- عمر حلمي الغول
شهد التاريخ مساومات شتى بين دول وقوى واحزاب من مختلف التلاوين، ولم تمر حقبة او مرحلة تاريخية دون وجود مساومات بين أعداء الأمس، وبغض النظر عن طبيعة التناقضات والحروب البينية الناتجة عنها بين القوى ذات الصلة بهذة المساومة او تلك. والمساوات لا تكون عادة نتاج رغبة الطرفين، انما تمليها ضرورات اللحظة السياسية – العسكرية او الإجتماعية أو الإقتصادية، وتفرض محدداتها النصر والهزيمة أو عدم القدرة على حسم احد الطرفين كفة الصراع، وتخرج حسابات المساومات كليا عن الأيديولوجيا والمعايير الأخلاقية والقانونية، رغم التباين والإفتراق بين مساومة واخرى.
والمساومة كونها جزء من تاريخ شعب أو أمة أو طبقة او حزب، فإنها لا تنفصل عنه، لذا قد تكون مساومة جيدة أو العكس إرتباطا بموازين القوى، ومعادلات الصراع الطبقي الإجتماعي او القومي أو الديني او ما بينهم. ولهذا التاريخ قد ينكء الجراح الوطنية او الإجتماعية، لإنه لا يسير بخط مستقيم، كما قال لينين، او بتعبير آخر، التاريخ كما شَّخص مساره من سبقونا، يسير بخط لولبي دائما. بيد ان الإنحناءات والتعرجات تسير بخط صاعد، ولا تعود للخلف، حتى وإن حدثت إنقلابات وتحولات دراماتيكية في لحظات محددة من مساره.
ونحن معشر اليساريين، إن بقي منا من له علاقة باليسار، عادة نلجأ في لحظات المساومات التاريخية لإستحضار صلح بريست ليتوفسك، التي وقعت بين روسيا البلشفية ودول المحور: المانيا، النمسا- المجر، وبلغاريا والامبراطورية العثمانية في مارس 1918، وتخلت فيها روسيا عن جميع التزاماتها تجاه الحلفاء، واصبحت واحدة من بين إحدى عشر دولة مستقلة في اوروبا الشرقية وغرب اسيا، وتخلت ايضا عن مقاطعة كارس ابلاست لصالح المانيا، وتنازلت عن سيطرتها على اوكرانيا لتركيا، وأعترفت باستقلال القوقاز ... إلخ، وآنذاك اقام اعداء الثورة المناحة الايديولوجية والسياسية وخَونوا لينين والدولة الفتية، وأعتبروا انها استسلمت لمشيئة الاعداء. لكن الامر يكن كذلك، بل العكس تماما، لإن المحدد الأساس للمساومة الضرورة كان حماية الدولة الفتية. ونفس المنطق حكم التوقيع على إتفاق اوسلوا 1993 رغم كل التشوهات والنواقص، التي تضمنها، غير انه كان إتفاقا أملته اللحظة والمصالح الوطنية العليا، وأقول ذلك من موقع الرافض للإتفاق ومخرجاته، لكن هناك فرق بين الرفض والقبول والواقع، بالنتيجة على الإنسان التعامل مع إفرازات المساومات.
وإذا توقفنا امام المساومة الحالية، التي تمت بين حركتي فتح وحماس وبموافقة ومباركة فصائل العمل السياسي الفلسطيني في القاهرة يوم الثلاثاء الماضي الموافق 16 آذار/ مارس الحالي (2021) وتوجت بصدور ميثاق الشرف، الذي تضمن إقرارا عمليا بسلطة الإنقلاب الحمساوية، والتعامل معها ومع ادواتها الميليشياوية (ما يسمى الشرطة)، وتمرير بعض المفاهيم والنقاط المتلبسة وغير المبررة حول "الدين"، والتي تتناقض مع النظام الأساسي (الدستور المؤقت) ووثيقة الإستقلال، بيد ان الهدف كان ومازال إنجاح العملية الديمقراطية وحماية الإنتخابات، وفتح قوس الأمل لتقدم عربة المصالحة، وإعادة الاعتبار لوحدة ولحمة الشعب العربي الفلسطيني. لذا اعتقد ان الميثاق جاء نتاج الحاجة، وفرضته المصلحة السياسية والإجتماعية للشعب.
نعم المساومة فيها نواقص وعيوب، ولكنها مساومة بين طرفين، وعلى كل جانب تقديم تنازل ما لصالح الآخر. وهي ليست المساومة الأفضل، بيد انها مشروعة، وتستجيب لحاجات الساعة، وموازين القوى القائمة، وكون حركة فتح ومعها القيادة الشرعية رفضت منذ البداية اللجوء لخيار الكي، وسلكت مع التوقيع على ورقة المصالحة المصرية عام 2009 طريق الحوار والمفاوضات لترميم الجسور. وأعتقد ان اي مراقب موضوعي تابع مسار المصالحة، أدرك باكرا ان حركة المشروع الوطني وقائدته تعاملت مع قيادة حركة الإنقلاب الحمساوية كمكون اساس في المجتمع، وله ثقله على الارض، ولم تلجأ للخيارات الآخرى لإسباب خاصة وعامة. ولم تكن يوما حركة فتح معطلا للمصالحة، ووقعت على كل الإتفاقات والإعلانات من موقع الإلتزام. لكن الذي عطل ونكث العهد الف مرة كانت حركة الإخوان المسلمين فرع فلسطين.
ورغم الإدراك العميق لماهية وخلفية ودور حركة حماس الإنقلابية غير الإيجابي والمناوراتي من المصالحة، غير ان المصلحة الوطنية تحتم الذهاب إلى اقصى خط الإيجابية بهدف خلق المناخ المناسب والمقبول من قطاع واسع من الشعب، وإعادة الأمل له. من المؤكد الخمسة عشر عاما السوداء الماضية من عمر الإنقلاب، وما حملته من ويلات وفواجع وعذابات لن تنسى، ولكن على الشعب وقواه ونخبه لملمة الجراح والمضي قدما نحو الأهداف الوطنية الكبرى، وإعطاء فرصة تلو الآخرى لردم الهوة السحيقة، التي خلقها الإنقلاب البغيض، الذي شكل بحق اخطر صفحة في تاريخ الشعب.
مع ذلك، لا اضيف جديدا لإبناء الشعب، عندما أعيد التأكيد على المقولة القائلة: عدو الأمس، قد يكون صديق الغد، والعكس صحيح. وبالتالي قراءة التاريخ وتحولاته العاصفة والمؤذية احيانا تتم وفقا لمعطيات الواقع، وإرتباطا بالهدف المراد. لا احد يمكنه المزاودة على شخصي في العلاقة مع حركة حماس خصوصا والتنظيم الدولي للإخوان المسلمين عموما منذ تأسس عام 1928 وحتى اللحظة، وغدا وإلى ما شاء الله، وإلى ان يغيروا ما بانفسهم، ولكن المصلحة الوطنية تملي السير قدما في طريق المصالحة والإنتخابات، واعود لإذكر بما حصل في تجربة الإنتخابات المصرية عام 2012، وخسارة مرشح الإخوان المسلمين للإنتخابات الرئاسية وفوز الفريق احمد شفيق، ومع ذلك المشير الطنطاوي وفريقه الحاكم غلب مصالح مصر، وسلم الحكم للرئيس محمد مرسي العياط الإخواني حماية لمصر. والباقي عندكم
[email protected]
[email protected]
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت