- نهاد أبو غوش
يتوقع بعض المراقبين، ومعهم بعض الشامتين، بأن تختفي قوى اليسار نهائيا عن المشهد السياسي الذي ستفرزه الانتخابات التشريعية الفلسطينية المقررة في شهر أيار المقبل، وثمة من هم أكثر تفاؤلا فيتوقعون نجاح اليسار في اجتياز عتبة الحسم (1.5 %)، ولكن بشكل عسير، ومع تأثير جدّ محدود على المعادلة السياسية التي ستترتب على نتائج الانتخابات.
وقبل الخوض في موضوعنا ينبغي التمييز بوضوح بين فصائل وقوى وأحزاب وتشكيلات اليسار التي نعرفها، وبين اليسار كظاهرة طبيعية وصحية وضرورية في جميع التشكيلات الاجتماعية – الاقتصادية التي تنقسم فيها المجتمعات إلى طبقات، ويختلف فيها الناس وتختلف فيها مصالحهم حول سبل إدارة المجتمع والدولة، فاليسار هو باختصار الانحياز الواضح لمصالح الفئات الكادحة والفقيرة والمهمشة، وكذلك الجرأة في تبني أفكار التجديد والتغيير وحقوق الإنسان وسائر الحقوق المدنية الفردية والجماعية، ومساواة المرأة الكاملة بالرجل. وعلى صعيد السياسات الخارجية يتجسد اليسار في نبذ التعصب القومي والوطني، ورفض الأفكار والمبادئ العنصرية والشوفينية العرقية، والإيمان بأخوة الشعوب ووحدة مصير البشر.
اليسار إذن مفهوم اجتماعي تاريخي نسبي، متغير ومتحرك، ولا يخلو منه مجتمع من المجتمعات، وما قد يبدو يساريا في وقت ما وبالنسبة لظاهرة ما قد ينقلب إلى يميني في وقت آخر، وتجاه ظاهرة أخرى. ولا تحمل لفظة "اليسار" بأية حال من الأحوال أي قدر من الطهرانية الثورية، فكثير من جرائم الاستعمار الأوروبي الوحشية جرى تنفيذها على أيدي قوى وأحزاب تدعي أنها يسارية، مثل حزب العمال البريطاني، والحزب الاشتراكي الفرنسي، ونحن أدرى بما فعله حزب العمل الإسرائيلي (مباي) ذو اليافطات اليسارية الفاقعة، من جرائم ومجازر إبادة جماعية وتطهير عرقي واستيطان واحتلال تجاهنا كفلسطينيين.
والحقيقة أن هذه المعزوفة ليست جديدة على مجتمعنا الفلسطيني ولا مرتبطة بالانتخابات المرتقبة، بل هي في واقعنا الفلسطيني ابنة عقود من الزمن. وبدأت تنتشر في صفوف النخب والمجالس وفي ما يكتب، ارتباطا بعاملين متزامنين هما انهيار الاتحاد السوفييتي، ونشوء عالم القطب الواحد بزعامة الولايات المتحدة الأميركية وما رافق ذلك من نظريات. وبدء مسيرة مدريد – أوسلو وقيام السلطة الوطنية الفلسطينية، ثم مغادرة مئات الكوادر والمثقفين لمواقعهم النضالية في أحزاب اليسار والتحاقهم إما بأجهزة السلطة ومؤسساتها، أو بالمؤسسات غير الحكومية الممولة من الدول المانحة.
صحيح أن التنبؤات السلبية اتكأت على أزمات اليسار البنيوية والبرنامجية، وعلى انقساماته وتشظّي قواه، وتكلّس هياكله التنظيمية، وغياب التجديد الحقيقي عن برامجه ووسائل عمله، كما عن هيئاته القيادية التي ظل بعضها عصيا على التغيير لأكثر من نصف قرن، وظل الأفراد الذين أسسوا هذا اليسار وقادوه حين كانوا في العشرينات من أعمارهم، يقودونه حتى الآن وهم بين نهايات العقد الثامن وأواسط التاسع.
ثمة إذن أسباب ذاتية وموضوعية تفسر تراجع دور اليسار، وفي هذا السياق ينبغي عدم إغفال ما تعرض له هذا اليسار جماعات وأفرادا، من تهميش وتمييز، ومضايقات وقمع أحيانا، وحرمان من الحقوق الطبيعية للمواطنين في إشغال الوظائف والترقيات وحرية العمل السياسي والنقابي وغيرها.
من الإنصاف الإشارة للدور التاريخي المهم، والحاسم أحيانا، لقوى اليسار العالمي، سواء على مستوى العلاقات الدولية بانحيازها لحركات التحرر ولدول وشعوب الجنوب، أو على المستوى الوطني داخل كل دولة من خلال الإنجازات التي حققها اليسار أو كان أول من طالب فيها، في تطوير التشريعات العمالية والنقابية، وتحقيق المساواة للمرأة ولكل القطاعات المهمشة، وتحديث القوانين والدساتير، ومواجهة مخاطر الحروب وبخاصة الحرب النووية، والدفاع عن البيئة والأشخاص ذوي الإعاقة، وفي انتزاع منظومات الحقوق المدنية، ومحاربة العنصرية وخطاب الكراهية، وترسيخ قيم المواطنة.
في تاريخنا الفلسطيني البعيد والقريب على السواء، ساهم اليسار الفلسطيني في تطوير الخطاب السياسي للثورة الفلسطينية، وتقديم برنامج الإجماع الوطني، وإكساب الثورة مضامين اجتماعية غنية ومرتبطة بهموم الناس اليومية، وربط النضال الاجتماعي بالمطلبي، واكتساب أنصار جدد من حركات التحرر والقوى الديمقراطية والتقدمية على امتداد العالم، فضلا عن تضحياته الغالية والجسيمة والهائلة، ومشاركته في جميع معارك الدفاع عن الشعب والثورة، إلى تمسكه الدائم بوحدة العمل الوطني، ودفاعه عن الشرعية وعن الصفة التمثيلية لمنظمة التحرير الفلسطينية.
ومن المؤكد أن أحد أهم أسباب استمرار الانقسام وطول عهده، ضعف القوى التي كان يمكن لها أن تشكل قطبا أو ضلعا ثالثا في المعادلة الفلسطينية، بديلا لحالة التنافس التناحري والاستقطاب الثنائي الحاد. وهكذا فإن تمثيلا منصفا ووازنا لليسار الفلسطيني من شانه أن يكسر حدة الاستقطاب، ويعيد التوازن للحياة السياسية الفلسطينية، وأن يمثل حليفا ثابتا لكل دعاة الوحدة الوطنية، وتغليب المصالح العليا على الحسابات الفئوية، وكسبا صافيا لكل من ينحاز للفئات الاجتماعية الفقيرة والضعيفة، وللمرأة والشباب، والحريات العامة والحقوق المدنية وقيم الحداثة والمعاصرة والتقدم والديمقراطية.
لكن هذا التمثيل المستحق والمحترم لقوى اليسار، لن يأتي على طبق من فضة، ولا منّة أو منحة من أحد، بل ينبغي لقوى اليسار الأساسية أن تسارع دون أي إبطاء لتوحيد صفوفها، وتجاوز كل حساباتها الذاتية والشخصية الصغيرة، وأن تبادر في أسرع وقت ممكن لتشكيل قطب ثالث مقنع، من القوى والأحزاب والشخصيات والحراكات القطاعية والمجتمعية، من الشباب والمرأة، وقادة النضال الميداني ممن يتحلون بالكفاءة ونظافة اليد والسيرة الحسنة، ومن غير ذلك سيمنى اليسار للأسف بخسارة مؤكدة هي في الحقيقية خسارة للشعب الفلسطيني برمته ولقضيته الوطنية.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت