا بخيطٍ من دمٍ طاهر وعذاباتٍ تعمقت تضحياتٍ متوارثة. وهي الحركة التي تُستَوقَف اليوم أمام مفترق طرقٍ لم تحمل أيٌّ من إشاراته واحدة توجهها نحو الطريق ذي البنية الوطنية، لتجد "فتح" أنه لا مَفر من أن تُعبده بنفسها كما كانت ويجب أن تبقى، فالمسار التحرري لم يصل وجهته رغم تخطي أميالٍ وعرة. ولا هي الإطار الجمعي الذي يخوض الاستحقاق المُتَصل بمدى مدنية المجتمع في الدولة الراسخة بأركانها ومكانتها ضمن محيطها.
عديد القضايا الداخلية تتزاحم اليوم ناظرةً للقرار الفتحوي، الواضح هنا أن جُلّها يرتكز لعامل واحد وهو قواعدها (الذهبية) التي اندثرت عميقاً بقاع المرحلة الأصعب وانعكاساتها المُستَنزِفة، هذه القواعد التي ورِثت الواقع التحدي بتعقيداته المختلفة المستويات. الحال الذي يُمكننا من توصيف "فتح" بذات الحال الذي تعرضَ له سيدنا المسيح عليه السلام أثناء صلبه؛ حيث جسده الطاهر مساحةً رحبة مورِس فيها صنوفاً من العذاب والتشويه وبذات اليد، وعليه هل ستتمكن قيادة الحركة من أن تُشبِه لمُستهدفي وجودنا وكرامتنا وهويتنا الوطنية بأنهم قتلوها، وبأن "فتح" ستغدو مجداً لا إرادة متجذرة نافِذة وديمومة ما دامت المعركة ؟
محطة تاريخية تمرّ بها الحركة التي أطلقت الثورة فهل ستغادرها لوجهة النصر؟ السؤال الذي تتراءى ملامح إجاباته بثنايا العلاقة مع القواعد، والتي من المفترض أن تحدد أبعادها دائرة صنع القرار في "فتح"، هذه العلاقة التي من المفترض أن تُمتن أولاً بمحاربة الفراغ الناتج عن استفهاماتٍ عريضة لئِلا تملأه الماكينات المتربصة، وباللغة التي تتناسب ومتطلبات الراهن. وأن يتم تعزيزها بعيداً عن المركزية الديمقراطية فهي لن تواكب جملة المتغيرات التي فرضتها التجربة وانعكست بالنتيجة على وعي وسلوك وتطلعات القاعدة، خاصةً وأن المنهجية التي سادت ضمن هياكل الحركة وأدارت أطرها راكمت من التحفظات الكثير القاهر، وفسحت للأنداد بميادين مختلفة العديد من الثغرات. وللتحديد أكثر نعتقد أن "فتح" مطالبة اليوم وهي تخوض غمار أحد الاستحقاقات الوطنية في المسار النضالي الممتد (الانتخابات التشريعية) أن تستند لإرادة القاعدة وبما يواكب جملة المتغيرات سواء على صعيد الحركة الداخلي، أو ما يحيط بها كحركة وطنية من تحديات ومخاطر تُحدق بالقضية الفلسطينية برمتها.
تأتي الانتخابات التشريعية خطوة في مضمار وطني هام لكنها لن ترتقِ لهدفٍ وطني، المُحدد الذي يجب أن تتنبه له "فتح" وبالتالي تضع الإطار الأنسب والأسلم لخوضها، تفادياً للرهان الذي يستهدف بنيانها ودورها. إضافةً لضرورة تبنيها كحركة لمجموعة من المنطلقات التي لا تمس بمبادئها كحركة تحرر وطني، أهمها على الإطلاق الاستجابة لما تنادي له القواعد ووضع الكرة بملعبها بخصوص اختيار ممثلي الحركة في هذا الاستحقاق، على طريق التفكر والبحث في عناصر الثقافة التنظيمية التي بإمكانها تلبية المكونات التي تستند لها الحركة، إلى جانب تناول مدى فاعلية الهياكل القائمة بالمرحلة الراهنة. أما الخطاب الفتحوي عليه أن يُصاغ بما ينسجم والدور الريادي للحركة، وأن يأتي مُلبياً للخصوصية الفلسطينية المرتبطة بالوجود ميداناً، وعلى الهامش تجدر الإشارة إلى ضرورة اعتماد مبدأ "لكل مقامٍ مقال" بعيداً عن وصف الوجوه بالـ"الكالِحة" فَمَن اختار "فتح" منهجاً ودرباً نحو فلسطين لم ولن يكلح محياه.
يهمس الكثير المرتجف لأبناء وقادة الحركة: "حافظوا على (فتح) كون ضياعها ضياعنا جميعاً " سيّما أنهم يدركون جيداً دور الإرادة التي تجلت من رحم المعاناة الفلسطينية لتفرض واقعاً جديد ألزم الشرعة الدولية بصبرٍ منفرد لاحترامه، وبمستوى إدراكهم يأتي إدراك وفهم أعداء الشعب الفلسطيني للدور الأساس الذي تؤديه "فتح" كحركة وطنية بالبعدين الفلسطيني والعربي تحديداً, ومنه تُحاك الخيوط وتدار المعارك على "فتح". لذا؛ يقتضي بصناع قرارها أن يتسلحوا بما تحتضنه الحركة (على قاعدة التجدد لا التجديد) من خيرة الأبناء والكوادر والأنصار الذين تحرروا من كل قيدٍ فصاغوا وطنية معركتهم وملامح مستقبل أجيال شعبهم، هذه الخيرة التي لا زالت تردد (أملاً) ما يعتمر صدورهم (إيماناً) الكلمات: " أنا آتٍ يا وطني آت .. والعالمُ يَرقب خطواتي .. خطواتي عزمٍ و إباء .. وحياتي بذلٌ وفداء .. والثورة هي كل حياتي .. أنا آتٍ يا وطني آت "
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت