- بقلم: بدر أبو نجم
يشهد النظام الدولي الحالي تحولات كثيرة بعد تراجع دور الولايات المتحدة الأمريكية في العالم، بخاصةٍ التحولات التي ظهرت على الصعيد الاقتصادي والسياسي؛ إذ بات من الصعب نوعاً ما، تحديد ما إذا كان النظام الدولي الحالي أحادي القطبية بقيادة المتحدة، أم أن هناك دول أخرى ماضية في تجديد النظام الدولي، أو تشارك المتحدة في صنع القرار العالمي، وتتقاسم معها النفوذ، لتنضم إلى قمة النظام الدولي، وإنهاء الهيمنة الأمريكية على العالم.
لا شك أن دور الولايات المتحدة في العالم، لم يعد كما كان إبان إنهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، حيث إن المتحدة بعد إنهيار السوفيتي تفردت في صنع القرار العالمي من خلال إنشاء المؤسسات الإقتصادية الدولية، والمنظمات الإقليمية التي عملت تحت رعايتها، وبالإنسجام مع مصالحها، وبالتالي تضمن أمريكا في ظل هذا المناخ حماية مصالحها في العالم، لتتفرد على قمة النظام الدولي.
إن ولاية دونالد ترامب أثبتت فشلها، بسبب تعاملاتها الخارجية مع الدول، وإخلال التزاماتها بالاتفاقات الموقعة معها، بالإضافة إلى اتخاذ العديد من الإجراءات التي أثرت على مكانة أمريكا، كرفع شعار "أمريكا أولاً"، والتركيز على القمع والتهديد للعالم، وتناسيها استخدام القوة الناعمة؛ على عكس الصين التي جنت الكثير من المصالح لها بسبب دبلماسيتها الناعمة مع العالم. ناهيك عن قيام ترامب بالإنسحاب من المنظمات الدولية المتعددة الأطراف لتعارضها من وجهة نظره مع الأمن القومى الأمريكى. بالتالي فإن سياسة المتحدة في السنوات الأخيرة جذبت لها الكراهية، ما أدى إلى محاولة القوى الصاعدة كسر هيمنتها باستخدام القوة الناعمة مع الدول.
في ظل تلك المعطيات، لا يمكن لنا الجزم بأن دور الولايات المتحدة قد انتهى في تفردها على قمة النظام الدولي، فيمكن وصف واقع النظام الدولي الحالي بأنه نظام دولي يتسم بهيمنة أمريكا على القضايا التي ترتبط بمصالحها، والتي تُصنف بالخطوط الحمراء بالنسبة لها، أو تعتبرها مصالح استراتيجية وحيوية لا يمكن التنازل عنها؛ أما باقي المصالح حول العالم فيمكن لأمريكا أن تسمح بمشاركة الدول الأخرى الصاعدة معها، كما يحصل في بحر الصين الجنوبي التي تهيمن عليه الصين والولايات المتحدة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الصين لها حصة الأسد من البحر.
إضافة إلى ذلك، فإن روسيا تقاسم أمريكا المصالح في سوريا، وما يحصل على الأراضي السورية من تدخلات من قبل عدة دول، لخيرُ دليلٍ على ذلك، كما يحصل أيضاً من تقاسمٍ للمصالح في اليمن وليبيا وغيرها من الأقاليم حول العالم، والتي باتت المتحدة في تلك الأقاليم دولة من عدة دول تتقاسم فيها المصالح. وهنا إشارة لا يمكن التغاضي عنها في أن النظام الدولي بات يتجه نحو النظام المتعدد الأقطاب.
ربما من المبكر الحديث عن أن الولايات المتحدة ماضية في الإنحدار عن قمة النظام الدولي الحالي، خصوصاً أنه لا يوجد دولة في العالم تنافسها عسكرياً وهذا قد يمد في عمر النظام الدولي الحالي أكثر؛ في ذات الوقت فإن أمريكا تسعى بكل إمكانياتها للبقاء على قمة هرم النظام الدولي، من خلال التفرد بقراراتها حتى وقتنا الحاضر.
برزت إرهاصات تهدد النظام الدولي من خلال ظهور الجماعات المسلحة حول العالم، وتستهدف المصالح الأمريكية في تلك المناطق والتي لم تستطع كبح جماحها عسكرياً؛ إضافةً إلى صعود بعض القوى اقتصادياً وعسكرياً، مثل روسيا والصين، اللتان أصبحتا تحركان قواتهما إلى مناطق أخرى حول العالم من أجل الحفاظ على مصالحها، وهنا بدأ يساور الولايات المتحدة توجساً من تأثر مصالحها في تلك الأقاليم.
يشهد النظام الدولي الحالي تطورات متناقضة، ومن الصعب التنبؤ بوجود نظام دولي يتربع على قمته قطب واحد، أو قطبين، أو حتى تفرد الولايات المتحدة لأمد بعيد على قمته.
في خضم تلك التطورات التي تشهدها بعض مناطق العالم، انتهجت أمريكا سياسة القوة الخشنة من خلال إعادة توجهاتها في سياساتها الخارجية، وظهر ذلك جلياً في عهد دونالد ترامب الذي انسلخ عن الكثير من الاتفاقات العالمية، وانشغل بحل المشكلات الداخلية لبلده، بل وأصبحت المتحدة تعترف بمصالح القوى الصاعدة وتتقاسم تلك المصالح معها كما ذكرنا آنفاً.
القوى الصاعدة مثل روسيا والصين لها مصالح في مناطق عديدة من العالم، ولا تُخفي هذه الدول أنها تطمع في الصعود على قمة النظام الدولي، سواء متفردة أو ضمن دول متعددة الأقطاب لقيادة نظام دولي جديد، ناهيك عن دول أخرى صاعدة اقتصادياً مثل جنوب افريقيا وتركيا وغيرها، وبالتالي فإن الولايات المتحدة في نهاية المطاف ستجد نفسها مجبرة في أن تكون جزء من النظام الدولي الجديد، والتشارك في المصالح مع تلك الدول.
كل تلك المعطيات الواقعية ستُرسي بالولايات المتحدة إلى أن تكون واحدة من عدة لاعبين ستشارك في رسم نظام دولي جديد، وبالتالي قد نشهد نظام دولي متعدد الأقطاب، يشمل العديد من الدول الاقتصادية كروسيا، والصين، واليابان وغيرها، أو نظام دولي لا قطبية فيه، وهذا احتمال وارد بسبب كثرة صعود الدول من نواحي اقتصادية وعسكرية، وتنامي الجماعات المسلحة التي أصبحت تحتل مناطق في الدول، وتُخل من أمنها وتزعزع استقرارها، وفي كثيرٍ من الأحيان تطيح بها، وبالتالي تهديد المصالح الأمريكية والمساومة مع تلك الجماعات لإيجاد حلولٍ تضمن المصالح المشتركة في بعض الأحيان.
إن أي نظام دولي مهيمن لا بد له أن يخضع إلى الدورة التاريخية التي تحدث عنها ابن خلدون في مقدمته؛ أي أن الدولة المهيمنة تولد وتتطور ثم تصبح في مرحلة الشباب، ثم تعود وتشيخ، ثم تموت.
مستقبل النظام الدولي غير واضح في ظل صعود الكثير من القوى، فلا يمكن الجزم بأن النظام الدولي الجديد سيكون أحادي القطبية، أو ثنائي اللقطبية.
إن تصارع القوى الصاعدة، وتدخلاتها في سيادة الدول الضعيفة الأخرى التي تشهد حالة من عدم الاستقرار، يُنذر بأن النظام الدولي الحالي آخذٌ في التغير، لكن هذا التغير لا يمكن التنبؤ بشكله أو طبيعة القوى التي ستهيمن عليه أو عدد تلك الدول، فمن المرجح أن العالم سيكون متعدد الأقطاب في شكله، أما من الناحية الداخلية فسيكون نظام دولي لا قطبية فيه، بسبب اشتراك مصالح القوى الصاعدة، وطبيعة التحالفات بينهما، والتي منها من يريد أن يزيح الهيمنة الأمريكية.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت