- كتب الأسير الأديب كميل أبو حنيش من زنزانته في سجن ريمون الصحراوي..
قبل يومين من تحرره من السجن، هاتفت صديقي العزيز رشدي أبو مخ (صالح) في سجن النقب، لأهنئه سلفًا بالتحرر بعد خمسة وثلاثين عامًا في الأسر، كانت تتملكني عددًا من المشاعر المتضاربة: المحبة العميقة التي أكنها له والتعاطف الصادق معه، والسعادة لقرب تحرره، والغضب من سفالة دولة الاحتلال التي أصرَّت أن تكون في ذروة ساديتها حتى يومه الأخير في السجن، وأثناء المهاتفة ضحكنا وسخرنا كعادة صالح الذي يتقن فن السخرية حتى في أحلك الظروف، قال جملة تلخص متاعب السنين وقسوة القيد ونذالة العدو: "عندما يسألني الناس عن المدة التي أمضيتها سأقول اثنا عشر يومًا وخمسة وثلاثون عامًا".
كاد قلبي يتمزق ألمًا وتعاطفًا وغضبًا من سلوك احتلالي ينم عن الحقد الأسود وعن عقلية مريضة وعدوانية مسكونة بكل أشكال الخسة والغدر والوحشية.
اُعتقل المناضل الكبير رشدي أبو مخ، والمعروف بالساحة الاعتقالية باسم صالح أبو مخ، في العام 1986م، وحكم عليه بالسجن المؤبد، ومنذ سنوات اعتقاله الأولى أصيب بمرض السكري الذي أنهكه لعقود، ولكنه قاوم الداء بالإرادة والسخرية والابتسامة، أمضى صالح سنوات طويلة في السجن، وتنقل بين مختلف السجون الصهيونية، وبعد مرور قرابة العشرين عامًا، حُددت مدة محكومية المؤبد بخمس وثلاثين عامًا، ورفض الاحتلال الإفراج المبكر عنه، كما رفض الإفراج عنه في كافة دفعات الإفراجات وصفقات التبادل، ليمضي صالح مدة محكوميته حتى اليوم الأخير، وكان من المفترض أن يتحرر في الرابع والعشرين من آذار 2021، كان هذا التاريخ مقدسًا لصالح، انتظره بفارغ الصبر الإسطوري وقبل تحرره بيوم واحد، قرر العدوان أن يستل من جعبته مفاجأة غير سارة لصالح:
- "لقد ارتكبت مخالفة سير عام 1986 قبل اعتقالك بأسابيع ولم تسدد ثمن المخالفة".
أهداه العدو اثنا عشر يومًا تُضاف إلى المدة التي أمضاها، كتم صالح غضبه وحزنه ولم يسمح للعدو بإفساد فرحته مُصرًا على السخرية والابتسام وسيمضي الأيام الاثنا عشر الجديدة كأنها استحالت إلى جبال السنوات...
لكنه تحرر...جاء الخامس من نيسان، موعد الحرية الجديد ليبزغ صالح كالشمس من عتمة السجن الحالكة...
لا نعرف ما هي المفردات التي تليق بصالح في يومه الأسعد على الإطلاق، أنقول: تحرر؟ أم عاد؟ أم وُلد من جديد؟ أم استقال أخيرًا من لقب الأسير وجنرال الصبر؟ أم انبعث من عالم السجن إلى عالمٍ آخر ينبض بالحياة؟
سترتبك اللغة ولهي تحاول أن تنقب في جعبتها بحثًا عن مفردة تليق بهذا المشهد المهيب...لن نحتاج إلى اللغة يا صالح، وتكفي بلاغة هذا السطوع، ولن تحتاج إلى تأويل اسمك ومقارنته مع أي صالحٍ آخر، لم تُخرج لنا ناقة من الصخر لنصدق نُبوَّتِك ولكنك كنت نبيًا في الصبر والصمود والكبرياء. فلتخسأ الصخور فأنت أشد صلابةً منها، ويكفيك شرفًا أنك طوَّعت الزمن وروضته وامتطيت صهوته، ومضيت وسط دوامة الأيام القاسية، مبتسمًا ساخرًا لتعلمنا كيف نقهر عدونا بابتسامة..يانبي الابتسامة وفارس السخرية رغم الداء وقسوة الأغلال.
سنفتقد شتائمك التي كانت أطهر من بذاءة هذا الزمان، فلطالما ضحكنا من فرط بلاغتها البذيئة، فلا أحد ينافسك ويتفوق عليك يا صديقي في فن استحضار الشتائم والسخريات.
اشتم يا صديقي، ولا تتوقف يومًا عن الشتم، ولا تنسى أن تبقي انشراح وجهك وابتسامتك المجنونة، اشتم هذا الزمن الدنيء، اشتم شعوبنا وجيوشنا وأنظمتنا وأحزابنا وحكوماتنا ومنابرنا ومنظماتنا وهيئاتنا، اشتم هذا العالم الموبوء بداء البرودة واللامبالاة، واسخر من الخطباء والشعاراتيين وعشاق الفضائيات وتجار السياسة والكلام ومن مؤسسات تسترزق على معاناتنا، اسخر من أولئك الذين تركوك كل هذه السنوات ولا يتقنون سوى اللغو والتنظير، ولكن إياك أن تشتم دولة الاحتلال، فهي دولة بحد ذاتها شتيمة، فمنذ متى تحفل الأشياءالنتنة بالشتائم..منذ متى يحفل السفلة بالشتائم..لا تشتمهم ولكن يكفي أن تقهرهم بابتسامتك الشامخة، واسخر من أحد القادة من أبناء جلدتك من سيمثل شعبك في برلمانهم، ذلك الصبي الغر الذي تفاخر أمام العدسات بأنه لم يزر أسيرًا في السجن ولم يصافح أسيرًا محررًا، كمن يبعد عن نفسه تهمة، وأعلن مغازلًا آسريك، مذكرًا إياهم بأننا وإياهم بشرٌ وخلقنا من نفسٍ واحدة.
كلا يا صالح...فأنت تعرف أن آسريك كل هذه السنوات لم يكونوا بشرًا، بل وحوشًا تتلذذ بعذابات البشر.
فهل يستوى القاهر والمقهور، والسجان والسجين، والقاتل والمقتول. كلا يا صالح لسنا جميعًا بشرًا متساوين، اقهرهم جميعًا بابتسامتك وواصل سخرياتك منهم جميعًا كلنا سعادة من أجلك في يومك الموعود وشعبك الوفي الذي استقبلك بالدموع والشموع والقبلات وأحضانه الدافئة وحدهم من يستحقون منك كل المحبة والوفاء..
انتهت رحلة العذاب يا صديقي، وآن لك أن تحيا الحرية، معشوقتنا الأزلية الأبدية، ولا تأسف على شيء ولا تعتب على الزمن فقط ابقى صالحًا الذي عرفناه..صالح القوي والطيب والشامخ والساخر والمبتسم..
ودمت لنا يا صالح..ومباركٌ لك هذا السطوع...
الأسير كميل أبو حنيش
سجن ريمون الصحراوي/ مركز حنضلة
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت