بقلم : تيسير خالد **
نهاية العام 2008 ومطلع العام 2009 شنت اسرائيل عدوانا وحشيا على قطاع غزة ، وفي اعقاب العدوان في عملية حملت اسم " الرصاص المصبوب " فحص المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية في حينه لويس مورينو أوكامبو خلال اكثر من ثلاث سنوات طلب فلسطين النظر في شبهات جرائم حرب ارتكبتها اسرائيل في فلسطين . وفي نيسان 2012 حكم أوكامبو أنه حسب ميثاق روما (مصدر الصلاحية لنشاط المحكمة) ، فقط هي الدول يمكنها الحصول على الصلاحية القضائية للمحكمة .
مر الموقف دون ان يلفت انتباه أحد بأن السنوات الثلاث تلك كانت فيها الرهانات على المفاوضات مع اسرائيل في الولاية الاولى للرئيس الأميركي الأسبق باراك اوباما قائمة وبأنه لم يكن مناسبا الاصطدام مبكرا مع تلك الادارة ، التي كانت تعارض أولا انضمام فلسطين الى نظام روما للمحكمة وتعارض بالتالي اللجوء اليها كملاذ لحماية الفلسطينيين من انتهاكات الاحتلال وجرائمه . سنة بعد أخرى اقيمت قناة غير مباشرة للمفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين فيما ازدادت سخونة النقاش في الاوساط القيادية الفلسطينية حول تخطي الحاجز الاميركي وصولا الى المحكمة . وعندما تبين أن قنوات المفاوضات كانت عبثية ، توجه الفلسطينيون الى الامم المتحدة . وفي تشرين الثاني 2012 اعترفت الجمعية العمومية للأمم المتحدة بموجب القرار 19/67 بفلسطين دولة بعضوية مراقب في الأمم المتحدة.
كان قرار الاعتراف بفلسطين دولة بصفة مراقب في الامم المتحدة يوفر الاساس للتقدم خطوة في اتجاه التوقيع على نظام روما وبالتالي الانضمام الى الدول الأعضاء الموقعة على النظام . غير أن العقدة الاميركية من ناحية والرهان على مسار المفاوضات ، الذي كان يقوده جون كيري من جهة أخرى كان وراء التباطؤ في الانضمام الى نادي الدول الأعضاء الموقعة على نظام روما .
ومع العدوان الوحشي على غزة في عملية ( الجرف الصامد ) عام 2014 ، والذي تواصل اكثر من خمسين يوما وارتكبت فيه اسرائيل جرائم وحشية وتسبب باستشهاد 2322 فلسطينيًا بينهم 578 طفلاً و489 امرأةً و 102 مسنًا ( 60-80عاماً )، وإصابة نحو 11 ألفًا ، (3303) من بين الجرحى مصابون بإعاقة دائمة ، ونحو ألفي يتيم ، أصبحت الرهانات على تقدم في المسار التفاوضي عبثية تماما .
واستنادا لتلك التطورات وتحت ضغط الأحداث والتطورات والقوى توجهت فلسطين الى المحكمة الجنائية الدولية وسلمت إعلاناً في الأول من كانون الثاني 2015 وفق المادة (12)3 ، ومنحت بموجبه المدعية العامة النظر بالجرائم التي ارتُكبت على أرض دولة فلسطين منذ 13 حزيران 2014 ، ثم أحالت الحالة في الأرض الفلسطينية المحتلة بتاريخ 22 أيار 2018 وفق المادة 13 (أ) و14 من نظام روما إلى المدعية العامة للإسراع في فتح التحقيق ، خاصة وأن فلسطين انضمت إلى نظام روما المؤسس للمحكمة في شهر كانون الأول 2014 ، ودخل انضمامها حيز التنفيذ في شهر نيسان 2015
وفي نهاية العام 2019 أعلنت المدعية العامة للمحكمة الانتهاء من مرحلة الدراسة الأولية في الحالة في فلسطين ،وأكدت أن كافة الشروط القانونية لفتح التحقيق قد تحققت وبأنها قد طلبت من الدائرة التمهيدية إصدار قرار للبت في اختصاصها الإقليمي في فلسطين وبما يفتح الطريق امام محاسبة حكام اسرائيل على سلوكهم الاجرامي في أراضي دولة فلسطين تحت الاحتلال ، كما حددها القرار الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 67/19 لعام 2012
وفي حينه قالت بنسودا إنها تطلب باحترام من الدائرة التمهيدية الأولى التأكيد على أن الأراضي التي يجوز للمحكمة ممارسة اختصاصها فيها بموجب المادة 12 “2” (أ) تشمل الضفة الغربية ، بما في ذلك القدس الشرقية وقطاع غزة، أي أن المدعية العامة للمحكمة طلبت بشكل واضح وصريح من الدائرة التمهيدية إصدار حكم في الولاية الجغرافية للأراضي الفلسطينية . موقف بنسودا كان مدروسا بعد ان وصلت إلى قناعةٍ بأن اسرائيل ترتكب جرائم حرب ، وعليه طلبت الإجابة عن سؤال القانوني وعرفت كيف تحمي هذا الملف بقرارر قضائي
وأصدر قضاة الدائرة التمهيدية الأولى للمحكمة قرارهم بشأن طلب المدعية العامة بنسودا بشأن الولاية القضائية الإقليمية على فلسطين ، وقرروا بالأغلبية بموجب المادة 53(1) أنّ الاختصاص الإقليمي للمحكمة في فلسطين تشمل الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967 ، وهي غزة والضفة الغربية ، بما في ذلك القدس الشرقية ، على اعتبار أنّ فلسطين هي طرف في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية . وهكذا استغرق اتخاذ القرار أكثر من خمس سنوات ، ارتكبت إسرائيل خلالها المزيد من الجرائم والانتهاكات والمخالفات للأعراف والقوانين الدولية بحق الفلسطينيين ، وهكذا أعلنت المدعية العامة ، بنسودا ، بأنها تصادق على فتح التحقيق فيما يتعلق بالوضع في فلسطين بعد عملية "الجرف الصامد".
وفي قرارهم تجاوز قضاة الدائرة التمهيدية التصنيفات المختلفة للأراضي الفلسطينية (أ- ب- ج) وأكدوا أن المناطق الفلسطينية برمتها ما زالت حسب القانون الدولي خاضعة للاحتلال العسكري الإسرائيلي. وبالتالي فان المحكمة الجنائية الدولية لها الصلاحيات الكاملة بمباشرة التحقيق في الجرائم التي ارتكبها الاشخاص الطبيعيون الاسرائيليون (عسكريون أو مدنيون) بحق الفلسطينيين وهي على النحو التالي : (جرائم الحرب وجرائم ضد الانسانية وجرائم الابادة الجماعية و جرائم العدوان) وهي جميعا جرائم لا تسقط مع مرور الزمن كما تنص على ذلك المادة(29) من نظام روما لسنة 1998.
ردود الفعل الاسرائيلية على هذه التطورات امتدت على مساحة واسعة من العناوين . بالنسبة لحكام تل ابيب فهم يدعون أن الجيش الإسرائيلي هو الجيش الاكثر أخلاقية في العالم ودولة إسرائيل تعرف كيف توفر الحماية لهذا الجيش . سنقف وراء الضباط والجنود ؛ هذه لاسامية ؛ إسرائيل تتعرض للهجوم ؛ المدعية العامة تحركها كراهية إسرائيل ؛ هذا قرار منافق ولا أساس قانونياً له ، هكذا علا صراخ نتنياهو وغيره من قادة دولة الاحتلال . كانت ردود الفعل هستيرية وعكست حالة هلع من قرار المحكمة الجنائية الدولية بفتح تحقيق رسمي بارتكاب جرائم حرب في الأراضي الفلسطينية المحتلة . ورافق ذلك قلق أميركي مصحوب برفض القرار وطعن في صلاحيات المحكمة . الطرفان الاسرائيلي والاميركي وصفا القرار بأنه " معادٍ للسامية " . ومعروف أن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب حاول الضغط على المحكمة الجنائية الدولية بتوقيع مرسوم في حزيران عام 2020 يقضي بفرض عقوبات على مسئولين كبار في المحكمة ومنعهم وأفراد عائلاتهم من الدخول الى الولايات المتحدة الأميركية في محاولة لاستباق قرار الدائرة التمهيدية وبهدف إجهاضه في المهد .
وهكذا فمن الواضح أن إسرائيل ومعها الادارة الاميركية سوف تواصل ازدراء المحكمة ، والاحتجاج على صلاحيتها والامتناع عن التعاون معها ، كما يفعل نتنياهو وفريقه في الحكم كما في المعارضة الصهيونية ، غير أن ذلك لن يجدي نفعا ، فالضرر المحتمل من وراء هذا السلوك لن يكون ليس فقط قانونيا في استهداف هذا الجنرال أو ذاك الضابط أو ذاك العضو في " الشاباك " او الموظف في الادارة المدنية ، بل إن الضرر سيكون أيضا ضررا سياسيا ، فنطاق القضاء سوف يتوسع ليطال قائمة طويلة من جرائم الحرب ، وهذا بحد ذاته " تدويل النزاع " من خلال المحكمة في لاهاي ، ومنها الى الأمم المتحدة والمحافل الدولية .
مروحة المساءلة لن تقف عند الاشخاص المعنويين الرسميين ، عسكريين ومدنيين ، بل سوف تمتد لتطال قادة مجالس المستوطنات وقادة منظمات الارهاب اليهودي ، التي استوطنت المستوطنات والبؤر الاستيطانية . وعندما يلتقي قائد المنطقة الوسطى ، الجنرال تامير يدعي ، مع " شبيبة التلال "، سكان البؤرة الاستيطانية من أجل التفاهم والتهدئة ، فإنه بذلك يعكس حجم القلق الذي يساور الجيش على هؤلاء الذين اعتاد ان يوفر الحماية لجرائمهم ، هو يعلم أنه يجري مفاوضات مع إرهابيين لم يعودوا شبابا او فتية بل أشخاصا بالغين يتحملون مسؤولية جنائية من ناحية قانونية ، وشاركوا في عربدات منفلتة العقال وقاموا برشق الحجارة على فلسطينيين ، ومتهمون بالقتل وبتهديد حياة فلسطينيين على المفترقات ومحاور الحركة على الطرق على خلفية قومية متطرفة وهذه بنود معروفة من لوائح اتهام تقدم بها فلسطينيون الى المحكمة الجنائية الدولية. ولا يستطيع الجيش ان يدعي بأنه لا يسيطر عليهم لأن القاصي والداني يعرف جيدا أنه تحول في الحد الأدنى الى وسيط بين المستوطنين والحكومة ، وبينهم وبين القانون ، فالجيش هو صاحب السلطة في المناطق المحتلة وقد اختار بتوجيهات وأوامر حكومية العمل خلف جدران محصنة لحماية شبيبة التلال والحاخامات ومجلس المستوطنات "يشع" والحكومة كذلك ؟.
وتعتبر المحكمة الجنائية الدولية الملاذ الأخير للضحايا لأنها المحكمة الوحيدة في العالم التي بإمكانها أن تقر العقاب وأن تقوم بتنفيذه ، خاصة وأن سيادة القانون لديها بمستوى سيادة القانون في أية دولة على مواطنيها . وتدرك اسرائيل ، الدولة القائمة بالاحتلال أن فلسطين قد سلمت المحكمة ثلاثة ملفاتٍ تتعلق بجرائم الحرب وهي ملف " النظام الاستعماري الإسرائيلي "، وملف " العدوان على غزة وحصار وتجويع سكانه " وملف الأسرى بما في ذلك استخدام الاعتقال كوسيلةٍ لقمع السكان المدنيين بشكلٍ واسعٍ ومنهجي مدروس ، وتدرك كذلك أن الخطوة التالية بعد صدور قرار الدائرة التمهيدية الأولى هو إطلاق تحقيق جنائي رسمي في جرائم الحرب وهو ما يجعل عشرات المسئولين السياسيين والعسكريين وحتى الجنود الإسرائيليين على قائمة الملاحقة القضائية .
أخيرا تجدر الإشارة الى أن الرئيس الإسرائيلي رؤوفين ريفلين بدأ برفقة رئيس أركان الجيش الإسرائيلي أفيف كوخافي جولة تشمل المانيا الاتحادية والنمسا وفرنسا وعلى جدول الأعمال محاولة العمل على عرقلة التحقيق الذي قررت المدعية العامة لمحكمة الجنايات الدولية فاتو بنسودا البدء به بعد ان وصلت إلى قناعةٍ بأن اسرائيل ترتكب جرائم حرب في اراضي دولة فلسطين تحت الاحتلال . وتعكس هذه الجولة حجم القلق ، التي تعيشه الاوساط الحاكمة في اسرائيل من المحكمة الجنائية الدولية وشعورا بأن سياسة الافلات من المساءلة والمحاسبة والعقاب تقترب من نهايتها ، الأمر الذي يملي على المدعية العامة للمحكمة فاتو بنسودا مواصلة التصرف بمسؤولية واتخاذ قرار البدء بفتح تحقيق قضائي في جرائم الحرب الاسرائيلية استنادا الى الملفات المتوفرة في المحكمة وعدم ترحيل هذه الملفات الى خليفتها كريم خان ، الذي سيتولى منصب المدعي العام للمحكمة في حزيران القادم كما تراهن دولة الاحتلال الاسرائيلي ومعها الادارة الاميركية .
*** عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية
*** عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت