- بقلم/عبد الناصر عوني فروانة
إن من أصعب أنواع الرحيل هو رحيل الجيران، وأكثر لحظات الفراق ألماً هي لحظة فراق الأصدقاء. فكم هو قاس هذا الرحيل وذاك الفراق. فرحيل الموت والفراق الأبدي عن هذه الحياة لا يؤلم من سبقنا ومات، وانما يُؤلمنا نحن من لا زلنا في سجلات الأحياء. فالموت: هو الوجعُ الذي لا يُبكي صاحبه ويُبكينا. وكلما تذكرنا الراحلين من جيراننا وأصدقائنا وأحبتنا، ازددنا بُكاءً على فراقهم وألما لرحيلهم.
عبد القادر العفيفي: رحيل الجار وفراق الصديق. بل لم يكن جاراً فقط، أو صديقاً فحسب، وانما كان لي جاراً وصديقاً، أخاً ورفيقاً، وعرفته ثائراً ومناضلاً وأسيراً. فلقد نشأنا وترعرعنا وتجاورنا سنوات طويلة في غزة هاشم وفي حي بني عامر خلف مدرسة الزهراء الثانوية للبنات بمنطقة الدرج شرق المدينة. هذا الحي الذي أفتخر أني نشأت وترعرعت فيه، وكبرت بين جدرانه وكبرت معي طفولتي فانخرطت في مواجهة الاحتلال مبكراً وبدأت مسيرتي الكفاحية في أزقته، وعشت أجمل وأروع سنوات عمري مع سكانه الذين أعتز بجيرتهم وأفتخر بمعرفتهم وصحبتهم دوماً وأبداً. وبالمناسبة هو ذات الحي الذي كان يقطن فيه هذان المناضلان خليل الوزير(أبو جهاد) وصلاح خلف(أبو اياد)، قبل ان يغادرا القطاع ويستشهدا في خضم النضال الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي.
عبد القادر العفيفي: عشنا معاً، وتصاحبنا طويلاً، وعملنا وعرقنا وتعبنا مع بعض جنبا الى جنب. وناضلنا وقاومنا وتقاسمنا المرارة سوياً، وتحاورنا كثيراً واختلفنا مراراً. وذات مرة جمعنا الاعتقال ومرّرنا على سجن غزة المركزي سوياً، وتجاورنا في "مسلخ التعذيب وزنازين الموت" لأيام وشهور طويلة. ومن ثم التقينا في غرف السجن وبين جدرانه وفي ساحاته لمرات عديدة. فكان نعم الرجال. ونعم الأخ والجار والصديق. ونعم المقاتل والقائد والأسير.
ولد الفقيد عبد القادر عبد الرحمن العفيفي، وكنيته "أبا محمد" في الواحد والثلاثين من تموز/يوليو من عام1954 في حي بني عامر بمنطقة الدرج شرق مدينة غزة، وينحدر من عائلة مناضلة هاجرت من قرية البطاني الغربي في فلسطين المحتلة اثر النكبة عام1948، وعانت مرارة التشريد والتهجير، وانخرط كافة أبنائها الثمانية في مقاومة الاحتلال الاسرائيلي، دفاعاً عن الحق الفلسطيني وذوداً عن الكرامة العربية ولأجل استرداد الأرض وحرية الانسان. فنصفهم أبعدوا وغادروا الوطن قسراً وعاشوا في مخيمات اللجوء في لبنان والأردن وسوريا، وانخرطوا وناضلوا في صفوف الثورة الفلسطينية. ونصفهم الآخر بقىّ في الوطن يقاوم، فأُعتقِل جميعهم. وفي احدى الفترات كان أربعتهم في السجن الإسرائيلي. وخامسهم "أبا نضال" أُعتقل في عرض البحر أثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام1982 حيث كان يقاوم هناك، وقضى في معتقل عتليت شمال فلسطين المحتلة قرابة عام، وأفرج عنه ضمن صفقة تبادل الأسرى عام1983. أما والدهم العجوز والمكافح رحمة الله عليه فكانت لقمته مغمسة بالعرق والمعاناة، وقد توفى عام 1985، والأم الصابرة رحمة الله عليها التي توفيت هي الأخرى عام 2002، كانت هي الوطن بأكمله.
درس "أبا محمد" في طفولته في مدارس "الأونروا"، وأكمل المرحلة الاعدادية قبل أن يترك مقاعد الدراسة وينتقل الى سوق العمل لمواجهة تحديات الحياة وقسوتها، فكبر وتزوج والتحق في صفوف حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" عام1976 خلال زيارته الى العراق. ومع اندلاع شرارة انتفاضة الحجارة في الثامن من كانون أول/ديسمبر عام1987، كان أحد قادتها في منطقة غزة، كما وقاد احدى مجموعاتها الضاربة التي وقفت بالمرصاد لجنود الاحتلال وعملائه.
اعتقلته قوات الاحتلال ادارياً بتاريخ 31حزيران/يونيو من عام 1988 لستة شهور، ولم يهدأ أو يستكين. فخرج من السجن أكثر ثباتاً وتماسكاً بالأهداف، وأكثر اصراراً على مواصلة الكفاح، تجسيداً لمقولة: السجن استراحة مقاتل. حتى عادت قوات الاحتلال وبمساعدة قوة من المستعربين واختطفته من أمام جمعية "مركز شمس" الإنسانية غرب مدينة غزة حيث كان يعمل فيها، وزجت به للمرة الثانية في سجونها وكان ذلك بتاريخ 31تشرين أول/أكتوبر عام 1989، وتعرض خلالها لصنوف مختلفة من التعذيب القاسي، الجسدي والنفسي، في أقبية التحقيق بسجن غزة المركزي، وفي ذاك القسم الذي يُطلق عليه الفلسطينيون اسم "المسلخ"، دلالة على قسوة ظروفه وشدة التعذيب فيه، ومن ثم حكمت عليه احدى المحاكم العسكرية الإسرائيلية بالسجن الفعلي المؤبد (مدى الحياة) لعدة مرات، بتهمة الانتماء لحركة "فتح" ومقاومة الاحتلال وملاحقة وقتل عملاء.
لكن القدر لم يشأ للأسير عبد القادر العفيفي أن يقضي في الأسر سوى خمس سنوات متواصلة، فأُطلق سراحه في التاسع من حزيران/يونيو عام 1994، ضمن الافراجات السياسية كاستحقاق لاتفاق "اوسلو" وما أعقبه من تفاهمات.
خرج "أبو محمد" من السجن، أكثر صلابة وايمانا بالله وعدالة قضيته، فكان مواظباً على الصلاة وأدى فريضة الحج وحرص على النوافل من الصيام وساهم في عمل الخير وساعد الأصدقاء والفقراء ووقف الى جانب الوطن والمواطن وقضاياه الوطنية.
وانخرط في العمل ضمن صفوف جهاز المخابرات العامة، وتدرج فيه الى أن أصبح مسؤولاً عن جهاز المخابرات في المنطقة الشمالية من قطاع غزة وتقاعد برتبة عميد. وخلال عمله هذا لم يخن الألم ولم يتخل عن الجار والصديق، وبقىّ وفياً للعلاقات التي تربطه بأصدقائه وجيرانه. وكثيرة هي المرات التي لجأناً فيها إليه. ولم يكن يرد سائلاً ولا يرفض لنا طلباً. وأنا وجيرانه وأصدقائه نشهد له بذلك.
ومع تقدم العمر ومرور السنين تسربت الأمراض لداخله واستوطنت، وأنهكت جسده المثقل بالهموم وبما ورثه على السجون. ونظراً لظروف الحصار وتداعياته ومحدودية الامكانيات في غزة المحاصرة، بات بأمس الحاجة للسفر لتلقي العلاج.
وبعد الرفض والمنع الأمني، والمماطلة والمراوغة الإسرائيلية، سمحت له سلطات الاحتلال بالسفر الى المستشفى الأهلي بمحافظة الخليل لتلقي العلاج. فسافر الى هناك في وقت متأخر من مساء الواحد والعشرين من شباط/فبراير، وفي الطريق الى مدينة الخليل والتي تقع في الضفة الغربية إلى الجنوب من القدس، مرّت سيارة الاسعاف بجانب قريته التي هُجِرّت منها عائلته، ليعود إليها ويتنسم هوائها. وبعد وصوله مدينة الخليل ودخول المستشفى بساعات معدودة لفظ أنفاسه الأخيرة بعد منتصف ذات الليلة، وكان ذلك يوم الأربعاء الموافق الثاني والعشرين من شباط/فبراير من عام 2016. وفي اليوم التالي يعود الى مسقط رأسه في غزة العزة، جثة هامدة، ليدفن فيها، ويُقام له بيت عزاء في بني عامر، الحي الذي نشأ وتربى بين أزقته وكبر وعاش فيه مع جيرانه، وحيث ما زالت أسرته وعائلته تقطن فيه.
عبد القادر العفيفي "أبو محمد". أحببناه في حياته وتألمنا كثيراً حين مماته، وبكينا يوم رحيله وحين ودعناه. وكلما تذكرناه شعرنا بخسارة كبيرة لفقدانه. وكما يقول الشاعر الفلسطيني محمود درويش: الموت لا يؤلم الموتى، الموت يؤلم الأحياء.
وتبقى عائلة "العفيفي". عائلة مناضلة نعتز بتاريخها، وأسرة مكافحة نشهد لها، وجيران أعزاء نفخر بصداقتنا معهم. ويبقى المناضل/عبد القادر العفيفي "أبا محمد" حاضراً في الذاكرة رغم الغياب، وتاريخاً محفوراً في سجلات الحركة الوطنية الأسيرة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت