- عمر حلمي الغول
لا أضيف جديدا للقارء والمتابع العادي عندما أجزم ان ازمة اليسار الفلسطيني جزء لا يتجزأ من الأزمة العامة للمجتمع وللمشروع الوطني، وإن كانت أزمته (اليسار) أكثر عمقا من باقي القوى في المشهد السياسي والحزبي العام. وهذا الإستنتاج ليس مفتعلا، ولا إسقاطا رغبويا، ولا ردة فعل على عدم تمكن قواه الحزبية من تشكيل قائمة واجدة للانتخابات القادمة، وإن كانت واحدة من تجلياته، وعنوانا لعمق الإفلاس في اوساط الفصائل اليسارية، وغياب الرؤية العلمية لمواجهة التحديات الداخلية والوطنية العامة وحتى على المستويين القومي والعالمي. ورغم الأزمة العميقة في قوى اليسار، تجد بعضها يعيش حالة تضخم مفتعل، وبعضها لا يمت لليسار بصلة إلا بما كان عليه ذات يوم في إحدى قواه، وبعضها بقي بالإسم، لكنه لا برنامجا ولا سلوكا ولا علاقاته التحالفية توحي بأنه جزء من اليسار، وذهب بعضه اسيرا للغوغائية والشعاراتية الدونشكوتية، حتى تماهي مع قوى الإسلام السياسي والأكثر عدائية للمشروع الوطني تحت مفاهيم ومقولات لا تدعمها حقائق التاريخ، ولا تجربة الحاضر، وانما يعود السبب فيها إلى الإفلاس الفكري. وبالتالي لم تتمكن تلك القوى من اقصاها إلى اقصاها من تحقيق الحد الأدنى من التحالف فيما بينها، وكل منها غنى على ليلاه. رغم انها أعلنت عن الحاجة إلى وجود قوة ثالثة، والتأصيل لخلق إطار قادر على تشكيل رافعة للمشروع الوطني في كل المنابر والمستويات، ويخترق منطق القوتين المقررتين في الساحة الفلسطينية، ويعلي من شأن القطب الثالث بمضامينه الفكرية والسياسية والإجتماعية والقانونية. لكن المنطق الذي يقول : فاقد الشيء لا يعطيه ينطبق تماما على اليسار الفلسطيني.
وكما يعلم الجميع، ان ازمة اليسار الماركسي ليست جديدة، انما هي ازمة فكرية وسياسية وتنظيمية وكفاحية، وأزمة تجربة تاريخية فاشلة بامتياز. بإختصار ازمة هوية، فقيادات اليسار الفلسطيني حيثما وجدت على ارض فلسطين التاريخية أو في الشتات والمهاجر لم تعد تعي دورها، ومكانتها، ومسؤولياتها تجاه الذات الحزبية، ولا اتجاه المشروع الوطني، ولا اتجاه الشعب، ولا اتجاه التحالفات الوطنية والقومية والأممية. وتعمقت الأزمة بعد إنهيار الإتحاد السوفيتي مطلع تسعينيات القرن الماضي، او بتعبير ادق سابقة عليه، لإن الإنهيار وإفلاس مرحلة الإشتراكية الدولانية (منظومة الدول الإشتراكية – مجموعة حلف وارسو) جاء نتاج ازمة وصلت ذروتها بالموت المعلن لها مع ضربة اول معول في جدار برلين في 13 يونيو 1990، فتدحرجت وتهاوت قلاع المنظومة كلها كأحجار الدومينو. وفي اعقاب ذلك سقطت الغالبية العظمى من الأحزاب والقوى الشيوعية في مستنقع التيه والذوبان، وارتمت في احضان الرأسمالية، أو في أحضان أنظمة عالمية ثالثية غبية ومنزوعة الدسم، أو مات بعضها وتفكك إلى احزاب وقوى عدة بلا ملامح، ودون محددات فكرية / نظرية واضحة، وحدثت عمليات إرتداد هائلة، وهذا اساسه الإفتقار للاستقلالية اولا، وغياب الانتماء الفكري الحقيقي للمدرسة الماركسية اللينينية، أو حتى الماوية أو الكاستروية الجيفارية ثانيا، وللركون الكلي على الحزب والدولة السوفيتية، وعدم التمكن من تأمين حماية الذات الحزبية والفصائلية، وإنتفاء إرادة البقاء والدفاع عن المشروع الفكري الاجتماعي الإقتصادي، والوقوع في دوامة المساومة مع قوى الثورة المضادة، وأعداء اليسار، وإستسهال إستساغة الفكرة والتعايش معها، وصولا للإنحلال والإضمحلال تحت عناوين عدة.
ومن بقي من قوى اليسار، بقي شكلا دون اي مضمون حقيقي لليسار. ولو أخذنا اليسار الفلسطيني لوجدناه نموذجا بائسا لما تقدم. نعم حافظت قوى اليسار على وجودها الشكلي، لكنها عمليا غائبة عن الوعي، وفي حالة موت اكلينكي، ولم تستيقظ حتى الآن إلا ببعض البيانات والتصريحات، التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ورغم الايحاء بوجوها، إلآ انها في ميدان الفعل باتت ذات دور هامشي جدا. ومحاولات بعض قوى اليسار تأكيد الذات بتنفيذ بعض العمليات الفدائية، مازالت قاصرة وعاجزة.
وتزداد ازمة اليسار سطوعا في محاكاتها الانتهازية للمشهد الفلسطيني، وعدم قدرتها على تبني مشروع سياسي اجتماعي يؤهلها لإستعادة حضورها الجدي كقطب مؤثر في صناعة القرار، لإنها لم تتمكن من مكاشفة الذات، ووضع اليد على مكمن الأزمة، وإصرارها على الإدعاء باوزان وحجوم تتنافى مع ابسط شواهد الواقع. وستكون نتائج الإنتخابات القادمة، إذا تمت ابرز محطة للكشف عن خواء وإفلاس اليسار الفلسطيني، وهو ما يستدعي من قوى اليسار التاريخية مراجعة الذات، والسعي الجدي للخروج من نفق الأزمة البنيوية، او ليعلنوا صراحة، ان لا صلة لهم باليسار، ويسموا انفسهم بما يتناسب وخطابهم الفكري والاجتماعي.
[email protected]
[email protected]
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت