يوم لا يُنسى

بقلم: حسين فاعور الساعدي

حسين فاعور الساعدي
  •    حسين فاعور الساعدي

لا أذكر إلا تاريخ ميلادي ليس لأن ذاكرتي قوية وإنما لأنه مدون في بطاقة هويتي وتحتفل به العائلة كل عام. لكنني أذكر يوما آخر غير مدون هو   يوم الاثنين 22 حزيران عام 1962. في هذا اليوم وفي التاسعة صباحا أثناء درس الحساب، وكنت يومها تلميذا في الصف الخامس، دوى انفجار في مكان بعيد لكنه هز بناية المدرسة. كنا معتادين على سماع  مثل ذلك الدوي الذي تحدثه الطائرات المحلقة في السماء أو الألغام التي يفجرونها لتحطيم الصخور لشق الطرقات في المدينة الناشئة قربنا. لذلك لم أبال كثيرا.

في طريق العودة من المدرسة  في قرية نحف قررت في ذلك اليوم سلوك طريق خلة الديك القصيرة والمستقيمة وليس طريق بئر الخشب الطويلة الملتوية. صعدت الجبل الذي يشبه التمساح الرابض بين جبل الحليصة وجبل الكمانة ووصلت إلى تلك النقطة التي تشرف على خلة الديك ومنها يبدو بيتنا كقلعة في أعلى الجبل تحيطه الأشجار الخضراء. كعادتي نظرت إلى الجبل فلم أر البيت في قمته، لكنني لم أبال لأنني ظننت أن الأشجار قد كبرت وغطته.

واصلت السير واللعب إلى أن وصلت. فلم أجد البيت وإنما وجدت كومة من الحجارة. كنت عندما أصل البيت بعد المدرسة ادخل رأسا إلى غرفة الرجال. ألقي بحقيبتي على الأرض وافتح الشباك الجنوبي المطل على البحر الأبيض المتوسط وجبال الكرمل، الذي منه شاركت في حرب السويس. الشباك المفتوح هو علامة وجودي في البيت.

الأشجار لم تكبر ولم تغط البيت، كما تخيلت، وإنما انكسرت وتناثرت أغصانها. قطوف العنب تناثرت واختلطت بالحجارة، وغطى غبار ألانفجار كل شيء. الشمس غابت من السماء، ولف اللون الأصفر كل المنطقة. زال البيت وبقيت القمة عارية. الحجارة لم تتناثر وإنما استلقت إلى الجوانب كفارس اتكأ متعباً ومثخناً بالطعنات. معظمها ظل متلاصقاً ولم ينفصل. الحجارة تخاف أيضاً لذلك ظلت ملتصقة في مجموعات من حجرين أو ثلاثة أو أكثر.

منذ تلك اللحظات أصبح حزيران بلا شمس، يمنعك من البكاء ويسرق منك الضحك. يسقيك الماء لتعطش، ويمنع عنك الدفء لتحترق. يغريك ليسحقك. ويشدك ليهينك. لا باب للدخول ولا شباك لإثبات الوجود. هكذا أصبح حزيران.... وهكذا ظل إلى يومنا هذا.

كان المنظر رهيبا لا يمكن تصديقه: هذا البيت الذي حمانا من الأمطار والعواصف  ورد عنا الذئاب والثعالب وصمد في وجه الرصاص والقذائف يتحول بهذه السهولة إلى كومة من الركام؟ كيف حدث ذلك؟ ولماذا؟ كيف تصبح البيوت بين ليلة وضحاها كومة من الحجارة؟ كان ذلك أول بيت مهدم أراه ولم أكن اعرف يومها أن هذا المنظر سيتكرر كثيرا في حياتي. اقشعر بدني وشعرت بالبرد الشديد. تمنيت لو أجد ما يحميني أو ما ألوذ تحته لأغلق عيني وأبكي.

المصباح لم ينكسر، ظل يحتضن أربعة من الحجارة ظلت ملتصقة معا بعد أن رفضت الانفصال رغم الانفجار الشديد لتشكل لوحة فنية فريدة. لا مدخل للبيت ولا شبابيك، كل شيء تناثر في كل الاتجاهات. وبدت في الناحية الشرقية من مكان البيت مسطبته الداخلية. كانت ملساء كما لم أرها من قبل .

زالت القلعة البيضاء من قمة الجبل، تكسرت الأشجار ولم تكبر كما تخيلت قبل لحظات، وطأطأ الجبل رأسه .

لم يكن والدي يجيد القراءة والكتابة. كذلك والدتي وأخواتي. لم يدر أحد ما الذي احتوته تلك الورقة التي ألصقت على مدخل البيت ولم يعرها والدي أي اهتمام. ظنها من أوراق ضريبة الدخل أو واحد من إنذارات الإخلاء التي كانت تصل من الجيش بين الحين والآخر .ظلت معلقة أسبوعاً كاملاً. هل البيت هدم لأن الوالد لم يدر ما الذي احتوته الورقة أم لأنه لم يعرها أي اهتمام ؟؟ وهل كان بإمكانه أن يمنع أو يلغي أمر الهدم ؟.

والدي لم يفعل شيئا مع تلك الورقة. كان مشغولاً بقطيعه وبحصاد حقوله. وبعد أسبوع وفي ساعات الصباح جاءت قوات كبيرة من العسكر. رآهم والدي من بعيد يتجهون نحو البيت وكان يحصد القمح يساعده أمي وأخواتي. رمى منجله وركض نحو البيت وتبعته وأمي وأخواتي. الجنود سبقوهم في الوصول إلى البيت.  طوقوه وأخرجوا  فراشنا وملابسنا وكيس الطحين. أمي وأخواتي اقتربن كثيراً من البيت ولكن الجنود منعوهن من دخوله وحاولوا إبعادهن فأخلدن إلى الأرض. طلب الجنود منهن الابتعاد فرفضن فسحبوهن بعيداً كما تسحب أكياس القمامة أو كما كنا نسحب المواشي النافقة من الحظيرة.  أختي الكبيرة توسلت، شكت لهم حالنا وبكت كثيرا، شرحت لهم كيف نقلت أمي مواد المنزل على رأسها. وكيف استغرق بناؤه أشهر طويلة.  حاولت أن تُقّبل يد الجندي لكي لا يهدم البيت.  قالت له إننا فقراء ونحب دولة إسرائيل وأن اليهود هم أبناء_عمنا وأبنا أبينا إبراهيم. لكنها فشلت. أبعدوها ودخلوا البيت. كانوا يحملون أكياس البارود على ظهورهم وبعد لحظات دوى انفجار هائل. تصاعد دخان كثيف وارتفع السقف في الهواء ثم هبط.  زال كل شيء في لحظات وبدأ الجنود المنتصرون بالانسحاب فوقفت أختي أمامهم بعد أن جمعت كل قواها لتقول لهم:  "سنبنيه ثانية عندما يأتي جمال عبد الناصر."

وهز احد الجنود رأسه مجيبا بلغة عربية ركيكة:

  • ناصر ما بيجي وأنت عايش.

نمنا تلك الليلة قرب الأنقاض في العراء تحت السماء والطارق وفي الهواء الطلق. مرة أخرى رأيت النجوم في السماء. نجوم كثيرة لا تحصى ولا تعد، منها القوي الساطع ومنها الضعيف الشاحب الذي شدني إليه كثيرا. حاولت أن أعدها ففشلت. كررت فشلي إلى أن تعبت فنمت.

في الصباح الباكر نهضت الوالدة وبدأت تنخل الطحين من الكيس الذي لم يبعده الجنود كثيرا عن البيت ساعة ألانفجار. صنعت منه عجينا ثم خبزا. الخبز كان يصرك تحت أسناننا بسبب حبيبات الرمل المحطمة بفعل الانفجار والتي اختلطت بالطحين وأصبح من الصعب فصلها حتى بالمنخل. أكلنا شهرا كاملا هذا  الخبز المخلوط بالرمل المحطم. صرير الرمل مزعج جدا تحت الأسنان . هذا الصوت يصعب نسيانه، ويظل يرافقك وتحسه كلما عادت بك الذاكرة وكأنه تسلل إليها.

نمنا الشهر كله في العراء وتعودنا على رطوبة الليالي الصيفية ونداها الذي يشبه المطر.  مراقبتي ومحاولة عدي للنجوم جعلتني أتعرف على بعضها وأتعلق به .

لا اذكر أن أحدا من أبناء القبيلة أو الأقارب جاء لمواساتنا. حتى عمي ترك المكان ونزح إلى مكان بعيد. نمنا قرب الأنقاض إلى أن عدنا إلى الخيمة التي استعارها الوالد من احد الأقارب. كانت خيمة أصلية مصنوعة من شعر الماعز. العودة إلى الخيمة ليس كالخروج منها، هذا وليد ظروف يصنعها الإنسان بنفسه وذاك وليد لحظات تنزل عليه كالصاعقة .

لم ينزل والدي عن القمة، بنا الخيمة قرب الأنقاض، وكأنه يبدأ حياته من جديد. كانت من شقتين بالضبط كبيتنا المهدم. استعارها الوالد من زوج شقيقته الذي امتلك قطيعا كبيرا من الماعز ولذلك تمكن من نسج خيمتين واحدة استعملها في الصيف وواحدة في الشتاء وقد كانت خيمة ثقيلة فهي منسوجة من خيطين أو أربعة وليست كالخيام المصنوعة في مناطق النقب والأردن والمنسوجة من خيط واحد فقط. نقلها الوالد على الدابة وبصعوبة كبيرة أوصلها قمة الجبل بسبب وعورة الطريق.

اقتلع والدي نباتات البلان ورصها الواحدة إلى جانب الأخرى فكونت طبقة سميكة فرش فوقها ما كان عنده من حصر بالية لكنها كافية لمنع أشواك البلان من اختراقها والوصول إلى أجسادنا عند النوم. نمنا على الحصر المفروشة فوق فرشات البلان.

كانت مياه الأمطار في فصل الشتاء تجري من تحتنا دون أن تصل أجسادنا. دفنا رؤوسنا تحت الأغطية وحاولنا الاستماع لخرير الماء تحتنا. ما أجمل أن تحس بالدفء بينما المياه تجري من تحتك. إنها لحظات جميلة تفوق كل خيال ولم يحظ بها  إلا من هدمت بيوتهم وناموا على التراب.

لم يكن الفرق كبيرا بين المبيت في الخيمة وبين المبيت في بيتنا المهدم. ففي كلا الحالتين كنا ننام على الأرض: في الخيمة على التراب مباشرة وفي بيتنا المهدم على المسطبة. بل إن المبيت في الخيمة يظل أنقى وأسمى فهو كالمبيت في الرحم .

والدي تجهم وجهه لكنه لم يغير نمط حياته. ظل يشغل نفسه في النهار برعاية الماشية ووقت القيلولة باقتلاع الصخور من أرضه المزروعة بأشجار الزيتون.

في القبيلة اتفق الجميع أن الوالد هو السبب في هدم البيت لأنه لم يوافق الحاكم العسكري على كل شيء، كما يفعلون هم، بل كان يناقشه ويعارضه في الكثير من الأمور .

أهل القرية اتفقوا جميعا أن الذنب ذنب والدي الذي تجرأ على الحاكم العسكري. منهم من قال إنه قال له:

-  أنتم يا خواجة حلوين. لكنكم عوج مثل قرن الخروب.

ومنهم من قال إنه قال له :

-  من ضل ما ظل

ومنهم من زعم أنه قال له:

-  من لا ارض له لا عرض له.

وغير ذلك الكثير من الأقاويل والإشاعات. لم يساعده احد من الأقارب في محنته هذه. كانوا يتهمونه بالغنى الفاحش رغم فقرنا المدقع. أكثروا من الهرج والمرج والقيل والقال وتركوه وحده مع أولاده في مواجهة واقعه الجديد.  

بعد الهدم بعدة أيام وعلى أنقاض البيت المهدم رأيت والدي يقف مع رجل طويل القامة يبدو غريباً عن البيئة  ببشرته البيضاء التي لم تحرقها الشمس مثل بشرة من أراهم من أبناء القبيلة. من نظارته الأنيقة يبدو انه ابن نعمة. ترافقه مجموعة من الرجال. الرجل الطويل تقدم من والدي وأعطاه صرة صغيرة قائلا له :

-  هذه مساعدة بسيطة من الحزب الشيوعي

-  أنا يا سيد توفيق أحارب دولة.  أدافع عن أرضي ....ومن يدافع عن أرضه لا

يأخذ النقود. أعطها لغيري فقد يكون أحوج لها مني .

لم يفلح عضو الكنيست توفيق طوبي بإقناع والدي ليأخذ المساعدة لأن والدي أصر على موقفه. ذهب وفد الحزب الشيوعي وبقي والدي يتأمل ركام بيته. رأيته يمسح تحت عينيه بطرف إبهامه. والدي يبكي ؟ قبل قليل كان يتحدث بأعلى صوته  وكأنه يخطب. كانت معنوياته عالية جداً. صوروه وصافحوه واحداً واحداً.  فلماذا يبكي ؟ لا، هو لا يبكي فالرجال لا يبكون. الرجال يموتون، يولدون، يغيبون، يقعدون على الخازوق إلى الأبد لكنهم لا يبكون.

لم أتحمل الموقف فلذت وراء الأشجار وحاولت البكاء، فأنا لست رجلا، أنا ما زلت طفلا ويحق لي البكاء مثل كل الأطفال. لكن ماذا سيقول والدي؟ ماذا ستقول أمي وأخواتي؟ ألا يكفيهم ما بهم ؟ لا لن اخذلهم في هذه اللحظات.

 كبرت الصخرة في الحلق وتنفسي ازداد صعوبة. شيء يخنقني دون رحمة. ليتني أبكي وأرتاح! .

 

***

حسين فاعور الساعدي

 

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت