- بقلم علي بدوان ... عضو اتحاد الكتاب العرب
من الكوارث الكبرى التي لازمت محنة مخيم اليرموك، كانت كارثة المكتبات، التي احترقت أو لاقت مصيرها بين الدمار والعبث على ايدي الجهلة الذين اشعلوا النيران بها. وقد دمرت هذه المكتبات ونهبت واحرقت كتبها ومراجعها .وفي المقدمة منها مكتبة مركز مصادر التعلم لوكالة الأونروا في مُجمّع مدرسة (صرفند) الكائن خلف مستوصف الخامس. ومركز مصادر التعلم الجديد في مجمع المدارس في شارع المدارس ـــ اللذان كانا يضمان كل المعارف الانسانية و مصادر المعلومات المرئية، والمسموعة والمكتوبة ـوكل مايتعلق بالنكبة بما في ذلك آلاف الصور الفوتوغرافية ـــ وكان لهما قيمان لادارتها ضمن خطة شهرية سواء لطلبة المجمعين او مدارس الاونروا في اليرموك، او نشاطات المجتمع المحلي من ندوات ومعارض متنوعة ... مكتبة مركز التطوير التربوي الثرية جداً، وخاصة في مراجعها التربوية والتي كانت قبلة للتربويين والدارسين التربويين وطلبة الجامعات .
وما يؤلم أن معرض التوثيق الفلسطيني الدائم والذي يحتوي على اكثر من وثيقة مؤطرة ببراويز ذات لون واحد ومرقمة بحسب تصنيفات الحياة الفلسطينية بجوانبها المختلفة الاجتماعية والمدنية والاقتصادية والسياسية والفكرية، ومرفقاً بدليل، والذي استغرق اعداده مدة اربع سنوات بالتعاون مع المجتمع المحلي الفلسطيني في سورية مع دعم ادارة الوكالة وخبراء تربويين للمكتبات والثقافة في مركز التطوير التربوي لوكالة (اونروا) بدمشق ، والذي عرض في كل المجمعات المدرسية التابعة للأونروا في سورية وكان مخطط له ان يعرض في لبنان والاردن ايضاً. هذا المعرض الذي تم الإحتفاظ به بعشرة صناديق، في مركز مصادر التعلم في مجمع المدارس، لم يعد له وجود.
كذلك كارثة مؤسسة فلسطين للثقافة كانت كبيرة حيث كان لديها مشروع مركز المخطوطات الفلسطينية جمعت فيه مئات المخطوطات والوثائق الفلسطينية أو التي تناولت موضوع فلسطين، ومشروع طباعة أعمال الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، ومشروع توثيق التصوير والتشكيل الفلسطيني، ومشروع الأعلام الفلسطينيين في الأدب والشعر عبر التاريخ وقد أنجز منه خمسة مجلدات ... كلها توقفت مع مشروعات أخرى بسبب الدمار.
أما المكتبات الشخصية، فحدث ولاحرج، ولامجال للحديث بشأنها لكثرتها، ففي كي منزل في اليرموك مكتبة كبيرة أو متواضعة. وهنا ننعش ذاكرة التاريخ الفلسطيني القريب للإشارة الى بعض المكتبات فقط، التي نهبت في أوقاتً مختلفة، فنكبة المكتبات الفلسطينية (قديمة/جديدة)، فهي واحدة فرعية وجزئية من كارثة النكبات التي هوت على الشعب الفلسطيني منذ وعد بلفور عام 1917 وقدوم الهجرات الكولونيالية الإستعمارية التهويدية لأرض فلسطين. وقد كانت نكبة المكتبات نكبة عامة عندما نهبت وسرقت وأحرقت المكتبات العامة في فلسطين وماتحويه من تراث وتاريخ. ونكبة خاصة شخصية عندما نُكبت مكتبات كبرى لأقلام وأسماء فلسطينية معروفة في عالم الفكر والإبداع والبحث والعلوم والمعرفة بشكل عام. وهنا سنتحدث عن المكتبات الخاصة الشخصية فقط. إضطر العدد الأكبر من الفلسطينيون الذين طالتهم يد التطهير العرقي الصهيوني عام 1948 على ترك كل ممتلكاتهم بما في ذلك مكتباتهم وكتبهم التي لم يروها بعد ذلك. وقد أضطر على سبيل المثال المحامي عمر صالح البرغوثي في أيار/مايو 1948 لترك مكتبته في شارع يافا وبيته في حي القطمون في القدس. وعبر الشاعر الفلسطيني خليل السكاكيني (1878-1953) الذي لجأ الى القاهرة عن القلق نفسه. وقال "وداعا مكتبتي! وداعا كتبي! لا اعرف ماذا حل بكم (…) هل نهبتم؟ أُحرقتم؟ (…) نقلتم الى مكتبة عامة او خاصة؟ أم إنتهى بكم الأمر الى رفوف البقاليات.."؟. ولسنوات، بحثت عائلة البرغوثي عن مكتبتها بدون ان يكون لديها أي شك في أنها مودعة في أحد اقبية "المكتبة الوطنية الإسرائيلية". "الإسرائيليون" صادروا كل الكتب التي عثروا عليها وبدأوا بأرشفتها، وهذه العملية إستغرقت معهم مابين عشر سنوات اى خمس عشرة سنة كما تُشير بعض المعلومات المُستقاة من مصادر موثوقة.
ولاننسى في هذا السياق، مكتبة مركز الأبحاث الفلسطيني في بيروت، تلك المكتبة التي كانت تضم بين ثناياها آلاف الوثائق والصور والمستندات عن النكبة (ماقبلها ومابعدها) وقد نهابتها قوات الغزو "الإسرائيلي" أثناء اجتياح بيروت صيف العام 1982، ولم تفرج عنها إلا بعد تبادل الأسرى كجزء من الصفقة عام 1983.
وفي محنة مخيم اليرموك، تكررت الحالة إياها، ففي دراما المشهد المأساوي أشير لما وقع مع شخصياً، فقد ضاعت كتبي، وضاعت معها مئات السيديات وآلاف الصور والوثائق، وطارت معها مئات التسجيلات والمقابلات مع رعيل كامل من المناضلين الفلسطينيين منهم على سبيل المثال وليس الحصر مقابلات مسجلة مع الراحل أحمد الشقيري مؤسس منظمة التحرير الفلسطينية، أجريت عام 1979 قبيل وفاته بوقت قصير عندما كنت طالباً جامعياً في سنواتي الأولى. ودمُرت مُجلدات فلسطين الثورة التي كنت أحتفظ بها منذ صدورها وغيرها من المطبوعات الفلسطينية، وضاعت معها مجلدات مجلة فتح وأعدادها الأولى منذ العام 1965، ومئات المُلصقات القديمة ومنها الملصقات بقلم الفحم، والصادرة سنوات الكفاح الفلسطيني المعاصر خصوصاً سنوات البدايات الأولى سنوات الجمر الفلسطيني ومنها صور قوافل الشهداء الأولى وملصقاتهم، وضاع معها تاريخ شخصي ووطني، ملىء ومُتخم بوثائق فلسطينية تكاد توازي موجودات كل ماهو مُكتنز لدى الجهات الفلسطينية العاملة في المضمار الثقافي والتوثيقي والمعرفي. فقد كانت مكتبتي مَرجِع لكل فصيل من فصائل العمل الوطني من أقصاها لأقصاها كان يريد الحصول على مطبوعة ما كانت قد صدرت عنه في سنوات غابرة. فكم هم سَفَلة ومُجرمين وأوغاد هؤلاء المُعتدين، وكم هُم جهلة ووحوش ضارية فعلوا بنا وبمخيمنا أكثر مافعله المغول وهولاكو عند غزو بغداد. لقد سرقوا منّا حتى الذكريات والصور ورائحة حارة الفدائية ومخيم اليرموك ... وللأسف مازال البعض عاجز عن رؤية الحقيقة.
في محنة اليرموك مكتبات كثيرة، سلبت، حرقت، نهبت، وتبعثرت في الشوارع. مكتباتٌ تعودُ ملكيتها لأسماء معروفة ومعلومة من مثقفي اليرموك ورواده، ومن أصحاب الفكر والقلم. المجال هنا لايتسع لذكر التفاصيل.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت