- *نهى نعيم الطوباسي
تفاعل الشارع الفلسطيني مع مراسيم الرئيس محمود عباس بتحديد مواعيد الانتخابات التشريعية والرئاسية وانتخابات المجلس الوطني خلال الأشهر القادمة، وسادت حالة من الترقب والحماس لهذا الإستحقاق الذي طال انتظاره، بعد سنوات صعبه من الانقسام وما نتج عنه من آثار وخيمة، وتداعيات خطيرة على المجتمع الفلسطيني والقضية الفلسطينية محليا ودوليا.
لكن هل الانتخابات وحدها قادرة على إحداث نقلة نوعية بالواقع الصعب الذي يعيشه الشعب الفلسطيني، جراء الإنقسام الداخلي من جهة، وانتهاكات الإحتلال الإسرائيلي من جهة ثانية؟ هذا السؤال ليس تشكيكا بأهمية الانتخابات وضرورتها لإنهاء الانقسام الفلسطيني، وبوصفها إحدى أبرز مظاهر الديمقراطية والتعددية واحترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية. وعلى اعتبار أن هذه الخطوة ستجري بالتوافق فهي بلا شك سوف تكون خطوة مهمة لكسر الجليد، سواء جغرافيا، أو فصائليا، أو على مستوى المؤسسات والعلاقات الاجتماعية. ولكن من باب التفكير بصوت عال، عما يدور في أذهان الكثيرين ممن عايشوا الانقسام وكبروا في ظله، فنجاح الانتخابات لا يعني بالضرورة وحكما إنهاء الانقسام، ولا يعني أننا لن نشهد انقلابا جديدا على الشرعية الفلسطينية واقتتالا داخليا، عند أول خلاف بين فتح وحماس. إذن ما هي الضمانات للشعب الفلسطيني لعدم العودة من جديد للمربع الأول أي الانقسام بعد الانتخابات؟ وخصوصا في ظل وجود مصالح وامتيازات وحسابات فئوية، وكل هذه التداعيات الخطيرة التي نشأت عن الانقسام على كافة الأصعدة، السياسية والإقتصادية والثقافية، والنفسية للشعب الفلسطيني. فالانقسام لم يكن مجرد انقسام فصيلين، بل تعمق ليحدث شرخا عموديا وأفقيا في المجتمع الفلسطيني، ولينال من تماسكه، ويخلق حالة من الرفض والعدائية بين مختلف المكونات والاتجاهات والقطاعات والفئات.
هناك كثير من الدراسات والمقالات التي رصدت وحللت تكلفة الإنقسام، بالتأكيد هي باهظة الثمن ليس فقط على مستوى التكلفة الاقتصادية، التي فاقت خمسة عشر مليار دولار كما تفيد بعض المصادر من دون احتساب تكاليف الفرص البديلة والضائعة، ولكن، على مستوى التكاليف المعنوية والنفسية والاجتماعية والثقافية التي كانت أعلى وأعمق بكثير، والتكلفة الوطنية والسياسية كانت هي الأكثر فداحة في ضوء تراجع مكانة قضيتنا وانفضاض بعض المؤيدين والأصدقاء، والانشغال بالذات وبالآخر الوطني بدل الانشغال في مقارعة الاحتلال، فالانقسام أضعف همم الشباب والنساء، وبعثر الجهود والطاقات، وفرق شعبنا في ساحة المعركة أمام الإحتلال الإسرائيلي، وضرب تماسك المجتمع الفلسطيني في مقتل، إنه الضرب الموجع لتلك الروح الفلسطينية المنهكة من الويلات والنكبات، والنكسات، وانتهاكات الإحتلال. عدا عن ذلك لقد شوه الشخصية الفلسطينية الوطنية، وتركيز القوى الوطنية، على التناقضات الثانوية وهو ما يخالف كل المواثيق والمبادئ والاتفاقات الوطنية، مما شتت بوصلة شعبنا وجهوده عن مواجهة الإحتلال الإسرائيلي.
لقد جاء الإعلان عن الانتخابات الفلسطينية مع تفاقم الأوضاع السياسية والإنسانية نتيجة الإحتلال وجائحة كورونا أيضا، ومع كل ما ذكر سابقا لن تكون صناديق الإقتراع الوصفة السحرية لمعالجة كل هذا الواقع المرير، فالإنتخابات وحدها لن تكون كفيلة بإنهاء الإنقسام، إذا لم يرافقها خطة استراتيجية لمعالجة تداعياته، مع ضرورة إشراك كل قوى شعبنا وطاقاته في بناء خطة للنهوض الوطني، والتشبيك مع مؤسسات المجتمع المدني والنقابات والمنظمات الشعبية والحراكات العمالية، والشباب والحركة النسائية وإشراكهم في الحوارات الوطنية للمصالحة على كافة المستويات، لتقريب وجهات النظر وتبادل الهموم والطموحات والتوقعات، واتخاذ كافة التدابير، وتطوير وسائل التوعية والتثقيف بأهمية إنهاء الانقسام، والشراكة الحقيقية بين أبناء شعبنا، وتماسكه في سبيل مواجهة الاحتلال الإسرائيلي ومخططاته لتصفية حقوقنا، وترسيخ مبادئ المواطنة والانتماء لفلسطين والتركيز على مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، ولتصبح الانتخابات أساسا قويا تبنى عليه الرؤى والخطط المستقبلية، وعهدا جديدا يبدأ بمواجهة تلك الآلام والماضي وآثاره الجسيمة.
هناك كثير من نماذج المصالحة الوطنية الناجحة لحل النزاعات بالطرق السلمية، وأهمها تجربة المصالحة الوطنية في جنوب أفريقيا والتي قادتها "لجنة المصالحة والحقيقة" التي شكلها نيلسون مانديلا، بناء على قانون تعزيز الوحدة والمصالحة الوطنية رقم 34 للعام 1995، لقد مر على هذه المصالحة عقدان من الزمن ولم تتضعضع، واعتبرت نموذجا ناجحا للمصالحة الوطنية وإعادة اللحمة الوطنية مع مراعاة حقوق ضحايا النظام العنصري السابق، ولعل أهم أسباب نجاح هذه التجربة، هو أنها عملت على تجاوز مرارة الماضي ودمويته، وإضفاء أجواء الشراكة الحقيقية بين فئات المجتمع، والانتقال إلى مرحلة جديدة تسودها العدالة والتسامح والديمقراطية. وحتى الآن مازالت مقولة نيلسون مانديلا "الشجعان لا يخشون التسامح من أجل السلام" شعارا لكل الأجيال في جنوب أفريقيا. لذلك لا بد من أن تكون المصالحة شاملة ليس فقط على مستوى الفصائل، وإنما خلق الانسجام والقبول الوطني والشعبي، وسد الفراغات بين مكونات المجتمع الفلسطيني.
ولا بد من تغليب التناقض مع الاحتلال على كل التناقضات الثانوية، والانتخابات هي فرصة لتجميع تلك الجهود، وتوجيه البوصلة باتجاه فلسطين ولا بد من انتهاز الفرصة لإصلاح ما يمكن إصلاحه، وهذا ليس مستحيلا إذا توفرت الإرادة والنية الصادقة لذلك.
*باحثة، ماجستير تنمية وحل الصراع
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت