حتى لا يحصل للمرشحين ما حصل لبهلول في "الأراكوز"

بقلم: تحسين يقين

تحسين يقين
  • تحسين يقين

"انتو عارفين اني منكم، لحم كتافي من دفنا، برشح حالي علشان الفقرا،  واهل دفنا يعيشوا زي اهل المدينة، حفتح لكم نوادي وحجيبلكم كل حاجة.." تلك دعاية "بهلول" الانتخابية لقريته دفنا ومن حولها. ترى الى متى يستمر بهلول ومن هم على شاكلته بإطعامنا الوعود الوهمية، حيث أن الكثير سيكرر وعود "بهلول"!

لكن من لنا بأقرب الناس، كوالده الواعي، لمواجهة ابنه، كما فعل عم جاد الكريم، الكراكوز، حين كان يقابل تلك الوعود بسخرية!

وقتها فقط ابتسم عم شهدي أفندي، الفنان الكبير المرحوم عبد العظيم عبد الحق، بعد تكشيرته وهو يرى احتفال الكذب أمامه.

آه من التحولات التي تغري الابن بإيداع أبيه السجن!

وليس فقط السجن، بل كل ما يتوفر عليه من أدوات تقوي الخلاص الفردي!

  • لماذا الآن بعد 31 عاما؟
  • ربما ذكرتني الانتخابات ونظم الحكم ببهلول، ابن عم  محمد جاد الكريم، وما آل إليه الحال، ولا أدري ماذا حدث في القصة الأصلية؟ هل تغير أم ظل يركب الأمواج!
  • .......؟
  • مهو أصلي الواد بهول التاني الصغيّر، راح عمو جاد الكريم، فنان الأراكوز يسرح بيه الغيطان بين الناس في اخر الفيلم ، على أمل إنو ما يكونش زي أخوه، على أمل انو يعوّض اللي خدو تحول الانفتاح، وساب أرضو..
  • ........!
  • الحكاية انو كان هناك أمل عند هاني لاشين وطاقم الفيلم، وكمان معهم الشاعر الراحل سيد حجاب، بأن يحدث تغيير، من خلال الاستثمار في الجيل الجديد، (جيلنا يعني)، لأن الفيلم صحيح ظهر سنة 1989، إلا إنو بحكي عن فترة من (آخر الستينيات حتى أوائل الثمانينات)،  يعني فترة الانفتاح، واللي لحد الآن مش مخلصين منها. وهيك اختتم الفيلم بمشهد الأب الكبير مع طفله الصغير، يغنيان معا أغنية الاراكوز.
  • بتحكي مصري ولا فلسطيني؟

عربي وربما عالمي أيضا، فحكايتنا حكاية شعوب كثيرة.

كنت في اول العشرين حين ظهر فيلم "الأراكوز"، وكان المخرج والكاتب هاني لاشين في آخر الثلاثينيات 38 عاما، (أخرج لاشين فيلم أيوب من بطولة عمر الشريف عام1983 ) ولاشين الآن في بداية السبعينات الآن، وكان عمر الشريف في أواخر الخمسينيات، وكان الشاعر الكبير سيد حجاب في أواخر الأربعينيات، ويمكن الرجوع للممثلين/ات، مثل: ميرفت أمين كانت في أوائل الأربعينيات، وهشام سليم كان في أوائل الثلاثينيات، وأحمد خليل كان في أواخر الأربعينيات، وسلوى خطاب كانت تدخل الثلاثين. أما صاحب فكرة الفيلم فهو د. عصام الشماع، وكان ابن 34 عاما وقتها.

الآن، بعد 31 عاما، ماذا جدّ؟ كلنا زدنا 31 عاما، فصرت في أوائل الخمسينيات، ولك أن تضيف على كل ممن ذكرت، هذا العمر إن ما زال حيا، وهكذا فقد اقترب المخرج هاني لاشين من السبعين، كذلك ميرفت أمين صارت سبعينية، وهشام سليم وسوى خطاب صارا ستينيين، أما أحمد خليل فعلى أبواب الثمانين.

كيف تلقيت الفيلم أنا وجيلي، والجيل الأكبر منا، الثلاثينيون حتى التسعينيين؟

كان مساء جميلا، حين اصطحبت زملائي، لمشاهدة فيلم الأراكوز من بطولة الفنان العالمي عمر الشريف، وقد تلقينا الفيلم على قدر ثقافتنا وفهمنا التاريخي. كان هناك لغط حولنا من الجيل الجديد، لم يجذبه الفيلم، لكن كان هناك آخرون يشاهدون بإصغاء، وأظننا كنا بين بين، وكنت أشعر بأن هناك رمزية مهمة في كلمات الأغاني، وكقرويّ شدتني مشاهد القرية المصرية، وأمكنني فهم المنحى النقدي لسياسة الانفتاح. لم نتناقش في طريق العودة، لكن ظل المشهد الأخير، مشهد الأمل بالغد، ماثلا أمامي حتى اليوم. وهنا، في هذا الزمان، وفي غير مكان، أتساءل، محاولا تقييم دور الفكر والفن في تصويب أدائنا الجمعي، وليس فقط أداء نظم الحكم، لم استمر الانهيار!

كان طاقم الفيلم والشاعر سيد حجاب يحلمون بالتغيير، لكن في ظل ذلك، كان صوت النظم وسلوك الخلاص الفردي في مجتمعاتنا العربية هو السائد، لذلك لم نخلص جمعيا ولا فرديا، إلا إذا عدّ البعض فلوسه ورضي، من باب "معك قرش تسوى قرش".

فلم يكن من الغريب مثلا محدودية بث فيلم "الأركوز" في التلفزيونات، كما حدث مع فيلم "عودة الابن الضال" ليوسف شاهين، الذي اشتهرت أغانيه التي غنتها ماجدة الرومي.

محمد جاد الكريم يعمل أراجوز ويحب مهنته، التي من خلالها ينتقد الظلم، وبنحاز للمظلومين. يعيش مع ابنه بهلول، الذي يبعثه للدراسة في القاهرة،  ثم يتزوج جاد الكريم،  وتحدث تغيرات في حياة الناس، والأفراد، ومنهم ابنه بهلول، ثم تتصاعد الأمور لدرجة مواجهة الأب لابنه، الذي يكون قد انخرط في مشاريع الانفتاح الاقتصادي.

أ"راجوز أنا و أحمي أرى أرى إيه؟

أحمي قراريط الناس من مين؟

من الناس الأرى أرى إيه أرى إيه؟

من الناس القراميط الملاعين"

خلفية الفيلم حياة القرية والمدينة، وتأثر كل منهما بالتحولات الاقتصادية التي تمثلت بسياسة الانفتاح، وما قاد ذلك إلى تبعية ، وما يمثله، لرجل الأعمال، وصولا للتنافس والعنف الذي ميّز في فترة المجتمع المصري، وصولا لاغتيال الرئيس.

إذا عرفنا شخصية عم جاد الكريم، النقية، الملتزمة بالعدالة ودعم وتقوية البسطاء، وبالوطن (في ال67 ما سكتناش، بكينا لما مات عبد الناصر وفرحنا بنصر 73)، والذي يسعى لتطور الحياة من خلال التعليم، فإن ابنه بهلول على الجهة مختلف، حيث بدأ بالتغير التدريجي وراح يبحث عن خلاصه الذاتي. في حين يواصل جاد الكريم انتصاره للفلاحين، (كل ما اقطع له لسان يطلع له)، وحينما يواصل فنه من اجل الوطن، يصير التلفزيون بكوميدياه ينافسه، تتغير الطباع، فيخسر جزءا كبيرا من جمهوره (الحرب خلصت من زمان).

الواد عواد ياهوه همّل في أرض أبوه

والأرض عرض واللي يفوت أرضه يتوه

الأرض الشابة بارت قام جرفها استدارت

وفلوس تجريفها طارت وقعد يائس وخانس

واحكي يا بن المدارس

ولأن الفقر كافر خد بعضه وراح مسافر

لبلاد الجاز وعافر ورجع وخيره وافر

جاب مروحة وراديو وجهاز تسجيل وفيديو

شهرين وجيوبه فضيوا وقعد يائس وخانس

واحكي يا بن المدارس

لقد مر بهلول بمرحلتين، الأولى وهي النزوع للهم العام، لذلك رأيناه يحتج على زملائه في إحدى أمسيات اللهو، بأن ذلك يتناقض مع صوت المعركة. والثانية، وهي الاهتمام بالذات، فهو يريد أن يحقق أهدافه المادية بسرعة، فيتقرب للأكاديمي ورجل الأعمال كامل بك، وتصير إقامته في القاهرة، فلا يذهب للقرية في الإجازة، بل انه حينما يزوره أبوه جاد الكريم، يتفاجأ به، كأنه لا يود تذكر الماضي، ويصير مجاملا لأبيه. ويشعر بالطبع الأب بذلك. يتقرب من كامل بك، ومن ابنته فيتزوجها، ويتعاون معه في مشروع سياحي، لكن الطمع الرأسمالي يدفع بهلول للتنافس وعدم الاكتفاء بدوره السابق، جريا وراء الجشع الذي صار سائدا لدى هذه الشريحة التي استفادت من سياسة الانفتاح.

وهنا يكون التصادم حتميا، حيث يكتشف رجل الأعمال ان زوج ابنته يخطط لكي يكون هو صاحب المشروع بل وأن يخطط للترشح لدخول البرلمان بدلا منه فيواجهه كامل بك، لكن يهدده بابنته فيرضخ له مبيتا له نية أخرى. وكامل بك أصلا قادم من خلفية إقطاعية ركب موجة المرحلة السابقة وصولا للاتحاد الاشتراكي، فالانفتاح.

يصير على بهلول أن يواجه حماه، والد زوجته، وأيضا والده جاد الكريم، الذي أصلا هو يناهض سياسة الانفتاح وما تجره على الفلاحين البسطاء من مآس، وصولا الى التحريض على سجن والده، أخذا بنصيحة أحد رجاله حتى لا يؤثر والده على دعايته الانتخابية.

يفرج عن ابيه، ويذهب مع زوجته إنعام، لمواجهته في دعايته الانتخابية، ويتجلى التناقض في مشهد الدعاية الانتخابية، حين يعد بهلول أهالي قريته وعودا وهمية، في حين يسخر الاراكوز منه، في هذه الأثناء يترصد أحد رجال كامل بك بهلول، فيطلق عليه الرصاص، ولكن تأتى الرصاصة في زوجه الأراجوز إنعام التي تتوفى، ليصبح الاراجوز مره أخرى وحيدا ويحاول ان يربى الأراجوز الصغير محاولا أن يحسن تنشئته بعيدا عما آلت له أمور بهلول. أما بهلول فيفاجأ بمن يسعى لقتله ومن يحميه:

"يعني معنى الحكاية اللي يبيع في البداية

يضيع قبل النهاية ويدوخ دوخة الولايا

ومعنى القصة برضه اللي يفرط في أرضه

يبقى فرط في عرضه وافهم يا ابو مخ يابس

واحكي يا ابن المدارس

أما زوجته إنعام، والتي حاول كامل بك شراءها ثم اغتصابها، فإنها ترفضه، وتختار عم جاد الكريم، الذي يقدم نفسها له بأنه الأولى بأن ترتبط به. ولا يخلو الأمر من رمزية الوطن-مصر، ومن المؤهل فعلا لقيادتها:

"أراجوز أنا .. و أقدر أرى أرى إيه؟ أراعيكي و أشيلك في عيوني

و إذا مرة زعلتي أرى أرى إيه؟ أراضيكي بعقلي .. و بجنوني

حُطِّي من السما على أرى أرى إيه؟ أراضيّه و اسلِّم لِك أمري

و كُلِي معايا في أرى إيه أرى إيه؟ قروانتي يا كروانة عمري

و بَدَل مانا كده ملوي الَبَزبوز أصبح لك جوز معزوز محظوظ

إيه يا ترى إيه؟ أرى أرى أراجوز"

عدت لمشاهدة الفيلم عدة مرات، وهو متقن سينمائيا، يجب أن تركز في الاستماع للحوار وكلمات الأغاني، كذلك في مشاهدة الفيلم بصريا: صورة والد كامل بك بالطربوش وراء العريسين بهلول وصور عبد الناصر، صور الواد عواد راكبا حماره وهو حامل جهاز التسجيل في أغنية (أراكوز المدارس)، الخبز الهش الذي تكسّر بيديّ بهلول بعد هزيمة 1967..جلوس الناس بيأس على وقع موسيقى حزينة تعكس حالة الرثاء للحال. تكشيرة وابتسام عم شهدي أفندي، خوف بهلول التي تجلت باستجابته الحركية الذكية بالجسد..

وأخيرا لعل سيد حجاب  لخص دور الفن بشكل عام وليس فقط فن الأراكوز:

"وإذا بان للشر نيبان وزبان باحمي الغلبانة و الغلبان

و شجاعتي ماهياش في الطاخ طيخ دي شجاعة تفكير و تماخيخ

الأرض أضربها تجيب بطيخ بذكاوتي و أخلي الخلا بستان"

لقد سررت  فعلا حبا بفيلم "الأراكوز" حين تم الاعتراف  بفن الأراكوز،  في عام 2018  من منظمة اليونسكو، كأحد الفنون البشرية الهامة، ووضعته المنظمة على قوائم الصون العاجل من خلال الملف الذي أعده البروفسور الصديق نبيل بهجت، كمبادرة فردية منه لتسجل هذا الفن على قوائم الصون العاجل، فهو من أشهر الفنون  الشعبية في مصر على الاطلاق، وأحد الاشكال المبكرة للمسرح.

[email protected]

 

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت