- د. أحمد ابراهيم حماد
عرف الانسان الحرب النفسية منذ وجوده على ظهر الأرض، حيث استخدم أساليب شتى ووسائل مختلفة لحماية نفسه، وتأمين الغذاء الذي يكفل بقاءه على قيد الحياة. ولم تقتصر الحرب النفسية على مجتمع دون آخر، فجميع المجتمعات بما فيها المجتمعات البدائية استخدمتها لتحقيق أهدافها سواء في السلم أو الحرب.
وتشير العديد من الدراسات أن اليهود اكثر من أستعمل الدعايات بكل أساليبها وأنواعها العاطفية والدمج والسياسة الاجتماعية والعقلانية وغير العقلانية وغسيل الدماغ وحتى انه من الصعب أن تصنف الدعاية اليهودية في إطار واحد فهي تستخدم كل الأساليب بنفس الوقت.
ولا شك أن "دولة الاحتلال الصهيوني" كانت من أكثر الدول التي اهتمت بهذا الجانب، بل أن اهتمامها بهذا الجانب يعود الى ما قبل قيام كيانها الغاصب وبالتحديد إلي البدايات الأولى للحركة الصهيونية التي أدركت أهمية الدعاية ودورها في تحقيق أهداف الصهيونية.
وقد استفادت الحركة الصهيونية العالمية من أساليب الحرب النفسية التي استخدمت في الحرب العالمية الأولى والثانية، وقامت بتطويرها من خلال ما يعرف (بالدعاية الصهيونية) التي انبرت بالدفاع عن ما أسمته: "الوجود الصهيوني في أرض فلسطين"، حيث بدأت الحرب النفسية الصهيونية مع المؤتمر الصهيوني الأول، ومشروع إعلان دولتها من خلال الترويج لأساطيرها: "الحق التاريخي وأرض الميعاد"، و"أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" و"العداء للسامية" و"الجنس اليهودي المميز"، و"التحضر اليهودي" و"بربرية العرب وفوضويتهم" و"العربي لا يأتي إلا بالقوة"، وغيرها من المقولات والأساطير. المنظمات الصهيونية وقبل إنشاء "إسرائيل" ارتكبت المجازر ونشرتها بكل الوسائل من أجل دفع الفلسطينيين إلى الهجرة.
وبرعت دولة الاحتلال في استخدام الحرب النفسية في كل حروبها مع العرب، وفي أوقات السلم أيضاً، حيث تزامنت العمليات العسكرية والمجازر الوحشية التي نفذتها دولة الاحتلال مع سياسة الحرب النفسية وذلك من خلال تسريب أخبار المجازر على نطاق محلي كي تصل أنباء القتل الجماعي والاغتصاب والهدم إلى الفلسطينيين، وذلك كي تزرع في نفوس السكان حالة من الهلع والذعر ليقوموا بإخلاء قراهم حفاظا على أرواحهم ومتاعهم وأعراضهم.
واعتمدت الحرب النفسية الإسرائيلية على مجموعة من الأسس في مقدمتها الاعتماد على مجموعة من الخصائص مثل: زرع مفاهيم الخوف والدمار في نفس الجانب المعادي بالإضافة الى ابراز تأثير القوة الصهيونية وتعميقها لدى الجانب المعادي، وكذلك صنع سمات سلبية للجانب المعادي من خلال استخدام مصطلحات في صياغة مواد الحرب المعلنة مثل: استسلام بعض "المخربين"، وخلخلة المعاني والمفاهيم القومية لدى الطرف المعادي والعمل على تدميره أو إضعافه، وتزيف التاريخ واختلاق الأساطير.
ويؤكد العديد من الباحثين في هذا المجال أن عملية التهجير القسري للفلسطينيين قد تمت بشكل مبرمج ومخطط بهدف "تطهير" فلسطين من سكانها العرب، وقد واكبت عملية التهجير القسري حملات مكثفة من العنف والإرهاب والمجازر والتي شكلت إحدى الأسباب الرئيسية لهجرة عرب فلسطين قراهم ومدنهم.
ولاشك أن مجزرة دير ياسين التي ارتكبتها العصابات الصهيونية بحق الفلسطينيين الأمنين في قرية دير ياسين العام 1948م وما سبقها ورافقها من أساليب نفسية كانت نموذجاً على ما تقوم به العصابات الصهيونية ودولة الاحتلال لتحقيق أهدافها وتطلعاتها على حساب شعب آخر، حيث أرادت المنظمات اليهودية من هذه المجزرة أيضا إرهاب الفلسطينيين في المناطق الاخرى ودفعهم إلى مغادرة بلداتهم وقراهم والرحيل منها توطئة للسيطرة عليها. فالهدف الرئيسي لهذه المجزرة توجيه رسالة رعب إلى القرى الفلسطينية الأخرى، ولذلك فليس صدفة أن هذه المجموعات الاجرامية الصهيونية حاولت تضخيم ما فعلته ليكون وقع الرعب على القرى الفلسطينية الأخرى كبيرا.
واستخدمت العصابات الصهيونية في هذه المجزرة البشعة مختلف الأسس للحرب النفسية حيث استخدموا فيها الذبح والقتل والإبادة الجماعية لأهالي القرية ليلاً وبدون سابق إنذار وجمع الجثث في بئر القرية. وليس المقصود أهالي هذه القرية بالذات، ولكن المغزى هو بث الرعب في سكان القرى المجاورة، وكان العدو أوحى لهم بعدم الململة أو القتال وتولت أجهزته الإعلامية الخطوة القادمة التي تدعو القرى المجاورة إلى الرحيل تحت وطأة الذعر والخوف الجماعي.
ولم يقتصر هذا السيناريو على دير ياسين بل امتدت الى قرى ومناطق أخرى، فكانت مجزرة كفر قاسم التي استخدمت فيها العصابات الصهيونية ذات التكتيك مما كان له أبلغ الأثر في التأثير على أبناء الشعب الفلسطيني الأعزل، وتشريده من أرضه اذ تشير تقديرات فلسطينية إلى أن 531 قرية ومدينة فلسطينية قد طهرت عرقيا ودمرت خلال نكبة العام 1948 .
وفى عصرنا الحالي تعددت أساليب الاحتلال الإسرائيلي خلال حروبه واجتياحاته المتكررة على شعبنا الفلسطيني في غزة خلال العدوان، بين الإشاعة، والتضليل الإعلامي، والصدمة النفسية، واستخدام العملاء، وكانت تسعى إسرائيل من خلال الحرب النفسية أثناء العدوان، إلى التأثير على الرأي العام الدولي، بإقناعه بأنها اضطرت للعدوان على قطاع غزة من أجل حماية مواطنيها من صواريخ المقاومة، وفرض نفسها في المنطقة العربية، كجزء من مشروع محاربة الإرهاب، مستغلة الحالة العربية والدولية في ذلك، إلا أنها فشلت في تحقيق أهدافها من الحرب النفسية، بسبب وعي المتلقي الفلسطيني، وتوعية الإعلام المقاوم للمواطنين في كيفية التعاطي مع الحرب النفسية الإسرائيلية.
في ضوء ما تقدم، وبعد استعراض الخطورة الكبيرة التي تمثلها الحرب النفسية واستهدافها للفلسطينيين قديما وحديثا بجميع مكوناتهم، والاضرار التي لحقت بالشعب الفلسطيني بسبب استخدام هذه الاساليب، يجب ان نقدم جملة من المستلزمات والمحددات التي يجب ان يلتزم بها أصحاب القرار من مسؤولين ومهتمين بالشأن الفلسطيني.
لقد برهن الشعب الفلسطيني في الماضي والحاضر أنه على مستوى عال من الوعي والادراك والتصميم على بلوغ غايته مهما اشتدت شراسة الحرب النفسية الإسرائيلية والغربية المتحالفة معها. ولاشك أن تتبع مسارات هذه الحرب وفضح أغراضها ومراميها ووقاية شعبنا الفلسطيني من تأثيراتها من الأهمية التي تتوجب ضرورة الاهتمام بها . ولقد أثبتت تجارب الحروب الماضية العالمية منها والمحلية بأن إرادة الشعب في الكفاح والصمود ومناعة المقاتلين وحصانتهم المعنوية والنفسية ضد الدعاية المعادية، إنما ترتبط بقوة العقيدة التي يؤمنون بها وبقناعتهم بعدالة القضية التي يقاتلون من أجلها. كذلك لابد من الاستفادة من مراكز البحث الرصينة ومن النتاج العلمي في مجال استخدام أساليب الحرب النفسية العلمية وتوظيفها بشكل علمي دقيق لمواجهة اساليب الحرب النفسية المعادية. والعمل على اعتماد اساليب نفسية فلسطينية رصينة ومطورة في التعامل مع تكتيكات واساليب الاحتلال الإسرائيلي اتجاه شعبنا الفلسطيني تعتمد على تخطيط علمي مسبق. اجراء دراسات وبحوث مستمرة في الإعلام والحرب النفسية المتخصصة بالشأن الفلسطيني / الإسرائيلي، والرجوع بهذه الدراسات إلى حقب قديمة للاستفادة من اخطاء الماضي وعدم الوقوع فيها مرة أخرى وبأساليب علمية وموضوعية. مع التأكيد على اهمية خلق حالة توعوية مستمرة تهدف لتوعية الجمهور الفلسطيني بأهمية وخطورة وسائل الاعلام الإسرائيلي وما تنشره حول المجتمع الفلسطيني.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت